مختارات

في وداع «القنديل» الذي انطفأ

فجعنا برحيل أيقونة الإعلام المصرى والعربي «النبيل» حمدي قنديل، مساء الأربعاء الماضي (31 أكتوبر 2018) عن 82 عاما. أعلم أن وسائل «السوشيال ميديا» ساهمت بدرجة كبيرة فى تكثيف مشاعر الفرح أو الحزن الجماعية على صفحاتها، وأعلم أنها لعبت دورا كبيرا فى إشاعة هذه الحالة؛ لكن الحزن الكثيف الذى لف الوسط الصحفى والإعلامى بل الشارع المصرى كله اليومين الماضيين لم يكن مجرد انفجار شعورى ولا عاطفى عارم لفقدان عزيز أو رحيل غال. أبدا أبدا..

إنه طوفان الحزن النبيل على غياب «قيمة نبيلة»؛ تجسدت عبر مشوار طويل وحافل، مواقف وأحداث ورؤى، أداءات إعلامية بلغت الذروة فى الاحتراف والتمكن والرسوخ، وإطلالة على الشاشة الصغيرة بقدر ثقتها وتمكنها وحضورها، بقدر احترامها لنفسها أولا ولجمهورها ثانيا؛ إطلالة لم تتخل أبدا عن التمسك بما ينبغى التمسك به فى أى مهنة؛ الاحتراف.. إدراك القيمة.. أصالة التكوين.. وأخيرا معنى أن تكون محبا للوطن.

فى سنوات التليفزيون الذهبية، وفى ذورة صعود هذا الوجه الإعلامى اللافت، جسّد حمدى قنديل معنى وقيمة نجاح هذا الجهاز لاعتماده على أربعة معايير لم يتخل عنها آنذاك: أن يكون للدولة مشروع وطنى، وأن يتحلق حول رسالتها إجماع شعبى، وأن ينبع من رحم نهضة فكرية وثقافية وفنية، وأن يعمل بمستوى مهنى عال.

وأنا هنا أدعو كل أصيل ومهتم بالتعرف على صفحة ناصعة وأمينة من تاريخنا الإعلامى والثقافى إلى قراءة سيرة حمدى قنديل الذاتية «عشت مرتين» وهى واحدة من السير التوثيقية التأريخية ليس لها نظير؛ إنها شهادة رائد وصانع محتوى حقيقى، سجل بقلمه وعرقه وكفاحه تاريخ أهم أداة للإعلام المصرى فى زمن التحولات العاصفة منتصف القرن الماضى؛ «عشت مرتين» يحمل بين طياته صفحات رائعة عن تأسيس التلفزيون المصرى، والبث الفضائى العربى، وخبرة صناعة برنامجين من أهم البرامج؛ هما «قلم رصاص» و«رئيس تحرير».

حمدى قنديل ــ رحمه الله ــ لم أتشرف بلقائه ولا معرفته معرفة شخصية، لكنى مثل عشرات الآلاف الذين شاهدوا ظهوره المتمكن واستمعوا إلى نبرات صوته الواثقة وانجذبوا إلى كل ما كان يقدمه ويعرضه من أداء إعلامى عبر ظهوره وبرامجه التى صارت الآن من تاريخ إعلامنا «الذهبى» المنقضى، التاريخ الذى نباهى به ونفتخر ثم نمصمص شفاهنا ونتحسر على ساحات تسودها الرداءة والركاكة والانحطاط فى أبشع صوره وأردأ أشكاله.

كل قيمة حقيقية مثلها حمدى قنديل فى حياته وعبر مسيرته المهنية كتابة وظهورا انحسرت الآن ليحل محلها نقيضها؛ كان حمدى قنديل مثالا لدماثة الخلق وعفة اللسان ورصانة التعبير وهدوء النبرات.. فانظر حولك. ماذا جرى؟

كان حمدى قنديل نموذجا للأناقة الشكلية والتعبيرية، وكان ظهوره على الشاشة يعنى أن هناك ما يستحق البقاء أمامها للاستماع والنظر والمشاهدة. وكان ــ رحمه الله ــ من واقع مشاهدتى ومتابعتى لما قدم من برامج أو فى أحاديثه عبر حوارات أجريت خاصة فى السنوات التى سبقت مرضه، ممن يؤمنون سلوكا وقولا وفعلا بأن تكون الحياة محتملة بالنسبة إلى سائر البشر، على الأقل الحد الأدنى من الإنسانية؛ من تلبية الاحتياجات الروحية والمادية. كان مثل كثير من المناضلين الإنسانيين يعلم أننا نعيش فى عالم لا يسوده العدل، ومع ذلك فقد كان ممن يرى ضرورة العمل على جعل العيش فى هذه الحياة وعلى هذه الأرض «إمكانا محتملا»، إلى جعل العالم مكانا جميلا، يتآخى فيه البشر ويبدعون.

لقد أحببت هذا الرجل وتعلمت منه، وأدركت أن القيمة الحقيقية الأصيلة لا بد أن تبقى، وأن يتذكرها الناس، وأن يحزنوا كل هذا الحزن النبيل على غيابها (ولن أقول على فقدها.. فأنا دائما محكوم بالأمل مهما كان).

كلمتين وبس:

“نحن أمواج.. إذا استراحت.. تموت”.

(صائب التبريزي)

نقلا عن موقع “الشروق”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock