مع تغوّل جماعات الإسلام السياسي، وظهور تنظيمات إرهابية، كان من أبرزها تنظيم داعش، بدت الحاجة ماسة إلى فتح ملفّ تجديد الخطاب الديني، وإصلاح مؤسسة الأزهر إصلاحًا جذريا للاضطلاع بمهام تجديد وتطوير الخطاب الديني؛ لمواجهة أفكار هذه الجماعات. فقد أدت المغالطات الفكرية لهذه الجماعات إلى تشويه صورة الإسلام كدين سماوي، إذ استغلّوا نصوصاُ مشكوكاُ فيها أو مقتطعة من سياقها أو قاموا بتأويلها عنوة لتبرير جرائمهم، عبر عشرات التفاسير والآراء والفتاوى التي تزخر بها المدوّنات الفقهية، التي صنّفها السابقون منذ قرون. ومن هنا، كان الأزهر في بؤرة الحدَث، باعتباره المؤسسة الدينية المنوط بها، بحكم الدستور والعُرف والرغبة الجمعية، تطوير وتحديث الفكر الديني.
عادة ما تظهر المؤسسات الكبيرة العريقة، كما هو الحال مع الأزهر، نوعا من الاستعصاء على التغيير والتجديد مقارنة بغيرها، وتبدو هذه الحقيقة كأنها أحد قوانين الاجتماع والعمران البشري. فتاريخيا بدا أن غالبية علماء الأزهر كانوا يتململون من أي دعوة إلى التجديد، ومجابهة الجمود، حيث أسهموا – في بعض الأحيان – في تبديد جهود الإصلاح التي كانت تتبدّى بين آن وآخر، حتى إذا ما كانت من جانب طائفة من علماء الأزهر ومصلحيه، الذين لا يمكن نعتهم بالافتقار لأصول العلوم الإسلامية وضوابط تجديدها.
عملت هذه الطائفة على إحباط كلّ مصلح مثلما فعلوا من قبل مع الجهود الإصلاحية للإمام محمد عبده، الذي أنحى باللائمة على بعض الفقهاء الذين وصفهم بأنهم: «يقرءون الأصولَ، ولا يخطر ببال أحدٍ منهم أن يُرجعَ فرعا من هذه الكتب إلى أصله، أو يبحثَ عن دليله، بل لم يخجلوا أن يقولوا: نحن مقلِّدون، لا يلزمنا النظرَ في الكتاب والسنة، دانُوا لكتب المتقدمين على تعارضها وتناقضها الذي تشتَّت به شملُ الأمة».
الأمام محمد عبده
وفي موضع آخر يقول الإمام: «إنَّ نفسي توجّهت إلى إصلاح الأزهر، منذ كنت مُجاوِرًا فيه بعد التلقِّي عن السيد جمال الدين، وقد شرعتُ في ذلك فحِيل بيني وبينه»، ثم يواصل: «حاولتُ إقناعَ الشيخِ محمد الأنبابي – شيخ الأزهر – بشيء، فلم يصادف قبولا، قلتُ له مرة: هل لك أيها الأستاذُ أن تأمرَ بتدريس مقدمةِ ابنِ خلدون في الأزهر؟، ووصفتُ له من فوائدِها ما شاء الله أنْ أصفَ، فقال: إنَّ العادة لم تجرِ بذلك، فسألته: منذ كم سنة مات الأشموني والصبَّان؟.. قال: منذُ كذا، قلت: إنهما حديثا عهد بوفاة، وهذه كتبهما تُقرأ بعد أن لم تجر العادة بذلك. فسكت».
ومن يومها سكت شيوخ الأزهر عن تعديل مناهجه وتحريرها، وهو ما يخالف رُوح الإسلام وعبقريته. فمشكلةُ الأزهرِ هي التقليدُ والجمودُ، وما خطوات التجديد التي حاول ويحاول الأزهرُ إقرارها سوى تجديدٍ ظاهريٍّ، لا ينفذ إلى اللُّبّ الذي يعني تحرير الدين من الدَّخيل واللامعقول.
ضاعت جهودُ إصلاحِ مناهج الأزهر بعد ذلك، عبرَ عقودٍ. فمنذ عهدِ الرئيسِ جـمال عبد الناصر، حين تم إنشاء كليات أزهرية حديثة كالطب والهندسة والصيدلة وغيرها، وصدر القانون 103 لسنة 1961م بشأن تنظيم الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية، لم ينتبه أحد إلى أنَّ بعض المدرسين والطلاب في الأزهر ذوو ميول إخوانية، والبعض الآخر غير مدرك لمخاطر خلطهم للدين بالسياسة وتمييز أنفسهم عن غيرهم من المسلمين.
جمال عبد الناصر
أما في عـهد الرئيس أنور السادات فقد استُخدِم الأزهر – كما استخدمت الجماعات الإسلامية – كأداة لمحاربة الناصريين والشيوعيين ممن اعتقد السادات أنهم يقفون في وجه دولته لحساب الناصـرية؛ وساعد في ذلك المرحوم الشيخ عبد الحليم محمود الذي تولَّى المشيخة منذ عام 1973 حتى وفاته في عام 1978. ففي عهده تم التوسّع في التعليم الأزهريِّ بشكلٍ غيرِ مدروسٍ، فجُمعت التبرعات ووُجّهَت الأموال القادمة من الخليج لبناء المزيد من المعاهدَ الأزهريةٍ في قرى الدلتا (الشرقية خصوصا) والصعيد، (سوهاج تخصيصا). كما ُسمح لطلاب الإعدادية العامة من دفعتي 75 و 76، ممن لم يتجاوز مجموعُهُم وقتذاك مئة وأربعين درجة بالالتحاق بالأزهر، ولم يكن هؤلاء الطلاب بمستوى جيد يستأهلون به الالتحاق بالأزهر، كما لم يكن طالبٌ منهم يحفظُ جزءًا واحدًا من القرآن، بل إنه سُمح لطلاب الثانوية العامة الراسبين بالالتحاق بجامعة الأزهر بعد حصولهم على سنة تمهيدية يدرسون فيها مناهج الأزهر الدينية.
أنور السادات
وفي عهد الرئيسِ الأسبق حسني مبارك، والذي بلغ فيه التعليمُ – مدنيا ودينيا – أسوأَ حالاته، ولم يكن التطويرُ فيه سوى تطوير شكلي لا جوهري، استطاع، بعد قليلِ عناء، المرحوم الشيخ محمد سيد طنطاوي تطويرَ المناهجِ بإلغاءِ كتب التراث ليحلّ محلّها كتبٌ حديثةٌ؛ إلا أنَّ نزعة الشيخ وتخصُّصه في تفسير القرآن قد طغَت على الفقه والتوحيد وغيرهما؛ فجاءت تلك الكتب خلوا من المباحث الفقهية والعقدية، وأقرب إلى التفسير منها إلى غيره، ولو فطن الشيخ إلى ذلك لنجحت خطة الإصلاح والتجديد، ولو بشكل جزئي.
حسني مبارك
إنّ إصلاح الفكر الديني يستلزم تحرير النّص الديني من تأويلات الفقهاء وجمودهم، وتبنّي مشروع تنويري أصيل يعتبر بالعقل والعلم، ويُحرّر النصّ الديني من سطوة وقداسة الأقدمين الذين اجتهدوا لزمانهم ومكانهم بما يُوافقهما، وبما يُحتّم علينا أن نجتهد نحن لزماننا ومكاننا كما اجتهدوا، فلا نعيش عالة على أفكارهم وتأويلاتهم، بل نضرب بأيدينا إلى كتبهم فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كلّه صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبّهنا عليه، كما يقول ابن رُشد في كتابه فصل المقال.