فن

علي إسماعيل ونبيلة قنديل.. ثنائية الحب والفن!

كانت الموسيقي المصرية تحتاج إلى علي إسماعيل؛ لتكتمل الحلقة التي تكونت بمشايخ الموسيقي العظام وآخرهم سيد درويش.. وكان عبد الوهاب قد اعترف في لحظة تجلٍ صادقة بعبقرية الموسيقار علي إسماعيل

كان والد علي يعمل في موسيقى الجيش، فأحب الفتى هذا المجال وتطوع فيه، ثم التحق بالمعهد العالي للموسيقى، وتعلم العزف علي آلة الكلارنيت والساكسفون، ونظرا لموهبته الموسيقية المبكرة؛ رأى إسماعيل أن عليه البحث عن شكل جديد للأغنية المصرية، لتكون قصيرة لا تزيد مدتها عن ثلاث دقائق بالتوزيع الأوركسترلي، فأدخل موسيقى الجاز في ألحانه وأغانيه، وعمل قائدا لفرقة رضا للفنون الشعبية، ثم كتب موسيقي النشيد الوطنى الفلسطيني.

دخل إسماعيل التاريخ عندما كتب بعبقرية فذة موسيقي خان الخليلي، باستخدام آلات النفخ مع المجموعة وإيقاع المارش في أداء جملة موسيقية حماسية، استخدم فيها إيقاعات حادة بدون زخارف لحنية يغلب عليها طابع التنويع, ثم تكرار اللحن مستعرضا جنس مقام الحجاز؛ لتضعه تلك المقطوعة في مصاف كبار المؤلفين الموسيقيين في العالم.

أما قصة حب حياة علي إسماعيل مع حبيبة عمره نبيلة قنديل؛ فتلك حكاية درامية رائعة حكتها لنا حصريا الفنانة شجون علي إسماعيل, التي كشفت الستار عن العديد من الأسرار الخاصة بعائلة والدتها.

تبدأ قصة الموسيقار علي إسماعيل بالتعرف علي أسرة نبيلة قنديل, إذ كانوا من أعيان بلدية طنطا, بعد ذلك تعرف علي حبيبة عمره نبيلة عن طريق صديقه الفنان الكبير العازف زكي غنيم أحد العازفين المهمين وراء السيدة أم كلثوم, في ذلك الوقت كانت نبيلة حسين قنديل قد شغلت وجدان الفنان فقرر أن يتعرف عليها, فأرسل لها أول جواب غرامي، كما روت وحكت لنا شجون علي اسماعيل.. لم ترد نبيلة التي كانت تخجل من الحديث مع علي اسماعيل, فقرر أن يكتب لها خطاب الغرام الثاني، إذ لم يعد يحتمل الشوق والبعد والحرمان عن المحبوبة, فقرر أن يطلبها للزواج من أخيها يوسف الذي هاج وماج ورفض أن يزوج أخته لواحد من الجماعة “بتوع الرقص”.

ثم كان قرار الحبيبين بالزواج بطريقة درامية, كانت صعوبة المهمة تكمن في كون الحبيبة لم تكن قد بلغت السن القانونية للزواج.. تبقى لها عدة أشهر كان على “علي” أن يوفر لها مكانا مناسبا لتقضي فيه تلك الفترة.. ونجح أخيرا في ذلك بعد إصرار صديقه الفنان كمال الشناوي وزوجته الفنانة هاجر حمدي على استضافة نبيلة.

لم يعرف شقيق نبيلة مكانها حتي بلغت السن القانونية في بيت كمال الشناوي, وتم الزواج وكانت المفاجأة أن الفنانة هاجر حمدي اكشفت حلاوة وجمال صوت نبيلة, وقررت أن تقنع علي إسماعيل بعمل نبيلة مع بديعة مصابني في مسرحها, وكان علي إسماعيل يعمل هناك.. وسمعت بديعة مصابني  صوت نبيلة وأعجبت به وضمتها لفرقتها.

وبقيت مشكلة؟ كيف ستظهر نبيلة للجمهور، وهي من أسرة كبيرة فوالدها من أعيان طنطا، وأمها من عائلة فرعون الشهيرة في أسوان؟

تروي الابنة شجون كيف كانت سعادة والدتها بإعجاب الجميع بحلاوة صوتها، مع خشيتها من عقاب أهلها لو غنت، خصوصا شقيقها يوسف.. وظهر اقتراح تغيير اسمها؛ ليكون سعاد وجدي, ووافق الجميع علي الفكرة لتكون طريق دخول نبيلة كمطربة مونولوجات متميزة.

بعد نجاح نبيلة في الفن مع زوجها وتوأم روحها علي إسماعيل تغيرت الدنيا، وتصالحت مع شقيقها يوسف الذي صار فخورا بها، وكذلك أهلها لتكون ثنائيا ناجحا مع إسماعيل, وتدخل التاريخ معه من باب المجد ويسمعها ويشيد بها الفنان محمد عبد الوهاب وكل نجوم الفن.

تمضي رحلة الموسيقار علي اسماعيل مع الموسيقار محمد عبد الوهاب طوال ثلاثين عاما كعازف وموزع لموسيقي عبد الوهاب وأغاني أم كلثوم ومعظم نجوم الطرب.

قدم الموسيقار علي اسماعيل اللحن الشيق المرح، كما قدم أعمالا  رائعة  من كلمات زوجته مثل: “هاتوا الفوانيس يا ولاد” و”سبحة رمضان” ويذكر أن الفنان محمد فوزي كان قد طلب عملا من نبيلة وزوجها, فكتبت له الفنانة نبيلة “هاتوا الفوانيس يا ولاد” ونجحت الغنوة نجاحا باهرا.

 وفي نفس الوقت صار علي إسماعيل  الموسيقار عملاق تأليف الموسيقى التصويرية, كما صار صاحب مدرسة خاصة به في التلحين؛ كانت سببا في إضافة عدة تطورات إلى الموسيقى المصرية، وكان من أبرز ملامح تلك التطورات إدخاله الهارموني على الموسيقى الشرقية؛ حيث يصبح للحن الواحد عدة نغمات موسيقية متآلفة ومتكيفة معا تسمع في الوقت ذاته لتدعمه، كما هو معروف في الموسيقى الغربية، وذلك بعد أن كانت الألحان قبله، عبارة عن جملة موسيقية واحدة تعزفها جميع الآلات, وفي التوزيع الموسيقي سار إسماعيل على نهج الموسيقار أندريا رايدر، لتصبح الأغنية الواحدة متضمنة عدة ألحان داخل اللحن الأساسي.

ينتمي إسماعيل لجيل الشاعر صلاح جاهين وزميليه في معهد الموسيقى؛ كمال الطويل وعبد الحليم حافظ، كان إسماعيل يحمل على عاتقه تجربة الغناء لثورة 23 يوليو التي آمن بأهدافها ومبادئها من خلال توزيعه لألحان تلك الأغاني وقيادته للفرقة الموسيقية فوق خشبة المسرح، وبين هذه الأغاني “صورة” و”المسئولية و”مطالب شعب” كما لحن “بيتهوفن” مصر ألحانه الخاصة لبعض الأغاني الثورية، ومنها قصيدة “دع سمائي” في معركة العدوان الثلاثي عام 1956، وهو أيضا صاحب فكرة أغنية الفوازير التي غناها عبد الحليم حافظ، والتي استعان فيها بمقاطع من خطب الزعيم عبد الناصر السياسية.

بعد انكسار حلم الثورة وإصابته بالإحباط عقب نكسة عام 1967، لم يقفد إسماعيل الأمل في النصر فاستعان بزوجته؛ لتكتب كلمات أغنية وطنية وفقا لرغبة المخرج يوسف شاهين في وضع أغنية وطنية من ألحان إسماعيل في نهاية فيلمه “العصفور” الذي عرض عام 1972، ويلحنها ويوزعها إسماعيل؛ لتكون الثمرة “رايحين شايلين في إيدنا سلاح”.

لحن إسماعيل أغنية “أم البطل” التي كانت المطربة شريفة فاضل هي مصدر إلهامها بعد أن عانت فاجعة استشهاد ابنها، لتقوم بغنائها كذلك، لتحقق الأغنية نجاحا كبيرا.. كما لحن إسماعيل كثيرا من الأغاني الشعبية النابعة من روح الفولكلور المصري، فغنت عايدة الشاعر من ألحانه، “الطشت قالي” و”كايدة العزال” و”ليمونة”، لتصبح من أشهر الأغاني في تلك الفترة.

تقول شجون علي إسماعيل: “كانت عصا والدي التي يستعين بها لقيادة الأوركسترا لها تأثير السحر على كل العازفين في الفرق الموسيقية.. والجمهور كذلك؛ والذي كان من بينهم من يحجز مقعده في الصف الأمامي؛ فقط ليشاهد حركة إسماعيل أثناء قيادته للأوركسترا, باستخدام عصاه.

قاد الحالة الفنية والمزاجية للراقصة فريدة فهمي، نجمة فرقة رضا للفنون الشعبية، وجعلها تتنقل بين الدلع والرومانسية والفرح والشجن، والإيقاع البطيء والسريع، ليجعل الجمهور يبكي في الوقت الذي يريده ويفرح متى شاء.

 وقد صرحت الفنانة سامية جمال بأن أصعب رقصة أدتها فى حياتها هي رقصتها في فيلم “زقاق المدق” الذي عرض عام 1963، لأن النقلات الموسيقية للرقصة التي وضعها إسماعيل صعبة ومجهدة وأرهقتها للغاية.

أصبح علي إسماعيل صاحب التجربة الجديدة من حيث الشكل والمضمون؛ لتكون النتيجة فرقة غنائية مصرية عرفت بـالثلاثي المرح، بدأت في خمسينيات القرن العشرين، وقدمت أغاني عديدة اتصفت بالمرح وخفة الظل وارتبطت بالعديد من الاحتفالات والمناسبات، بينها  “أهو جه يا ولاد” و”وحوي يا وحوي” و”العتبة جزاز” و”حلاوة شمسنا”، واستقبل الجمهور الفرقة بإعجاب كبير، وظلت أغانيها معروفة ومفضلة إلى وقتنا الحالي.

أما في برلين، فبعد تقديم فريدة فهمي ومحمود رضا ومحمد العزبى وعلى إسماعيل وثلاثة من الموسيقيين رقصة من رقصاتهم أثناء مشاركة فرقة رضا فى الاحتفال بمرور 10 سنوات على افتتاح التليفزيون الوطنى لألمانيا الشرقية، اقترح الألمان على إسماعيل أن يضع لهم قطعة موسيقية خاصة بالتليفزيون الألمانى، فطلب أوركسترا كاملة للتسجيل، لأن معه ثلاثة موسيقيين فقط، فجاءه الألمان بأعظم أوركسترا لديهم، يتكون من عازفين محترفين يستطيعون عزف النوتة الموسيقية بمجرد قراءتها، ما يطلق عليهم: “بريما فستو” فألف إسماعيل قطعة موسيقية جديدة، وكتب النوتة الخاصة بها، وقاد الأوركتسرا وهو لا يعرف كلمة واحدة باللغة الألمانية.

وبالرغم من الإضافات التي أدخلها إسماعيل إلى مجال الموسيقى، بقيت شهرة “بيتهوفن مصر” مقتصرة على فترة حياته فقط، لتقل تدريجيا بعد وفاته، ولتغيب سيرته الفنية العطرة عن كثير من الأجيال التي لا تعرف من هو علي إسماعيل الذي يحمل أحد شوارع حي الدقي اسمه, وربما يعود السبب في ذلك إلى رفض إسماعيل الظهور في الأفلام السينمائية؛ لأنه كان يهرب من الأضواء والشهرة، بخلاف بعض الملحنين وكتاب الأغاني الذين ظهروا في أفلام سينمائية قليلة كمحمد الموجي وصلاح جاهين.

وتتذكر شجون كلام والدها الذي قال ذات يوم: “في مصر ما فيش غير مؤلف موسيقي هو علي اسماعيل.. فأنا دائما أصنع المجد والفن والغناء والموسيقى التصويرية في مصر بطريقتي”.

وكان أن اتصلت كوكب الشرق   ذات يوم بعلي اسماعيل وقالت له: “العازف “عظمة” يكون معايا بكره يا علي, وعلى فكرة يا علي أنت مش عاوز تلحن لأم كلثوم ليه ياولد” فهل كان إسماعيل رافضا التلحين للسيدة أم كلثوم فعلا؟

تفسر شجون علي اسماعيل خوف أبيها من دخول الكوكب الكلثومي الذي ظنه متاهة من الصعب الخروج منها، وهو يحب أن يكون مستقلا وحرا في الموسيقى والغناء.

ويوم وفاة الموسيقار علي اسماعيل بكاه الفنانون، ومنهم أحمد زكي الذي اعتبر نفسه تلميذا في مدرسة علي اسماعيل, وفريد شوقي  الذي رثاه بقوله “علي اللي كان عنده عبقريه تخليه يقدر يخلي فريد شوقي يغني على المسرح أو في السينما”.

تكمل شجون.. بدأ حلم علي إسماعيل في التأليف الموسيقى وعمره ثلاثة عشر عاما, وكان مكانه المفضل كل يوم يجري معايا في ميدان القلعة, كان يسألني ايه اللي في السماء ويقولي يا شجون أنا يوما ما هـ أكون نجم وسط هذه النجوم..

قدم إسماعيل موسيقي فيلم “المماليك” وفيلم “هجرة الرسول” وفيلم “الرسالة” الذي يعتبر المجد الفني للموسيقار علي اسماعيل.. وتسأل شجون عن  القرار الجمهوري الذي أصدره الرئيس السادات بتحويل بيت علي إسماعيل لمتحف أين ذهب؟ وكان السادات قد عرض على الموسيقار علي إسماعيل تولي رئاسة أكاديمية الفنون؛ لكن علي اسماعيل رفض تولى أية مناصب, إذ كان فنانا حرا لا يحب التعامل وفق القوانين واللوائح، حتي لو كان المنصب على رأس مؤسسة السينما.

وتقول شجون.. “عيب أن يكتب بعض الصحفيين بجهل، ويدعون أن الشاعرة نبيلة قنديل تزوجت من إسماعيل ياسين, وتضيف شجون إن عائلة الفنان إسماعيل ياسين صديقة لأسرتنا, وقالت إن والدتها من تلقاء نفسها تركت الغناء، وتفرغت للتأليف والأعمال الشعرية ونجحت حتى أصبحت الشاعرة الغنائية الأهم في تاريخ مصر، ونجحت في أن تملأ فراغا كبيرا  خصوصا بالأغاني البسيطة التي أنجزتها مع إسماعيل.. جدير بالذكر أنه يجري الآن التحضير لمئوية علي اسماعيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock