رؤى

من وحش مرعب إلى جماعة متمردة: سقطت داعش ولم تُهزم

*دانيال دي بيتريس- محلل سياسي أمريكي

* ترجمة وعرض أحمد بركات

بعد عمليات عسكرية استمرت على مدى شهرين في قرية «الباغوز» الحدودية السورية الوعرة، أعلنت أخيرا قوات سوريا الديمقراطية (الكردية) المدعومة أمريكيا الخبر الذي طالما انتظره العالم، وهو أن دولة الخلافة التي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» قيامها في منتصف عام 2014 قد دخلت متحف التاريخ.

المؤكد أن عمليات التطهير النهائية التي قامت بها قوات سوريا الديمقراطية في آخر المعاقل التي كان يهيمن عليها تنظيم الدولة في العراق وسوريا، قد نزلت بردا وسلاما على ملايين العراقيين والسوريين الذين رزحوا قرابة الخمس سنوات تحت نير الوحشية والتطرف الديني الداعشي.

لحظة الخلاص

وعلى إثر ذلك انبرت الحكومات في جميع أنحاء العالم  للاحتفاء بـ «لحظة الخلاص» تلك، وبينما لا يُستبعد أن ينسب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الفضل كله فيما جرى لنفسه، أصدرت رئيسة الوزراء البريطانية، تريزا ماي، بيانا وصفت فيه استعادة  بلدة الباغوز بأنها علامة تاريخية فارقة. كما بعث وزير الخارجية الألماني «هيكو ماس»، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتهنئتهما للقوات الموجودة على الأرض.

وقد توج المقاتلون الأكراد، الذين قاموا بالدور الأكبر في العمليات القتالية، وتكبدوا القدر الأكبر من الخسائر البشرية، نجاحاتهم بطرق استعراضية، انتهت باستعراض عسكري ضخم على أنغام الموسيقى.

في مقدمة مقالة له بعنوان «السر الأسوأ  الذي لم تبح به واشنطن: الدولة الإسلامية لم تهزم» يقول دانيال دي بيتريس «المحلل السياسي الأمريكي وزميل منظمة» أولويات الدفاع «الأمريكية» إنه لا يمكن لأحد أن يلوم هذه الأطراف على احتفائها بالنجاح الذي تحقق على الأرض؛ إذ لم يكن الطريق بين إعلان قيام دولة الخلافة وهزيمتها قصيرا ولا معبدا، شأنه شأن الطريق إلى قرية «الباغوز». فقد استمرت المعارك على مدى أربعة أعوام ونصف العام، وتطلبت تضحيات كبرى من الجنود العراقيين والميليشيات والمقاتلين الأكراد ممن كانوا في خطوط المواجهة الأمامية. وقد كلفت هذه المعركة هؤلاء الجنود عشرات الآلاف من الأرواح، وتكبدت قوات مكافحة الإرهاب العراقية وحدها خسائر بلغت 40 في المائة من قوامها خلال معركة الموصل في عام 2017، وهي أكثر المعارك الحضرية شراسة منذ اقتحام القوات الأمريكية  لمدينة الفلوجة قبل ذلك بأكثر من عشر سنوات. إضافة إلى ذلك، كان هناك  أبناء الأقليات الأثنية في كل من العراق وسوريا الذين عانوا ويلات السجن والنفي والتعذيب والقتل، فضلا عن بيعهم في أسواق العبودية الجنسية. وبالنسبة لكل هؤلاء، لم يكن سقوط خلافة داعش سريعا بالدرجة الكافية.

يشير بيتريس في مقالته  إلى أنه في صيف 2014، كان تنظيم الدولة الإسلامية أشبه بوحش عملاق يثير الرعب في جميع أرجاء العالم. وفي هذا الوقت، كان مسلحو التنظيم يكتسحون وحدات كاملة من الجيش العراقي في غضون أيام ويبسطون هيمنتهم بسرعة مخيفة على المدن والمواقع العراقية الأكثر أهمية. وقد جرى تحميل مقاطع فيديو بمهنية عالية تصوّر مشاهد قطع رؤوس، بما في ذلك ضد العديد من الأمريكيين، ونشرها في العديد من الشبكات الإخبارية الأمريكية. كما ظهر مقاتلو  داعش بأقنعتهم السوداء على شواطئ ليبيا يهددون بتمديد ساحة المعركة إلى قلب روما.

من وحش مرعب إلى مجرد جماعة متمردة.

لم يعد هذ التنظيم الآن سوى جماعة إرهابية ضمن جماعات عديدة تستوطن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا، ولم تعد دولته التي كانت تمتد على مسافة 34 ألف ميل مربع سوى أثر بعد عين، وتحول بعض مقاتليه ،الذين طالما أثاروا الذعر والبؤس في مناطق عديدة من العالم إلى مجرد أسرى في مواقع احتجاز مؤقتة. ويجري حاليا احتجاز عشرات الآلاف من مقاتليه الأجانب الذين تركوا حيواتهم في الولايات المتحدة وأوربا وآسيا ليعيشوا في دولة الخلافة، في مناطق محايدة بعد أن وسمتهم حكوماتهم بالخيانة.

تنظيم الدولة تم تعطيله لكنه لم يخرج من اللعبة

ورغم ذلك، يؤكد بيتريس أنه «سيكون خطأ جسيما إدعاء أن الدمار المادي الذي لحق بدولة الخلافة في سوريا والعراق يعني انتهاء تنظيم الدولة الإسلامية كحركة إرهابية»، ويستشهد على ذلك بتقديرات وكالة الاستخبارات الأمريكية، وشهادات أعضائها أمام الكونجرس، وهو ما يعني أن تنظيم الدولة تم تعطيله حتى إشعار آخر، لكنه لم يخرج من اللعبة.

إن تحول تنظيم الدولة من شبه دولة إلى جماعة متمردة غير مرئية نسبيا يجري حاليا على قدم وساق. فحسب تقديرات الأمم المتحدة، يمكن أن يكون هناك الآن ما بين 20 إلى 30 ألف مقاتل من داعش يهيمون في القرى والصحاري والسهول في العراق وسوريا، كما أن البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) أقر في تقارير سابقة بأنه لا يستطيع أن يؤكد  على وجه اليقين، عدد المسلحين الذين ما زالوا ضمن صفوف التنظيم.

وعلى غرار أسلافهم الإرهابيين الذين اختفوا تحت الأرض لفترة من الزمن، ووظفوا نقاط الضعف في الحكومة العراقية لخدمة مصالحهم، فإن تنظيم الدولة سيتبع الاستراتيجية ذاتها  خلال الشهور والسنوات القادمة، ليظل حاضرا في المعادلة السياسية الإقليمية والعالمية. وإذا أخذنا في الاعتبار الفترة التي امتدت على مدى ما يزيد عن أربع سنوات منذ إعلان قيام دولة الخلافة حتى إعلان سقوطها، فإن تجنيد سوريين وعراقيين لخدمة القضية الداعشية لا يزال يستعصي على الفهم.

الاستراتيجية الأمريكية ضد داعش وحدودها

ويضيف كاتب المقال: «كانت المعادلة التي وضعتها مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية تقضي بضرورة بقاء قوات أمريكية في سوريا والعراق في المستقبل المنظور، بسبب وجود كثيرين من المتعاطفين مع تنظيم الدولة على قيد الحياة». ووفقا لهذه المعادلة فإنه في حال انسحاب هذه القوات من شمال شرق سوريا، أو تقليل أعدادها في الأراضي العراقية المجاورة، فإن ذلك سيمنح تنظيم الدولة مهلة في وقت يجب فيه ممارسة الضغط عليه إلى أقصى درجة. لكن المفاجأة وقعت منذ شهر  ونصف الشهر فقط عندما أعلن الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأمريكية، في منتصف فبراير الماضي خلافه مع مشروع انسحاب القوات الأمريكية بعد القضاء على تنظيم الدولة، وفقا لقرار الرئيس الأمريكي في ديسمبر الماضي لأن «الجماعة الإرهابية أبعد ما تكون عن الهزيمة».

هل ترغب واشنطن حقا في إقناع الاطراف المتنازعة بتجاهل خلافاتها الاثنية والمذهبية؟

وبغض النظر عن دواعي الحذر والحيطة التي يلفت إليها أكبر قائد عسكري أمريكي في الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة، كما يقول «بيتريس» لا تملك في واقع الأمر الكثير مما يمكنها القيام به لمنع عودة ظهور الجماعات الإرهابية بوجه عام، وتنظيم الدولة على وجه التحديد.. فالقوات الأمريكية لا يمكنها، على سبيل المثال، أن تصدر أوامرها إلى الحكومة العراقية في بغداد بالتوقف عن معاملة مواطنيها السنة كمتعاطفين مع الإرهاب، أو كأعداء يتحينون الفرصة لاجتياح العاصمة للقضاء على الحكم الشيعي وإقامة حكم سني على أنقاضه. كما أن هذه القوات لا يمكنها إقناع نظام بشار الأسد المنتصر عسكريا  ،بالتعاون مع عملية سياسية مجمدة بقيادة الأمم المتحدة، أو الانخراط مع الخصوم السياسيين لصياغة دستور جديد للبلاد، أو الموافقة على إجراء انتخابات بإشراف دولي. كما أنها لا تملك القوة أو القدرة على مواجهة عقود من العداء الإثني بين الحكومة التركية في أنقرة، والأكراد السوريين الذين ينظرون إلى الجيش التركي باعتباره تهديدا سافرا لوجودهم.

ولا تستطيع القوات الأمريكية أيضا أن تجبر نظراءها في قوات الأمن العراقية على التوقف عن عمليات التطهير الشاملة في الأحياء والضواحي السنية، حيث يجري اعتقال الشباب السني على أسس واهية، وأحيانا بدون أدلة على الإطلاق. بعبارة أخرى لا تستطيع القوات العسكرية الأمريكية معالجة الأسباب الجوهرية التي يعتاش عليها تنظيم الدولة، مثل تفشي الفساد المنهجي في أوصال أنظمة الحكم وأجهزة الدولة، والفشل الذريع في تقديم الخدمات العامة، وتوحش الأجهزة الأمنية، وتضخم البيروقراطيات التي تحولت إلى ما يشبه برامج لتوفير وظائف لأهل الثقة على حساب المصلحة العامة للمجتمع ككل، وتوظيف القادة السياسيين للمذهبية الطائفية والتعددية الإثنية لخدمة أهداف استمرارهم في السلطة.

تستطيع إدارة ترامب نظريا نشر مليوني جندي أمريكي في منطقة الشرق الأوسط إلى أجل غير مسمى، لكن تأثيرها سيظل هامشيا في مواجهة المشكلات الكبرى التي تكاد تعصف باستقرار المنطقة. وفي ضوء ذلك يصف «بيتريس» بقاء قوات أمريكية في قواعد عسكرية بطول الشريط الحدودي بين العراق وسوريا إلى أجل غير مسمى بأنه يشبه وصف المسكنات كعلاج للأورام ،فقد يجد المريض راحة فورية بعد تعاطيها، لكنها لا تجدي في منع الورم من التفشي.

خلاصة

ويخلص «بيتريس» في مقالته إلى أنه «ربما نجحت العمليات العسكرية في الإطاحة بدولة الخلافة من على الخريطة، لكن احتمالات استبدالها سريعا بنظام أكثر تطرفا، من حيث القمع السياسي والهيمنة الاجتماعية، لا تزال قائمة بقوة إذا استمر السياسيون في المنطقة في تجاهل الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تغذي مشاعر اليأس والغضب، التي عادة ما تفضي بدورها إلى عودة التنظيمات الإرهابية.

*يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock