كان من الممكن للمار بشارع قصر النيل قرب ميدان طلعت حرب أن يلحظ مكتبة عتيقة لها باب ضيق اسمها مكتبة المستشرق.. وكان من الوارد أن يستسلم هذا المار لفضوله –إذا كان من محبي الكتب- وأن يمر من بابها إلى عالم رحب يحوي أكثر من أربعين ألف كتاب قيم، غير الخرائط والمخطوطات والتابلوهات النادرة.. لكن هذا الزائر كان سيصل بسهولة إلى قناعة مفادها أن أثمن ما تحويه هذه الجدران الأربعة إنسانها الرائع حسن كامي الذي غادرنا صباح الجمعة الماضية إلى عالم يليق به أكثر.. عالم النقاء الكامل والجزاء الأوفى حيث الأحبّة دائما في الانتظار.
ليس من المستحب أن يطغى الإنساني أو الشخصي على الجانب الفني، خاصة إذا كان الحديث عن فنان بحجم كامي، جابت شهرته الآفاق وفتن به جمهور الأوبرا في أركان الأرض الأربعة.. فلنحو أربعة عقود ظل كامي يؤدي أدوار البطولة على أكبر مسارح الأوبرا في أوروبا وأمريكا حتى بلغ مجموع هذه العروض مئتين وسبعين عرضا أوبراليا- لكن الجوانب الإنسانية في حياة كامي لا يمكن الالتفات عنها؛ وإلا كان ذلك انتقاصا فادحا من حق الرجل.
أنا “إنريكو كاروسو” العرب واعتبروا ذلك وعدا، قالها الشاب الوسيم بإصرار بالغ، لم تكن هناك قوة في الأرض تستطيع أن تثنيه عن تحقيق ذلك الحلم، قبل أن يكون الفتى “حسن” قريبا من درجة الإجادة في الغناء الأوبرالي كان يؤكد لمن يعرفونه أنه سيقف ذات يوم على مسرح أوبرا متروبوليتان بنيويورك مؤديا أدوار البطولة.
كامي لم يكتف بتحقيق ذلك بل ذهب إلى ما هو أبعد، فعلى مسرح أوبرا سيدني باستراليا كانت له صولات وجولات، وفي فيرونا بإيطاليا مهد الأوبرا؛ كُرّم واحدا من أفضل خمس مطربين في العالم.
يتذكر كامي كم كان صوته قبيحا عندما ذهب لاختبار أصوات لأول مرة، لكن وجود أحد مكتشفي المواهب الإيطاليين كشف بخبرته قابلية هذا الصوت للتفوق في الغناء الأوبرالي، حتى أنه عرض عليه دعما ماديا لتلقي دروس في الغناء-لم تكن أحوال أسرة كامي المادية متيسرة آنذاك-، رفض الفتى العرض بأدب وقرر أن يتلقى الدروس على حسابه مما اضطره للعمل في عدة وظائف صغيرة، لكن سرعان ما فتحت له مواهبه ووسامته ولباقته وإتقانه لعدة لغات الأبواب ليصل مرتبه إلى ستين جنيها. كان قد أنهى دراسته للقانون بالجامعة المصرية، وتنقل بين عدة وظائف في وكالات السفر ومديرا لمكاتب خطوط جوية بقلب القاهرة، حتى استقر به المقام مديرا لمكتب خطوط طيران الشرق الأوسط، وبعد عدة محاولات استطاع كامي اقناع رؤسائه بنقله للعمل بمكتب الشركة في مطار روما.
سنوات العمل في إيطاليا كانت للدراسة الجادة التي وصلت بـ “كامي” إلى درجة الإجادة فوقع اختيار مايسترو بلغاري عليه ليغني مقطوعة من أعمال بيتهوفن.. كان أداؤه متميزا لدرجة أن الصحف خرجت بعد العرض بعناوين تدور حول “قنبلة أوبرالية مصرية اسمها حسن كامي“.. ورغم ذلك كانت العودة إلى القاهرة قرارا لا رجعة فيه برغم كل المغريات، فالحياة بعيدا عن مصر لا تحتمل.. والفتى “حسن” من عشاقها، وكان يردد دائما: “أنا في حب مصر درويش من دراويشها، وأتمنى أخدمها بعيوني في أي مجال لكنني أفضل أن أخدمها في ما أفهم فيه وهي مجالات الفن والثقافة والسياحة”.
لنحو أربع سنوات وقف كامي على مسارح الأوبرا في الولايات المتحدة، وقدم أروع العروض، لكن الحنين يعود به إلى مصر مطلع عام 1967، ليحقق حلمه بشراء مكتبة المستشرق التي كان أحد زبائنها، ولم يهمه أن يدفع فيها كل ما كسبه، ورضي أن يظل لعامين يدفع أقساطا لما تبقى عليه من ثمنها.. كان صاحبها “شارل بحري” قد رفض مرارا بيعها، لكنه هو من طلب من كامي شراءها وقد استشعر الخطر على ما بها من كتب وذخائر، بعد أن جاءه أحد الأشخاص عارضا عليه شراء المكان لتحويله إلى محل أحذية.. يقول الفنان: شعرت بمسئولية إنقاذ المكتبة من هذا المصير؛ لأنها جزء من تراث مصر.
كان فناننا العظيم يطمح أن تتحول “المستشرق” إلى مؤسسة ثقافية تقوم بدورها في إثراء دور مصر الثقافي في العالم بأسره، كان محزونا لأن مصر الحالية فشلت في إدراك قيمتها ودورها الثقافي ومدى عمق تأثيره في العالم، وكان يرى أن يد الإهمال المجرمة التي تسببت في حريق دار الأوبرا المصرية في أكتوبر 1971 هي ذات اليد التي أحرقت المجمع العلمي بالقاهرة عقب أحداث ثورة يناير 2011.
من أهم المحطات الفنية التي لا ينساها كامي وقوفه عام 1974 على خشبة أشهر مسارح الأوبرا في موسكو مؤديا دور البطولة في أوبرا “عايده”، وكان أول فنان مصري يحظى بهذا الشرف الرفيع، وللأسف لم يستطع فنان أوبرا مصري الوصول لتلك المكانة من بعده.
ظل كامي متربعا على عرشه إلى أن قرر هو بنفسه التنازل عن ذلك العرش في عام 2001، بعد أن قدم العرض رقم 440 لأوبرا عايدة، كان في هذا العرض في ذروة شاهقة لا تطال من روعة الأداء وجمال الصوت ورهافة الحس، حتى أن الجمهور ظل واقفا يصفق له لنحو عشر دقائق، في تلك اللحظة الفارقة قرر الاعتزال، فهو لم يشأ أن يغادر المسرح على صورة أقل من تلك الصورة الرائعة، ولم يرد لذهنه أن يحتفظ لجمهوره بغير هذه اللوحة الفاتنة التي ملؤها الإعجاب والحب.
لم يخف كامي إحساسه بالمرارة من قلة الاهتمام بفن الأوبرا في مصر، وكان يراها مهيّأة لدور رائد في هذا المجال ولا يرى مبررا لعدم الاكتراث، فالأوبرا فن شامل يشمل الغناء والاستعراض والدراما و التأليف الموسيقى والنحت والتصوير وغيرها من الفنون. كان يرى في نبذ فن الأوبرا على مدى عقود خمسة سابقة تعديا سافرا على تراث مصر الفني وذائقة شعبها ليصل بها الحال إلى ما نراه اليوم.
قدم الفنان حسن كامي للسينما والمسرح والتليفزيون أعمالا تجاوزت المئة وثلاثين عملا، أشهرها مسرحيات “انقلاب”، “دلع الهوانم”، “لا مؤاخذة يا منعم”، وفي السينما أفلام “جنون الحب”، “الحب والرعب”، “سمع هس”، “ناصر 56″، وفي الدراما التليفزيونية “رأفت الهجان”، “ألف ليلة وليلة”، “دموع صاحبة الجلالة”، “بوابة الحلواني”، “الملك فاروق”، وغيرها من أعمال هامة.
في ربيع عام 1988، وأثناء انشغاله بالتحضير لعروض أوبرالية على أشهر مسارح إيطاليا فقد الفنان حسن كامي ابنه الوحيد “شريف” الذي كان في الثامنة عشرة من عمره ويدرس بالجامعة الأمريكية- إثر حادث أليم، ما اضطر الفنان للعودة إلى مصر ليعاني بعدها من احتباس صوته لمدة عام بتأثير الحزن الشديد على وحيده، لكن وجود وزجته السيدة “نجوى” إلى جواره خفف عنه حزنه الذي كان كالجبل.وقصة حبه وزواجه من السيدة “نجوى” وإخلاصه ووفائه لها بعد رحيلها تحتاج أن يفرد لها مقال خاص بل مقالات.
رحل كامي بعد رحلة حافلة بالعطاء والحب والإبداع على مدى ثمانية عقود، لكن ذكراه ستبقى في القلوب وسيظل عمله الرائع المتقن في كل مجال شاهدا على ما حققه من إنجاز متفرد على كافة الأصعدة رغم ما صادفه من صعوبات وعوائق.
جنازة حسن كامي