“كانت سنة 1964 سنة كبيسة، فمواليد ذلك العام تفتحت أعينهم، بعد ثلاث سنوات من صرختهم الأولى، على صرخة وطن مهزوم في صحراء سيناء، وتردد الصدى في دلتا الوادي وصعيد البلاد، وبقيت من هذا الوطن في الذاكرة، النوافذ المدهونة بالأزرق”.
“وجوه تطل من مرايا الروح” للشاعر عزمي عبد الوهاب، سيرة ذاتية تناولت 34 شخصية من المفكرين والأدباء والشعراء، يقدمها الكاتب في ما يشبه رحلته الفكرية منذ الصبا وحتى الكهولة، تأثرا بحبه الشخصي لهم وإجلاله لمنجزهم الفكري.
عزمي عبد الوهاب
عنوان الكتاب والعنوان الذي اختاره الكاتب للمقدمة، يوضحان الخط الواصل بين فصول الكتاب الستة، فالكاتب يقول تحت عنوان “أنا واحد من هؤلاء” الذي اخترنا منه المقدمة “أنا واحد من هؤلاء، الذين رأوا نعش جمال عبد الناصر الرمزي وجنازته الرمزية”، “أنا واحد من هؤلاء التلاميذ البائسين الذين حشدهم المدرسون لدعم السادات في مؤتمر جينيف”، “أنا واحد من هؤلاء الذين ساقهم مكتب التنسيق إلى كلية الآداب”.
يبدو الكاتب وكأنه يشرع في كتابه سيرته الذاتية من خلال إطلالته على تفاصيل الشخصيات التي أختارها، والتي بالضرورة أثرت بشكل أو بأخر على وعيه، في قراءة سلسة مزجت بين الشخصي والعام.
في الفصل الأول، وتحت عنوان “داخل سياق ما”، توجد الشخصية الأغرب في الكتاب ككل وهي الشخصية الوحيدة المجهولة، التي أطلق عليها الكاتب “الماركسي الصغير”. يقول عنه المؤلف: هو أحد أصدقاء الصبا، وهو صورة من صور التقلبات والتحولات التي عاينتها بنفسي، ومع ذلك هو جزء من تاريخي الشخصي.
تمضي قصة تحولات صديق الصبا، بين شخص يعيش في حجرة كتب على جدرانها “يا عمال العالم اتحدوا” ويعيش بين كتب ماركس وروزا لوكسمبرج، بعد أن كان شبلا في جماعة الإخوان، ثم يترك كل ذلك ليسافر إلى فرنسا، ويعود إلى مصر وقد اعتنق البوذية، وبعد حرق كل تلك المراحل، ينتهي إلى السلفية والجلباب القصير واللحية وبناء زاوية في بيت أبيه بالقرية التي يسكنها.
أسماء الشخصيات واختيار الفصل المناسب لها من قبل الكاتب، يبدو تقليديا بشكل ما، لكن تظل رؤيته الشخصية هي المحرك لاختيار الفصل المناسب للشخصية.
أكثر الفصول اتساقا مع الشخصيات الواقعة تحت عنوانه، هو الفصل السادس المعنون “نساء في وجه العاصفة”، وتندرج تحته أسماء مثل لطيفة الزيات، وفدوى طوقان، وفاطمة المرنيسي، وليلى عثمان. وكان يمكن لأسماء أخرى من النساء أن تجد منزلا لها بين فصول الكتاب، دون حاجة إلى فصل منفصل تحت تقسيم قائم على النوع.
تحت عنوان “لطيفة الزيات.. 13 عاما من ضياع القدرة على الاختيار”، يورد الكاتب ما روته لطيفة في كتابها “أوراق شخصية حملة تفتيش” عن حادثة فتح كوبري عباس على الطلبة عام 1946:
لطيفة الزيات
“وعلى شط النيل تجلس الفتاة التي وجدت الملاذ في الكل، تستر العري، عريها وعريهم، عرينا، تجلس ليلا وصبحا وضحا، حتى ينتهي الغواصون من مهمة انتشال الجثث، تلف بعلم مصر الأخضر جثة بعد جثة، تتسابق يداها وأيدي الآخرين، الكثير من الأيدي والجثث ترتفع كالأعلام عالية على أيدي العاشقين، وشجرة العشق حية لا تموت، ولا النحن، التي هي أنا، والنحن”.
ويقول الكاتب في تعليقه: وكأن لطيفة الزيات تفتح قوسين في كتابها، أحدهما يبدأ بهذا المشهد، والثاني ينتهي مع حملة سبتمبر1981، وتفتحه علي صرخات فزع وارتطامات في سجن النساء بشبين القناطر.
باقي الشخصيات الـ 34 التي اختارها الكاتب، قام بتقسيمها، بشكل مختلف في كل باب، فأحد الأبواب أتخذ عنوانه بناء على جنسية شخصياته، والأخر بناء على مرورهم بتجربة السجن أو الاغتيال، .. وهكذا.
ففي فصل “شعراء الحزن والموت المقيم” يستعرض الكاتب سير شخصيات صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، والأبنودي، ومحمود درويش، وصلاح جاهين، وعبد الوهاب البياتي.
وتحت عنوان “أيام صلاح جاهين الأخيرة في مرآة منى قطان”، اعتمد الكاتب على كتاب زوجة جاهين، مني القطان “أيام مع صلاح جاهين.. التداخل ونزيف الزمن”. كتب عبد الوهاب: كان جاهين كتوما، يعبر عن شكواه من خلال أعراض وآلام جسدية وفي يونيو 1985، قال في حوار معه: “أنا لا أعتقد أن علاقتي بالمرأة سليمة تماما، فقد كنت أتوقع منها دائما أن تكون مثل أمي في حنانها وتفهمها، وألا تكون مثلها في سلطتها وتملكها لي، وأعتقد أن الرغبة في حنان الأم والرغبة في التخلص من سطوتها مشاعر متناقضة صاحبتني في حياتي وفي علاقتي بالمرأة، فأنا أشعر أن المرأة لديها نزعة للسيطرة على الرجل باعتباره طفلها”.
صلاح جاهين
وفي فصل “مفكرون ونقاد في المعركة” كتب عن د. عبد العظيم أنيس، ود. حامد عمار، وسمير سرحان، ولويس عوض، ود.عبد الوهاب المسيري، وأحمد عباس صالح، ود.سيد عويس، ود.جلال أمين، ود.رؤوف عباس، ود. شكري عياد. وفي فصل “سير عربية صعبة” كتب عن إدوارد سعيد، وهشام شرابي، وكمال الصليبي، وحسين البرغوثي، وإحسان عباس.
وفي استعراضه لسيرة الكاتب فرج فودة الذي سقط صريعا بايدي الإرهاب، وصفه المؤلف بأنه كان وحيدا في مواجهة الإرهاب، ونقل عنه قوله وهو بين يدي الطبيب، ممزق الأحشاء، مهترئ الكبد، عقب جريمة الاعتداء عليه “يعلم الله أنني ما فعلت شيئا إلا من أجل وطني”، وكانت تلك الكلمات هي آخر ما قاله قبيل 6 ساعات من محاولات الأطباء إنقاذ جسده وروحه من رصاصات غادرة، هدفها الرئيسي إخراسه للأبد.
فرج فودة
ويضيف المؤلف: لأنه كان الأجرأ والأكثر شجاعة عن غيره من المثقفين المصريين، فقد جاهر بأفكاره صراحة بينما ناور الآخرون وراء أفكار غائمة هلامية، محتمين بغطاء سلطوي، وفرته لهم الدولة، في حين حرمته منه، فواجه عدوه مكشوف الصدر، بينما كان أؤلئك المثقفون، يعيدون طباعة الكتب القديمة، في سلسلة أطلقوا عليها اسم “المواجهة” لم ينشروا فيها كتابا واحدا لفرج فودة، رغم أنه كان في الصف الأمامي من تلك المواجهة.
الشهادة حول فودة احتضنها الفصل المعنون بـ “سنوات المصادرة والسجن والدم”، الذي روى أيضا سير كل من حسين مروة، ومهدي عامل، وعبد الله القصيمي، وفرج بيرقدار، ود. محمد أحمد خلف الله، وكلها شخصيات دفعت ثمنا فادحا جراء جرأتها في مكاشفة المجتمع بأفكارها.
ختاما، يمكن أن نوجز وصف فصول الكتاب، بما سطره الكاتب بيده في المقدمة: إنني مغرم بالتفاصيل الصغيرة، التي يسكنها الشيطان، فقد كان همي أن أبحث عن الجانب الخفي في حياة هؤلاء الكبار، وقد سجلوه بأنفسهم، كأن يتحدث العالم عبد العظيم أنيس عن تخلفه الدراسي ورسوبه في الابتدائية، ومعايرة زملائه الصغار لعيب خلقي في فمه، أو نري كيف كانت نحافة شيخ التربويين حامد عمار عاملا نفسيا مؤثرا بحث عن حل له في لندن”.