رؤى

الأمير الأحمر رجل التناقضات.. وقائع حياة في ظلال الموت!

في مثل هذا اليوم من عام 1979، استطاعت عناصر تابعة لجهاز الموساد اغتيال القائد الفلسطيني علي حسن سلامة، المُلقب بالأمير الأحمر، في بيروت بتفجير سيارة ملغومة عن بعد أثناء مرور السيارة التي كان يستقلها أبو حسن، ما أسفر عن مقتله ومن معه، ومقتل عدد من المواطنين تصادف تواجدهم في شارع فردان بوسط العاصمة اللبنانية.

يحمل الشهيد علي حسن سلامة لقب رجل التناقضات باقتدار.. فهو الفتى الرياضي الوسيم بطل الكاراتيه، فاحش الثراء الذي تطارده أجمل الفتيات، الذي تزوج من ملكة جمال الكون عام1971، جورجينا رزق والتي كان قد تعرّف عليها عند لقائهما الأول في ضيافة بشير الجميل.

كما أنه رجل ياسر عرفات المقرّب الذي قاتل إلى جواره كتفا بكتف في معارك أيلول (سبتمبر) سنة 1970، وهو الذي كوّن بأمر مباشر من عرفات، القوة 17، التي عرفت بقوات الحرس الداخلي، وكان يحلو لعرفات تسميتها بـ “‘المنتمين إلى قيصر روما القديمة”.

في بيروت أثناء الحرب الأهلية
في بيروت أثناء الحرب الأهلية

وهو الرجل الذي حقق نجاحا غير مسبوقا عندما كُلف من قبل المنظمة بفتح قنوات اتصال مع الأمريكيين؛ لفضح المزاعم الصهيونية، وتفنيد كثير من الاكاذيب التي كان العدو يروج لها.. ويعتبر الأمير الأحمر، القائد الوحيد الذي احتفظ بعلاقات ودية مع كافة الأطراف في أشد أيام الحرب الأهلية اللبنانية حلكة؛ حتى أن قادة حزب الكتائب المتعاملين مع الصهاينة؛ على رأسهم بشير الجميل وكريم بقردوني، كانوا يحذرونه من المخططات الرامية إلى اغتياله على أيدي عناصر الموساد.

وعلي حسن سلامة هو الابن الوحيد للشيخ الشهيد حسن سلامة، أحد أبرز قادة النضال الفلسطيني ضد العصابات الصهيونية في الفترة من 1936– 1948، وقد اضطر الشيخ لمغادرة فلسطين عام 1941، بسبب مطاردة القوات البريطانية له؛ فلجأ إلى العراق واستقر هناك للتدريب وانخرط في صفوف الجيش العراقي.. ورزقه الله بولده علي في بغداد في نفس العام، قبل انتقاله إلى بيروت عام 1945، والتي قضى بها سنوات، قرر بعدها العودة إلى فلسطين حيث استشهد في معركة رأس العين في الأول من يونيو 1948، وبعد قيام الثورة المصرية عام 1952، انتقلت أسرة الشيخ سلامة إلى مصر للإقامة بها.

مع عرفات في معركة أيلول
مع عرفات في معركة أيلول

قضى بطلنا في مصر نحوا من اثني عشر عاما.. تعلّم في مدارسها ودرس في جامعة القاهرة، ولم يغادرها إلا وهو في الثالثة والعشرين من عمره، متوجها إلى الكويت؛ حيث التحق هناك بحركة فتح عن طريق خالد الحسن (أبو السعيد) وكلّف علي بمسئولية دائرة التنظيم الشعبي في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يقع عليه الاختيار عام 1968، ضمن مجموعة من عشرة أشخاص؛ لحضور دورة أمنية في القاهرة.

بعد اجتيازه الدورة بنجاح، عمل علي حسن سلامة، نائبا لمفوض الرصد المركزي لحركة فتح صلاح خلف (أبو إياد) واستقر في العاصمة الأردنية؛ ليمارس مهامه النضالية؛ حتى خروجه إثر معارك أيلول؛ رفقة القائد ياسر عرفات مع اللجنة العربية العليا التي كانت مُكلّفة بالوساطة بين الأردن والفدائيين. ومنذ ذلك التاريخ  أصبح الرجل ظلا لأبي عمار ومكلفا بحراسته، وأول قائد للقوة 17.

استطاع أبو حسن تكوين شبكة علاقات واسعة من مختلف الجنسيات، ضمت رجال استخبارات من عدد من الأجهزة الأوروبية، بالإضافة لرجال الـ (CIA) الذين التقاهم في نيويورك، موفدا من المنظمة للتباحث مع الأمريكان حول سبل التعاون، وكشف خداع الصهاينة للأمريكيين، وهو ما كشفت عنه التقارير الأمريكية بعد ذلك من تورط الموساد في قتل عدد من رجال الاستخبارات الأمريكية في بيروت،  ويذكر أن جورج بوش الأب كان على رأس الجهاز آنذاك.

مع بيار الجميل وولده بشير في بيروت
مع بيار الجميل وولده بشير في بيروت

ربما يتصور البعض أن الأمير الأحمر كان رجل مفاوضات، وخبير علاقات دولية، يجيد إحداث التوازنات مع القوى ذات التأثير في الصراع العربي الصهيوني.. والحقيقة أن الرجل كان  كذلك بالفعل؛ إلا أنه لم يكن كذلك فقط. فلقد كان سلامة مخططا للعمليات التي استهدفت قتل ضابط الموساد زودامك أوفير في بروكسل، كما كان مسئولا عن عملية إرسال الطرود الناسفة من أمستردام إلى العديد من عملاء الموساد في العواصم الأوروبية؛ وذلك ردا على حملة نفذتها عناصر تابعة للموساد ضد قياديين فلسطينيين، و كان من بين من قتلوا بهذه الطرود ضابط الموساد أمير شيشوري في العاصمة البريطانية لندن.

 أما اشهر العمليات التي ارتبطت باسم سلامة، فكانت عملية ميونخ أثناء إقامة دورة الالعاب الأوليمبية 1972، وقد أسفرت العملية عن مقتل أحد عشر صهيونيا، واستشهاد خمسة من منفذي العملية.. بعد ذلك وضع اسم علي حسن سلامة على رأس لائحة الشطب في دوائر المخابرات الإسرائيلية. وصرّحت رئيسة وزراء الكيان آنذاك غولدا مائير قائلة: اعثروا على هذا الوحش واقتلوه!

بصحبة عرفات
بصحبة عرفات

يذكر أن الموساد أخفق في تنفيذ أمر مائير لأكثر من عشر مرات، كان بطلنا ينجو فيها من الموت في آخر لحظة.. إلى أن حانت لحظة استشهاده التي كان يعلم بقربها علم اليقين، وقد أسر بذلك إلى القائد أبي الطيب من القوة17.

يحكي أبو الطيب وقائع الاغتيال فيقول: “كانت سماء العاصمة اللبنانية صباح يوم الاثنين 22 / 1/ 1979، مُلبَّدة بغيوم ماطرة تتصارع مع أشعة الشمس التي تحاول أن تزرع الدفء عبثا في الأجواء، فلبنان في مثل هذه الأيام من فصل الشتاء يكون عرضة لموجات من البرد والصقيع، وربما هطول الثلج على المرتفعات الذي يبدأ موسمه قبيل أعياد الميلاد؛ ليستمر حتى نهاية الشهر الأول من كل عام.

وصل مرافقو سلامة، حوالي الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر في سيارتين أولاهما من طراز شيفروليه ستيشن، والثانية جيب من طراز لاندروفر، وعندما خرج أبو حسن من شقته، بعد مغادرة ضيفه جورج قازان ومن معه، هرع حارس الشقة ليفتح له باب المصعد.. وما أن أطل بطلعته المهيبة من باب المصعد، حتى ركض أحد مرافقيه إلى فتح باب سيارة الشيفروليه ليصعد إلى داخلها أبو حسن إلى جوار السائق، ثم يتبعه في المقعد الخلفي مرافقان آخران.. في حين صعد المرافقون الأربعة في سيارة المرافقة.. استغرق ذلك دقيقتين.. تحرك الموكب.. عبر شارع فردان وسط زحمة سير شبه مربكة.. كانت على جانب الرصيف سيارة الموت تنتظر.. سيارة من طراز فولكسفاغن من نوع جولف.. لم يكن وجودها بجانب الرصيف مثيرا لأي شبهة، فهي كغيرها من عشرات السيارات مصفوفة على جانب الرصيف، لقد كانت سيارة الموت محشوة بكمية كبيرة من المتفجرات (خمسين كيلو جراما) تكفي في حال انفجارها بتذكير المحيطين بنيران جهنم.. وما إن وصلت سيارة الشيفروليه بمحاذاة سيارة الفولكسفاغن؛ حتى دوى الانفجار الهائل تمام الساعة الثالثة وسبعة وثلاثين دقيقة من بعد ظهر ذلك اليوم المشئوم. وقد كان للقدر دوره في واقعة اغتيال الشهيد (أبو حسن)، حيث نجا مرافقوه الذين كانوا في السيارة الثانية بأعجوبة، وذلك عندما انعطفت بسيارتها سيدة بريطانية تدعى سوزان ويرهام تعمل في السفارة البريطانية ببيروت؛ لتفصل بين السيارة التي يستقلها الشهيد أبو حسن وسيارة المرافقين الثانية، وحين وقع الانفجار دمرت سيارة الشهيد أبو حسن وسيارة السيدة البريطانية، فيما نجا المرافقون في السيارة الثانية؟ وقد نعت السفارة البريطانية السيدة سوزان ويرهام في بيان قالت فيه إنها كانت في طريقها إلى منزلها عندما أودى بحياتها الانفجار حيث قتلت.

نُقل أبو حسن المثخن بالجراح ورفاقه الشهداء الأربعة وهم: الشهيد علي عيسى عبد الرزاق، والشهيد خليل أحمد حسين عوده، والشهيد جميل حسن الرمحي والشهيد بدر موسى زايد، إلى مستشفى الجامعة الأميركية، لكن روحه الطاهرة صعدت إلى السماء -كما ذكرت- لحظة وصولي إلى غرفة الطوارئ بعد أن رفرفت في أجواء بيروت وفلسطين لتعانق أرواح قوافل الشهداء الذين كانت أرواحهم تصطف في استقبال روحه”.

رحم الله الشهيد علي حسن سلامة، وكل شهدائنا على طريق تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.. وهو الطريق الذي لا يمر إلا عبر فوهة البندقية كما قال الشاعر العربي نزار قباني.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock