فن

رومانتيكا العنف والسخرية.. زكي فطين إرث الجمال المتناقض!

في مثل هذا اليوم من عام 1955، ولد الفنان زكي فطين عبد الوهاب، في أسرة فنية عريقة.. بين أمٍّ بلغت من التألق الفني والإبداعي مبلغا قلَّ نظيره، وكانت في ذات الوقت ابنة أحد أهم ملحني تاريخ الغناء المصري؛ إنها قيثارة الغناء العربي السيدة ليلى مراد- والأب هو المخرج فطين عبد الوهاب أحد أهم وأعظم مخرجي الأفلام الكوميدية في تاريخ السينما المصرية.. الخال أيضا هو منير مراد الذي مثّل علامة فارقة في الموسيقى المصرية، أما العم فهو سراج منير الفنان صاحب الأدوار الخالدة في تاريخنا السينمائي.

أجواء أسرية مثل تلك، كانت كفيلة بأن تخرج لنا فنانا كلاسيكيا، يتمثل خطا أفراد عائلته الموهوبين من أهل التألق والإبداع، ويسير على نهج العذوبة الفنية المتدفقة التي تؤهله للمرور الكريم عبر بوابة أبناء العاملين في الحقل الفني من أنصاف الموهوبين، وما أكثرهم! لكن زكي كان له رأي آخر.

تعجبت ليلى مراد ذات يوم من صوت زكي الأجش، قائلة: “أمعقول أن يكون صوت ابن ليلى مراد، على هذا النحو من البشاعة؟!”. ربما يكون هذا التناقض الفج هو سمة رئيسة تكشف لنا عن البُعد الأهم في شخصية الفنان الراحل الذي لم يتمتع بجمال صوت وصورة أمه – وإن ورث عنها رقيها الإنساني الفريد وتسامحها المطلق- ولا ورث عن فطين خفة ظله الفنية الرائعة، التي تجسدت في كوميديا خالدة مازالت تضحكنا إلى يومنا هذا، ولا أخذ عنه أيضا تلك الجدّية الحادة التي اصطبغت بها شخصيته.. ربما أخذ عن الوالد فقط، العشق الجنوني للتدخين الذي كان سببا في وفاة الاثنين في سن مبكرة نسبيا.

ثمة تناقض أيضا تجدر الإشارة إليه بين أسرة الأب ذات الأصول الريفية في دلتا مصر (دمياط) وما كانت عليه أسرة الأم من نمط حياة أقرب إلى النمط الأوروبي؛ خاصة بعد ارتباط الأخوال بأوروبيات (إيطاليات تحديدا).. كان زكي أمْيَلَ لأسرة أمه بما لديها من انفتاح وتعدد ثقافي، بينما كانت أسرة الوالد التي ورثت الصرامة عن الجد، أبعد عن قلبه وعقله، حتى أنه نَعَتَ أجواءها بعد ذلك بالكآبة وثقل الظل.

وبحسب ما ذُكر موثقا في مذكرات بعض من كانوا قريبين من الأسرة؛ رأت ليلى أن مجال الكومبيوتر هو المجال الذي يجب أن يتخصص فيه زكي، كان المجال جديدا آنذاك، وجذابا للشباب الباحث عن التغيير، المتمرد على الواقع.. لكن زكي لم يستطع تلبية هذه الرغبة للوالدة؛ ذلك لأن شغفا حقيقيا وقاهرا بفن السينما كان قد نما بداخله بالفعل.

التحق الشاب بالعهد العالي للسينما قسم إخراج، وتزوج وهو  في السنة النهائية من سعاد حسني.. كانت الزيجة على غير رغبة الوالدة أيضا، رغم حبها للسندريلا، إلا أنها لم تكن تراها تصلح زوجة لابنها.. ويبدو أن نهاية الزواج السريعة جاءت بتدبير محكم من الأم التي أرسلت زكي لأمريكا لاستكمال دراسته.

بعد العودة من الولايات المتحدة كان على زكي أن يبدأ رحلته مع الإخراج السينمائي؛ لكن شيئا من هذا لم يحدث، فقد كان التمثيل أكثر جاذبية بالنسبة له.. وجد المخرج يسري نصر الله ضالته المنشودة فيه، فمنحه دور الجد في فيلمه الأول، الذي حمل  سيرته الذاتية طفلا “سرقات صيفية” ثم البطولة المطلقة أمام الفنانة يسرا في فيلم “مرسيدس” بشخصية نوبي الشاب المضطرب الباحث عن الحقيقة خارج طبقته الأرستقراطية المنحطة أخلاقيا وإنسانيا.

مرسيدس

في مشواره الفني صحبنا زكي فطين عبد الوهاب في طرقٍ لا تحمل كثيرا من الوهج الفني؛ لكن الأثر الباقي لأدوار زكي السينمائية وفي الأعمال الدرامية؛ كان كـ “الكي” يبقى طويلا، ولا يمكن مَحْوه.. حتى عندما شعر بضرورة أن يكون هناك فيلما سينمائيا طويلا من إخراجه، كان فيلم “رومانتيكا” الذي يكشف عن جانب من سيرة زكي الذاتية – مثلا لذلك الاضطراب الشديد والمراوحة العبثية.. ترك زكي الفيلم دون أن يكمله، بعد خلاف شديد مع المنتجة مي مسحال التي سارعت بالاستعانة بعدد من الأصدقاء (الناقد سمير فريد والمونتير أحمد داود والمخرج سيد عماشة) لإنهاء الفيلم على أي صورة، ربما حفظا لماء الوجه أمام الجهة الأجنبية الممولة.. كان المتوقع أن يفشل الفيلم – بعد ما حدث- فشلا ذريعا؛ لكن المفاجأة أن الفيلم نجح نجاحا كبيرا، وحصد عشر جوائز في ثلاثة مهرجانات؛ لتستمر لعبة التناقض حاكمة ومسيطرة للمسيرة الفنية لمبدعنا الراحل.

رومانتيكا

من المنطقي أن يكون ذلك النجاح المفاجئ؛ دافعا للفنان على الاستمرارية، لكن زكي اكتفى بتلك التجربة في مجال الإخراج.. ثم عاد للظهور بعد ذلك في “بحب السيما” رائعة أسامة فوزي؛ وفي التجربة السينمائية الأخيرة للمبدعة أسماء البكري، فيلم “العنف والسخرية” عن قصة ألبير قصيري، عام 2004، وهو الفيلم الممنوع من العرض لتناوله شخصية الديكتاتور متمثلة في حاكم أحد المدن الساحلية؛ بسخرية لاذعة تنتهي بتحوله لشهيد بعد اغتياله بعبوة ناسفة استهدفت موكبه.. حظي الفيلم بقدر لا بأس به من هجوم النقاد الذين اتهموا البكري بالاستسهال، وترشيد الإنفاق على حساب جوانب أساسية في العمل الفني، ومغازلة الممول الأجنبي (مؤسسة الفرنكوفونية) ليخرج الفيلم -في نظر هؤلاء- مسخا بلا أدنى قيمة فنية تُذكر.. لكن ذلك لم يكن باعثا للفنان على اليأس؛ بل دافعا له على التخفف من تلك القيود السخيفة التي ينعتونها زورا بالذوق الفني، ويطلق المتربِّحون منها على أنفسهم صفة نُقّاد.

العنف والسخرية

عاد زكي للاختفاء عن الساحة الفنية لعدة سنوات؛ حتى أوشك ذكره الفني على الضياع في متاهة النسيان؛ لكنه ظهر وفاجأنا بدوره في الدراما التليفزيونية الشهيرة “أهل كايرو” في دور “عريس الغفلة” الذي تُقتل عروسه الفنانة الشهيرة؛ ذات العلاقات المتعددة، ليلة العُرس.. ثم دور مدرس اللغة العربية المولع بالعاهرات في مسلسل “دوران شبرا” وعدد من الأعمال الدرامية التي حصرته في دور رجل الأعمال الفاسد، أو السياسي المتسلق.

لقد صنع الفنان زكي فطين عبد الوهاب، حالة فنية فريدة بامتياز.. نرى فيها ذلك التميز الذي تنتجه بيئة فنية بالغة الثراء، مع روح متمردة تواقة لإبداع مختلف، وربما كان زكي فطين بمقاييس النجاح المتعارف عليها، فنانا عاديا أو أقل من العادي؛ لكن الراصد المدقق لمجمل المسيرة الفنية لهذا المبدع سيخلص إلى تلك الفرادة، وذلك الإبداع الذي لم يفارقه حتى في تلك الأعمال التي وصفت بأنها دون المستوى الفني.. فمن عدد من التناقضات صيغت موهبة زكي فطين؛ التي حملتها تجليات فنية لم تكن أبدا في مسارات سهلة أو تقليدية.. وهذا مما يصنع الفن الحقيقي.. والله أعلم.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock