نشهد في واقعنا المعاصر انتشاراً هائلاً للمقاهي في كل مكان بالعالم، وتماثلاً شديد التشابه لطبيعة المقهى ووظيفته أينما كان، كما يقف شاهداً على الكثير من المتغيرات التي حدثت في ذات الزمان والمكان الذي تعدّ فيه القهوة مختلط مذاقها المرّ واللذيذ بالمجتمع والإنسان، ولا تزال رائحتها الفاتنة تسري وتنتشر في كل الدروب والأزقة؛ متجاوزةً الحدود والصراعات ومرغمةً الجميع بلذّة الانقياد.
والمتأمل في فكرة المقهى كموقع للتعبير عن احتياجنا ومزاجنا وكشاهد على التحولات المجتمعية وكذاكرة موثوقة للماضي، يجعل من هذه المقاعد والطاولات حقلاً زاخراً للمعرفة ومتغيراتها، ورصداً اجتماعياً للحاضر والمستقبل، ولست مبالغاً إن قلت: إن المقهى اليوم هو المؤشر الدقيق الذي يوصّف ويحدد اتجاهات مجتمعاتنا ومتغيراتها القادمة.
أمام عتبة المقهى أضع بين يدي القارئ عدداً من التساؤلات عن أثره على واقعنا وقدرته في إحداث تحولات معرفية ومجتمعية لطالما كابرنا عن الالتفات لها عند تشخيص ظواهرنا الاجتماعية والثقافية، ولعلي أسطّر بعضها بإيجاز في المسائل التالية:
أولاً: أعتقد أن المقهى في الماضي والحاضر كان مكاناً خاصاً للهروب نحو الحرية والانفكاك عن الحرج والقيود الاجتماعية التي تثقل سمت البيوت أو الأماكن الرسمية، فالمقهى الذي يوفر للفرد مشروبه الخاص ويغض الطرف عن تصرفاته الجانحة؛ سيبدو ملائماً للكثير، خصوصاً فئة الشباب الذين يرغبون التخفّف من رقابة الأسرة، ولكل من يحب أن يتشارك مع آخرين هوايةً أو حديثاً أو تعاطياً لمشروب خاص كالتدخين والنارجيلة، مما لا يجرؤ الكثير على ممارسته بحرية في بيته أو عمله، وقد زاد من حضور المقهى كفضاء للحرية؛ عندما أصبح مزوَّداً بالشبكة العنكبوتية حيث يقضي فيها المرتادون ساعات طويلة منهمكين في عالم افتراضي لا حدود له، وليس من الغريب أن تكون بداية نشأة المقهى في الشرق الإسلامي وتحديداً في مكة عام 1511م، حيث انتشرت القهوة اليمنية وشاعت بين الناس واجتمع لها الرجال والنساء فيما سمي ببيوت القهوة، مما أخاف الفقهاء أن تكون شبيهاً للخمر ومفسداً للبشر، فحرّم تناولها عدد من فقهاء مكة والقاهرة والشام وأصدر السلطان قونصوه الغوري بياناً يمنع فيه تناولها وأمر بإغلاق أماكنها وذلك عام 1512م، ثم أصدر السلطان العثماني سليمان القانوني عام 1546م أمراً بإبطالها ومنعها كذلك؛ نظراً لموقف العلماء الرافض لهذا الجديد الفاتن، ثم اعتادها الناس وزال خوف حرّاس الفضيلة وكتب في إباحتها عدد من الفقهاء بعد سنوات من التحريم. (انظر: كتاب من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي، لمحمد الأرناؤوط، دار جداول، الطبعة الثانية 2012م، ص9-25)، هذا الموقف المتردد من القهوة وحوانيتها وبيوتها يؤكد من وجهة نظري أن البعض يذهب إليها كمهرب من الضبط الاجتماعي ورهق العادات والرسميات، ولأجل الحاجة للحرية الاجتماعية تكاثرت دور القهوة أو المقاهي، وأصبح روّادها من الشعراء والمغنين وفرق الرقص والحكواتية؛ فهم المطلب الأهم لناشدي التحرر، وبات مظهر وجودهم في المقاهي بعد القرن السادس عشر الميلادي، علامةً على نوع الفئة التي ترتاده، وسمةً تميز الأشخاص على أساس الوضع والموقف الاجتماعي، ولعل هذه الظروف والسياقات الاجتماعية هي السبب وراء نشأة بيوت القهوة أو المقاهي في الشرق الإسلامي المحافظ دون غيره من المجتمعات المتحررة اجتماعياً.
ثانياً: بدأ انتشار المقاهي يزداد في دمشق ثم حلب وصولاً إلى إستانبول التي افتُتح فيها أول مقهى عام 1554م، على يد اثنين أحدهما من دمشق والآخر من حلب في مكان اسمه: «تحت القلعة» كما ذكره المؤرخ العثماني إبراهيم بجوي (انظر: المرجع السابق ص57)، ثم انتشرت المقاهي بشكل أفقي وعمودي، فمع انتشارها العددي كان روادها متنوعين من أعلى الهرم الاجتماعي إلى أدناه، فأصبح يحضرها المثقفون والقضاة ورجال الدولة، بالإضافة إلى العوام على تنوعاتهم، وهنا بدأ مظهر آخر يحضر مع المقاهي وهو النقاش المجتمعي والحوارات النخبوية، وأصبح المقهى بعد وجوده في إستانبول أمراً مقبولاً في بقية المدن العثمانية، وقد ذكر حاجي خليفة المؤرخ المعروف والشاهد على هذه المرحلة أن حكم تناول القهوة بقي سجالاً بين الفقهاء العثمانيين ما بين محرّم ومبيح حتى الألف الهجري أي عام 1591م، ولكن تطور حالة التعاطي الثقافي والفكري مع طبيعة المقهى وخصوصيته جعل هناك تخوفاً سياسياً من تحول المقهى إلى وكر للآراء المضادة للباب العالي، وهذا ما دعا السلطان مراد الرابع في عام 1632م أن يصدر أمراً بهدم المقاهي وتحريم القهوة. (انظر: المرجع السابق 58)، وهذا يشير لملمح مهم عن تطور طبيعة المقهى كمجال نخبوي يدعو للقلق، ومن إستانبول تسللت فكرة المقاهي ودخلت إلى أوروبا من بوابة البندقية وذلك عام 1629م. وصولاً إلى بريطانيا المتمدنة عن أوروبا، حيث استقبل الإنكليز افتتاح أول مقهى عام 1652م، وكان في مدينة أكسفورد ولا يزال موجوداً باسم: «The Grand Café» وكان صاحبه يهودي من دمشق، وما جاء عام 1700م حتى أصبح في لندن وحدها أكثر من 3000 مقهى، أما باريس فتُعتبر بداية وجود المقاهي فيها من عام 1715م، حيث افتُتح فيها أكثر 300 مقهى، تضاعف العدد بعد عقدين من الزمن، وكان المقهى الأشهر آنذاك هو « Procope» ويقال إنه تأسس عام 1686م، وكان مَجمعاً لأهم فلاسفة التنوير الفرنسيين من أمثال روسو وفولتير وديدرو، وفيه كانت النقاشات والسجالات الفلسفية والاجتماعية والسياسية، وبين أقداح القهوة ونشوة شاربيها انطلقت فكرة الثورة الفرنسية 1789م، وهنا يظهر وجه آخر للمقهى كنوع بارز في المجال الثقافي والفضاء التواصلي العام الذي يحفّز في اجتماعاته البسيطة وغير المتكلّفة؛ حريةً أكبر في التعبير والنقد وتنظيم اتصال مستمر بين أولئك الثرثارين على مقاعده من مثقفين وغيرهم، وهذا ما جعل مؤشرات الخوف من المقهى تعود بقوة لدى الساسة والمتنفذين، فقد «حاول شارل الثاني (1630-1685م) أن يحد من انتشار المقاهي ومن نشاطها، باعتبارها مركزاً لإهاجة المشاعر السياسية والمؤامرات، لكن شهوة الحديث والشراب والاستمتاع برائحة التبغ أحبطت مساعيه.. كما أن حرية الكلام في إنكلترا انتعشت وازدهرت هناك – أي في المقهى-» (نقلاً عن ديورانت في قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب وآخرين، طبعة دار الجيل 1988م،32/153).
لذلك تصدّر المقهى منصّة المشهد الثوري في القرن الثامن عشر الميلادي خصوصاً في فرنسا، لأنه ظهر كمطبخ تنضج فيه الأفكار ويجتمع فيه أشهر طهاة الفلاسفة، ومن ثمّ لو أردنا أن ننظم خيطاً من تطورات موقع المقهى من المجتمع والإنسان؛ فيمكن أن نلحظ مراحل ذلك؛ ابتداءً من بقعة متحررة اجتماعياً إلى ملاذ للنخب المضطهدة إلى منصة للإنتاج الفكري والمعارضة السياسية.
ثالثاً: هل كان المقهى مكاناً مفضلاً لرجال الدين من خلال مراحل تطوره السابقة؟ للإجابة على هذا السؤال نلحظ في الكتابات التاريخية أن المقاهي قد تنوعت وأصبح منها ما يغلب عليه المحافظة والبعد عن المنكرات، ومن ثمّ قد يكون مكاناً مناسباً لاحتياج رجال الدين من كل الملل والأديان للمكث والاستراحة والترويح فيه، وقد جاء في بعض حكايات الرحالة الغربيين في زياراتهم للشرق وصف الدراويش أهل التصوف في القرن الثامن عشر أنهم كان يلجأون للمقاهي للذكر والوعظ في مدن كإستانبول وموستار وبغداد والقاهرة، (ذكر بعضها أحمد زكي باشا في مقال له عن القهوة نشر في مجلة الرسالة 7/59)، وتوسّعت دائرة التعاطي الديني مع المقهى بعدما اختارها بعض العلماء مجالاً لممارسة الدعوة والإرشاد، حتى أصبح بعضها من مرافق الجوامع وأوقافه المعتبرة، ومن العلماء المعروفين في استثمار المقهى دينياً؛ الشيخ عبد الحميد بن باديس، فقد كان يرتاد المقاهي للتعليم والإرشاد. (انظر: آثار ابن باديس تحقيق: عمار طالبي، نشر دار ومكتبة الشركة الجزائرية، الطبعة الأولى 1968، 4/198)، وقد نشط عدد من العلماء والدعاة خلال فترة الاستعمار وما بعدها بدخول المقاهي في مصر والشام والعراق، وكان الغرض الأعظم لأجل الدعوة والتحذير من مخاطر الفكر الاستعماري، وهذا وجه آخر لحركة المقهى في التأثير المجتمعي، فوجود المقهى كمكان للترويح والتحرر من الرسميات، أغرى أن تناقش فيه الموضوعات الفقهية الأكثر هيبة، وتلاشت بشكل كبير النقمة منه كمكان حصري لممارسة المنكرات الشرعية.
رابعاً: أطلّت المقاهي اليوم على المجتمعات البشرية بوجه حداثي جذاب، فيه الرفاهية والجمال ومعه أيضاً لبوس جديد معولم، ينساب بين أركان المقاهي الحديثة بنعومة وسرعة، فمن خلال طعم القهوة ونوعها وطريقة التقديم وشكل الأثاث وتصميمه الداخلي؛ ظهر شكل جديد من المقاهي الحداثية منتصف القرن العشرين تقريباً، بعدما أصبحت شركات المقاهي إمبراطوريات ضخمة للهيمنة على أوقات واختيارات مدمني القهوة والجلوس فيها، فعلى سبيل المثال تظهر شركة «ستاربكس» كأقوى شركات العالم في بيع القهوة وإدارة المقاهي، حيث تشير بعض الإحصاءات إلى أن عدد فروعها في العالم بلغ في عام 2019م أكثر من 29800 مقهى وفي أكثر من 68 دولة، ولمعرفة تأثيرها الواسع على كافة أفراد المجتمعات بلا استثناء فإن متوسط عدد زيارات فروع «ستاربكس» 6 مرات شهرياً للعميل الواحد، بينما العميل الوفي يبلغ متوسط زياراته أكثر من 16 مرة شهرياً، وبعد انتشار شركات المقاهي العالمية في أصقاع الأرض، وصل مُعدَّل الاستهلاك السنوي للفرد في عام 2016م إلى 336.144 لتراً، متخطياً استهلاك المشروبات الغازية والشاي والعصير مُجتمعين، وهذه الإحصائيات توضح أن القهوة واحدة من أكثر السلع المتداولة في العالم. (انظر: تقرير منشور في صحيفة القبس 5 مارس 2019م). وفي هذا الحال تبدو المقاهي منتجاً حداثياً تسيطر عليه الشركات العابرة للقارات، وتهيمن من خلاله على ثقافة المقهى التي امتدت لثلاثة قرون تقريباً، لتعيد تأهيل الإنسان في كيفية تعاطيه مع المقهى، ومن ثمّ تغيير أولويات الارتياد نحو مجال للتلاقي الحر بعيداً عن أي وظيفة مؤدلجة لتطبيع المقهى بها، فغالب هذه المقاهي الحداثية توفر للناس العزلة في وسط اجتماعي، وتتيح للفرد صرف الكثير من وقته دون تأنيبٍ لضميره، وتصيبه بخدعة الإدمان عليها من باب الترويح البريء وقضاء وقت الفراغ، لهذا نجد الشباب والنساء الأكثر تعاطياً معها. أما المقاهي التقليدية اليوم فلا تزال تؤدي دورها الترويحي البروليتاري دون إرهاق للميزانية أو رغبة في تحقيق أهداف اجتماعية، وربما تجد في فئة الرجال الكبار روّاداً مخلصين لها.
وأخيراً.. أسأل نفسي بعد هذا العرض التاريخي الموجز جداً، هل وصلت لفهم طبيعة المقهى وتأثيره الاجتماعي والثقافي على الفرد والمجتمع؟ وهنا أجيب بلا تردد بالنفي القاطع، لأن ظاهرة المقهى اليوم لا ينبغي أن تناقش من زاوية معرفية واحدة، أو تبتسر في تحليل انطباعي لا يقوم على المنهج الوصفي والاستقرائي العلمي، فالمقاهي المعاصرة – بكل تأكيد – باتت هي القِبلة الأولى لأكثر طبقات المجتمع، وتلاشت من الأذهان فكرة العيب الاجتماعي من ارتيادها، وأصبحت مصروفاتها أولوية في ميزانية الفرد، فمن البداهة أن هذا الحضور الهائل للمقهى في حياتنا سينعكس على الكثير من طرائقنا في الحياة والتفكير، وإذا كان هناك من رسالة في خاتمة المقال فهي موجهة للباحثين في علم الاجتماع، فهم الأكثر قدرة على فهم تلك الظواهر والأكثر غياباً عن واقعنا؛ رغم أن لديهم النظارة الكاشفة للطريق مهما تلبّد الجو بالضباب.
نقلا عن: الحياة