فن

في ذكرى رحيله: محمود مرسي.. دون كيشوت الدراما.. واستاذ السينما «المركبة»

إذا أردت أن تستحضر النموذج الحي من لحم ودم الذي يجسد شخصية المواطن المصري الذي عركته الأيام وصهرته الخبرات والتجارب فبات أقرب لحكيم تتجلى فيه سمات الرشد والعقل فعليك بمحمود مرسي حين أبدع شخصية «أبو العلا البشري» في المسلسل الشهير «رحلة السيد أبو العلا البشري» الذي عرض منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ففي هذا العمل بدا الفنان الكبير متلبَسا بشخصية أبو العلا، وكأنه لا يؤديها، بل كأنه هو ذات الشخصية أو يحلم بأن يكونها.

رجل من المدينة الفاضلة

في عام 1985 عُرض مسلسل «رحلة أبو العلا البشري» الذي ألفه الراحل اسامة أنور عكاشة وأخرجه محمد فاضل ووضع عمار الشريعي موسيقاه التصويرية، وكان محمود مرسي يبلغ من العمر وقتها الثانية والستين. إذ ولد الرجل في مدينة الاسكندرية في 7 يونيو عام 1923. وفي هذا المسلسل، الذي يعد من أهم المسلسلات في تاريخ الدراما التليفزيونية، كان واضحا قدرة هذا الممثل العملاق على الإمساك بكل زوايا وجوانب شخصية أبو العلا البشري، ذلك الرجل التربوي المعلم الذي عاش كل حياته العملية والوظيفية في مدينة صغيرة بدلتا مصر، فلما خرج على المعاش قرر أن يذهب الى القاهرة لكي يقف إلى جانب ابنة أحد اصدقائه في أزمة ألمت بها. وفي العاصمة تبدأ مرحلة جديدة في حياة أبو العلا البشرى، إذ يجد نفسه مهموما بمشاكل وأزمات من حوله، ومنخرطا في واقع مغاير تماما لما ألفه من قيم وعادات أصيلة، فيخوض رحلة شاقة من أجل تغيير سلوكيات الناس وأخلاقهم إلى الأفضل والأجمل، لكنه يصطدم بكم هائل من التغييرات والمتغيرات السلبية الصادمة التى ضربت المجتمع المصري في الصميم، والتي تغيرت معها وتبدلت قيم وعادات كثيرة. وفي رحلته الصعبة عبر الناس والأحداث، يبدو أبو العلا البشري وكأنه «دون كيشوت» المصري الذى يحارب طواحين الهواء.

موقف وطنى

وبعدها بسنوات، ومن خلال شخصية تتماس في بعض جوانبها مع شخصية ابو العلا البشري يقدم محمود مرسي دورا يحمل رسالة أخرى للمصريين، هي ألا يستسلموا لظاهرة التطرف وأن يقاوموها وأن يزرعوا في أبنائهم القيم التى تحميهم من الوقوع فى فخ المتطرفين، وذلك من خلال شخصية كامل سويلم مدير المدرسة المثقف الواعي، الذى يتصدى لكل ظواهر التطرف، وذلك في مسلسل «العائلة» الذي انتج  عام 1994، في ذروة المواجهة بين الدولة المصرية وجماعات التطرف، وكان من تأليف وحيد حامد وأخرجه اسماعيل عبد الحافظ وشاركت مرسي في بطولته النجمة ليلى علوي.

في هذين العملين (أبو العلا البشري بجزئيه الأول والثاني ثم العائلة) يبدو محمود مرسي ذلك المواطن المصري العاشق المحب لبلده وأهله، هو أمر لم يكن فقط من خلال التمثيل، لكنه تجلى حقيقة واقعة قبل هذين المسلسلين بسنوات طويلة، بل قبل عمل مرسي بالفن، وذلك حين كان يعمل مذيعا في هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) في لندن، في الخمسينات. فلم يكن قد مضى على تعيينه أكثر من 7 أشهر حين وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذى قادته بريطانيا مع فرنسا وإسرائيل. حيث قرر مرسي على الفور تقديم استقالته دون أي تفكير في المستقبل ودون أي التفات إلى أهمية الوظيفة الكبيرة والمرموقة التي كان يشغلها. واللافت أن مرسي لم يضبط يوما يتاجر بهذا الموقف الوطني تجاه بلده.

شخصيات مركبة

واذا كان مرسي قد أجاد فى عمله كمذيع متمكن قدير، يمتلك صوتا رخيما جميلا وقدرة مذهلة على إجادة لغته العربية، إضافة الى الانجليزية، فان موقفه الوطني الذي ترك بعده عمله كمذيع قد أهدانا ممثلا بارعا قل أن يتكرر.

ومن المؤكد أن دراسته للفلسفة بكلية آداب الاسكندرية، ثم دراسته بعد ذلك للاخراج فى فرنسا لمدة خمس سنوات قبل أن ينتقل إلى لندن للعمل بالـ «بي بي سي» بعد أن نفدت نقوده ثم عمله كمدرس بالتربية والتعليم بعد عودته إلى مصر ثم عمله كمدرس للإخراج بالمعهد العالي للسينما، كل هذه الخبرات قد ساهمت في تشكيل القدرات الابداعية في فن التمثيل عند محمود مرسي. فيمكننا أن نلاحظ مثلا أن دراسة مرسي للفلسفة قد أفادته كثيرا فى تجسيد شخصية عيسى الدباغ في رائعة نجيب محفوظ «السمان والخريف»، ذلك الموظف الكبير الذي يمارس السياسة بحكم موقعه الحزبي، غير أنه يمارس الفساد السياسي والوظيفي ويتلقى الرشاوي، ثم حين تتغير الامور وتسقط عنه سلطته السياسية والحزبية يجد نفسه في مواجهة سيل من الاتهامات، ويقف وحيدا عاجزا عن مواجهة ذلك الطوفان الذي يكاد أن يغرقه تماما، وهنا يبدع  محمود مرسي بشكل عبقري في إظهار الصراع الرهيب الذى يحتدم داخل شخصية عيسى الدباغ، ويُظهر ببراعة واقتدار ملامح هذه الشخصية الآيلة للسقوط وهي تحاول أن تقاوم إلى أن تتهاوى في النهاية.

https://youtu.be/3fUpbKlLqKQ

 صراعا نفسي آخر عاشه محمود مرسي في دور «الريس مرسي» عامل الفنار، الذي يعمل في مكان بعيد، من خلال أحداث  فيلم «زوجتي والكلب» مع سعاد حسني ونور الشريف، حين يقرر أن يتزوج من فتاة طيبة جميلة يتركها بعد الزواج بفترة قصيرة إلى عمله البعيد، وحين يحصل مساعده في العمل وتلميذه الوسيم نور الشريف على أجازة ويسافر إلى المدينة يرسل معه خطابا لزوجته الجميلة غير أن ماضيه فى خيانة زملائه مع زوجاتهم يحضر بقوة ويجعله يعيش صراعا رهيبا. إذ كيف يقوم بتعريف زوجته على تلميذه في غيابه، ويدرك أنه أخطا خطأ كبيراً ويبدأ الشك يحاصره في ان تلميذه قد خانه مع زوجته كما خان هو زملاءه، ويستمر صراعه النفسى دون أن يصل إلى جواب قاطع ،ودون أن يعرف أن زوجته كانت مخلصة فعال، وأنها لم تستجب لمحاولات تلميذه.

وهو صراع يختلف عن صراعه النفسي في فيلم «ليل وقضبان» فى دور اللواء توفيق عبد الهادي مدير السجن، الذي يرسل طالب الهندسة المعتقل «أحمد» الذى قام بدوره محمود ياسين إلى منزله لاصلاح الكهرباء، فتقع زوجته سميرة أحمد فى غرامه، إلى ان يكتشف تلك العلاقة فيضع أحمد أمام كلاب السجن الجائعة فتمزق جسده. ثم يتكرر الصراع النفسي الرهيب كذلك مع فيلم «الخائنة» مع نادية لطفي، ونحن نشاهد الزوجة إلهام أو نادية لطفي تشك فى خيانة زوجها أحمد أو محمود مرسي، وهي تعيش في عذاب داهم، إلى أن يقودها شكها في زوجها إلى الهاوية، فتنحدر إلى خيانته وتشعر بعقدة ذنب رهيبة تجاهه، بعد أن تدرك جريمتها وأنها بنت ظنونها وشكوكها في زوجها على غير هدى. وهنا تتحول ثورة الشك لتستوطن أحمد، فيشك في إلهام شكا يملأ حياته كلها ليقتلها في النهاية في ثورة جنونه، فنحن هنا أمام دراما نفسية تعتمد على الشك بين الزوجين، وهي تيمة أجادها كثيرا كمال الشيخ مخرج الفيلم، وبالطبع كان محمود مرسي عبقريا في التعبير عن ذلك الصراع النفسى الذى حوله في النهاية إلى قاتل.

عتريس و«شىء من الخوف»

  وبقدر ما أدى محمود مرسي من أدوار مركبة فى السينما، تعتمد على الصراع النفسي الذى يصبغ الشخصيات، وقد أجاد هذه الأدوار كثيرا ربما بحكم دراسته للفلسفة، فإن مرسي قدم أدوارا أخرى متنوعة ما بين الطيب والشرير، والنبيل والأفاق. ولا يمكننا مثلا أن نتجاوز شخصية «عتريس» في فيلم «شيء من الخوف» مع شادية، التى أداها محمود مرسي ببراعة واقتدار، فهي شخصية الشرير الذى تغلف القسوة كل افعاله وتصرفاته، وهو يحب فؤادة الطيبة التى تمثل نقطة ضعفه لكنها ترفضه لشره، فيقرر الزواج منها بالقوة ويجبر والدها على الموافقة، لكنها تتصدى وأهل القرية له وتصبح جملة «جواز عتريس من فؤادة باطل» التى يرددها أهل القرية إحدى اشهر الجمل في تاريخ السينما المصرية. وغني عن القول إن فيلم شيء من الخوف قد تعرض للمنع من العرض، بسبب وشاية من موظف كبير في وزارة الثقافة والارشاد آنذاك بأن الفيلم يحمل اسقاطا واضحا على الزعيم جمال عبد الناصر، وأن حكمه لمصر هو مثل زواج عتريس من فؤادة، وحين أصبح الأمر معروفا على نطاق واسع كلف عبد الناصر نائبه السادات ليشاهد الفيلم ويعلن القرار النهائى ازاءه وبالفعل شاهد السادات الفيلم وأجازه  للعرض.

 وفي فيلم «أغنية على الممر» نرى مرسي فى دورالشاويش محمد، الطيب الشجاع المسئول عن أربعة جنود، يحرسون ممرا استراتيجيا وتنفذ ذخيرتهم وطعامهم ويقاومون ويصمدون ويحكي كل منهم حكايته لرفاقه، وعلى النقيض من هذه الشخصية نرى شخصية رجائي رئيس التحرير المنافق المستهتر، الذي يرتاد علب الليل بينما الجنود على الجبهة يقاتلون بحثا عن النصر، وهو ما تكشفه الصحفية نبيلة المخطوبة لأحد الابطال على الجبهة حيث يؤدي محمود مرسي هذا الدور بمنتهى القدرة والحرفية، ونعرف أن رجائي هذا كان شخصية محترمة مؤمنة بالقيم الإنسانية النبيلة، إلى أن تعرض لصدمة كبيرة في حياته الخاصة فقلبت أوضاعه رأسا على عقب.

حصلت ستة أفلام لمحمود مرسي من بين حوالي 25 فيلما فقط هي كل حصيلته السينمائية، على مراكز ضمن قائمة افضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية، وهي السمان والخريف، وشيء من الخوف، وليل وقضبان، وزوجتي والكلب، وأغنية على الممر، وأبناء الصمت، بالإضافة إلى أدوار اخرى رائعة مثل طائر الليل الحزين وحد السيف وغيرها وقد كان مقلا فى أعماله تماما كما كان مقلا في صداقاته وأصدقائه وهو الذي كتب نعيه بنفسه قبل وفاته ذاكرا عدد قليل جدا من الأصدقاء ولم يتزوج سوى مرة واحدة كانت من الفنانة سميحة أيوب التي انجب منها ابنه الوحيد علاء الذي يعمل معالجا نفسيا، وما بين أول فيلم لمحمود مرسي «أنا الهارب» وآخر عمل له وهو مسلسل «وهج الصيف» عام 2004 تاريخ طويل من الابداع والفن والدراما لفنان قدير رحل عن عالمنا في 24 ابريل عام 2004.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker