كتب: أشرف الشريف
ترجمة: أحمد بركات
يأتي السلفيون ضمن قائمة أكبر الخاسرين السياسيين في مصر في حقبة ما بعد ثورة يناير 2011. وتتمثل خسائرهم الأساسية في تراجع هيمنتهم على الفضاء الديني وتراجع جاذبية تفردهم بالدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي القائم على التطهير العقدي الذي سيفضي إلى إصلاح المجتمع.
قبل عام 2011، كانت أفكار السلفيين ومناهجهم في الفكر الديني قد اكتسبت موقعا بارزا، وربما مهيمنا، في الإعلام المرئي والإلكتروني من حيث نسب المشاهدة والتقييمات؛ وذلك بسبب عدة عوامل من بينها التسامح النسبي لنظام مبارك والسياق الإقليمي الداعم لهم آنذاك. وغدا الدعاة السلفيون النموذج السائد للدعاة الدينيين في مصر والعالم العربي. إضافة إلى ذلك، تعرضت مؤسسات التعليم الديني التقليدية التي كانت لها مناهجها الخاصة، مثل الأزهر، للاختراق الفكري، فضلا عن اختراقها من قبل المعلمين والطلاب السلفيين. في هكذا سياق، لم يكن مفاجئا (خاصة في ضوء تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في الإدماج الأيديولوجي) أن يتمكن السلفيون من مد شرايين مهمة لهم حتى إلى داخل الجسد الإخواني، فيما أسماه حسام تمام “سلفنة الإخوان”.
كان الإنجاز الأكبر للسلفيين في العقود التي سبقت عام 2011 هو الربط المباشر بين المدرسة النصية في التراث العقائدي والفقهي من جانب، ومناهجهم الخاصة في التغيير التي خلًفت تأثيرا ثقافيا وسلوكيا واجتماعيا ونفسيا عميقا من جانب آخر. لكن هذا الربط تراجع إلى درجة كبيرة بعد عام 2011 بسبب الحسابات السياسية الخاطئة ،والسطحية الفكرية ، والتناقض الأيديولوجي.
تجلت نتائج هذه الهيمنة الأيديولوجية السلفية التي سبقت عام 2011 بعد اندلاع الثورة عندما تعمق تأثير السلفيين، سواء كأعضاء في حزب النور، أو كأعضاء ( متسلفين ) في جماعة الإخوان المسلمين، إلى درجة أسهمت في فرض أيديولوجيتهم المحافظة على الفضاء الإسلاموي في الفترة بين عامي 2011 و2013 التي شهدت نقاشات حول الدستور الجديد والنظام السياسي والهوية الوطنية والحريات والحقوق. في هذا السياق، وجدت جماعة الإخوان المسلمين نفسها مضطرة إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددا حتى لا تخسر صورتها أمام سائر التيارات الإسلامية.
وبرغم قوة الضغط السلفي على جماعة الإخوان المسلمين وفاعليته، كانت هناك مشاكل عديدة تقض مضجع السلفيين أنفسهم. على سبيل المثال، أدى اختفاء الركائز المرجعية الرئيسة من برنامج الحزب – بسبب التشرذم المؤسسي، والصراعات الشخصية ،وعدم القدرة على مواجهة الانتقادات الجادة التي يثيرها العلمانيون الليبراليون والمنافسون الدينيون الآخرون، مثل الصوفيين الجدد، والديمقراطيين الإسلاميين ، والأشعريين المستقلين والمنتسبين إلى الأزهر، ودعاة الحداثة الإسلامية – إلى إضعاف قدرة الحركة على الاحتفاظ بهذا التماهي مع التراث في ضوء مناهجهم ومماراساتهم الفعلية.
وفي حقبة ما بعد 2011، تحولت السياسات السلفية إلى عقبة كؤود أمام كل من الإسلاميين والديمقراطيين الليبراليين على السواء. فقد كان موقفهم المتشدد من مسألة تطبيق الشريعة- سواء في المشاورات البرلمانية أو الدستورية، أو كوسيلة لحشد الشارع والدعاية الإعلامية – وبالا على وحدة الصف ، وغدا الإجماع أو حتى التوافق على قواعد اللعبة السياسية الجديدة أمرا بعيد المنال، وأدى هاجس سياسات (الهوية ) إلى حدوث شروخ عميقة في الطيف السياسي. وثارت مخاوف نخب اجتماعية مؤثرة وشرائح شعبية مهمة من المخاطر التي يفرضها تأثير السلفيين المحتمل على الحريات الخاصة ،ونمط الحياة الاجتماعية والوحدة الوطنية. وسكبت خطبهم المذهبية النارية – سواء ضد غير المسلمين، أو ضد المسلمين غير السلفيين – وخصوص خطب علمائهم وسياسييهم في البرلمان ووسائل الإعلام والمجال العام مزيدا من الوقود على النار.
ياسر برهامي خيرت الشاطر محمد سعيد رسلان
وفي قت معين أصبح لزاما على جماعة الإخوان المسلمين أن تختار بين الانحياز إلى معسكر شركاء المعارضة السابقين في حقبة ما قبل عام 2011 من الليبراليين والقوميين، أو الانحياز إلى معسكر السلفيين؛ ووقع اختيار الجماعة على المعسكر الثاني. كان هذ الخيار منطقيا على المستوى التكتيكي لأن الجماعة خشيت منافسة السلفيين من جانب، وآثرت الاستفادة من الشراكة معهم في ضوء الشعبية الكبيرة التي كان يجذبها الخطاب السلفي، ليس فقط من أنصار السلفيين الذين ترغب جماعة الإخوان في الحصول على أصواتهم الانتخابية أو من الجماهير المتدينة بوجه عام، وإنما من قواعد وقيادات الجماعة نفسها.
ومع ذلك، حملت هذه الشراكة نتائج كارثية على الجماعة التي وجدت نفسها عاجزة عن تسيير عملية انتقال ديمقراطي سلسة، وهو ما أودى بها إلى خسارة ثقة الجميع، ما مهد الطريق، خاصة مع حالة الفوضى التي تفشت في فترة حكم الإخوان، أمام الإطاحة بحكمهم في منتصف العام 2013 عقب تزايد المخاوف لدى مؤسسات الدولة والنخب السياسية من تهديدات الإسلاميين وديمقراطيتهم الوليدة التي بدت فوضوية وعبثية.
تراجع تأثير السلفيين أيضا بعد أن تراجع دعمهم إقليميا ودوليا بسبب اختلاف الأولويات السياسية لدى الأنظمة الحاكمة – خاصة في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – اللتين تعتبران السلفيين -الآن – من بين عوامل التطرف الراديكالي وعدم الاستقرار، بعد أن كانتا تعتبرهما قوة شرعية.
كانت خسارة السلفيين لدعم هذه القوى الخارجية سببا محوريا في تقويض نفوذهم، خاصة في ضوء عدم امتلاكهم مراكز دعم اقتصادية أو سياسية أو تنظيمية مستقلة، مثل التي تتمتع بها جماعة الإخوان المسلمين. على إثر ذلك تفشت الانقسامات بين السلفيين المصريين، وتناقضت انحيازاتهم في أعقاب مواجهة عام 2013 بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين. وهيأت هذه الانقسامات الداخلية مناخا غير مسبوق من العداوات والمشاحنات. وإلى جانب هذه الانقسامات، وجد السلفيون أنفسهم أيضا تحت ضغط ضرورة ملحة لإجراء مراجعات أيديولوجية لتعويض خسائرهم في رأس المال الاجتماعي. وبسبب المسار الذي اختاروه، سيجد السلفيون أنفسهم مجبرين على تبني مناهج جديدة إضافة إلى مذهب جديد أيضا.
وبرغم النشاط اللافت أخيرا لجماعات سلفية جهادية في شبه جزيرة سيناء والصحراء الغربية، فقدت منهجية الجهاد السلفي في التغيير عبر القتال جاذبيتها التاريخية. يرجع ذلك إلى عوامل كثيرة، من بينها الرفض المجتمعي، واستنكار العلماء والمؤسسات الدينية للأفكار الجهادية بعد عقود من التردد والازدواجية، واستخدام هذا الفكر من قبل تنظيم الدولة الإسلامية كآلة للقتل والعدمية المقيتة التي أفضت إلى الدمار والفوضى والحروب الأهلية.
وبسبب تجمع هذه العناصر، فقد الفكر الجهادي مصداقيته التي كان يتمتع بها حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي كوسيلة فاعلة محتملة للتغيير السياسي والاجتماعي. ربما لا يزال الجهاديون باقون، لكن فقط كقوة هامشية لا تترعرع سوى في الدول الفاشلة ومناطق الصراعات المسلحة ومواطن المواجهات الطائفية المباشرة بين السنة والشيعة والمجتمعات الأوربية التي تضم أقليات مسلمة. كما أن الجهاديين – لا سيما ممن انضموا مؤخرا إلى التيارات الجهادية – لا يخضعون لأي سيطرة من قبل أي جهة، حتى من الإسلاميين أنفسهم. وينحصر دور الجهاديين في الوقت الراهن في دور ’صانع المتاعب المستمر‘، لكنهم ليسوا منافس حقيقي على السلطة، وهو ما لا يتفق بحال مع علة وجود الإسلام السياسي، الذي ينظر إليه جموع الإسلاميين كحل مستقبلي .