شابت العلاقات الديبلوماسية بين إسرائيل والدول الإفريقية مراحل من الشدّ والجَذب. في ستينات القرن الماضي، تأثرت هذه العلاقات بإرهاصات عدوان 1967، إذ قطعت غينيا وتشاد وأوغندا والكونغو علاقاتها مع إسرائيل، ثم قطعت دول إفريقية أخرى علاقاتها معها بعد حرب 1973 وإن حافظ بعضها على أبعاد اقتصادية وعسكرية لتلك العلاقات مثل الكونغو والكاميرون وإثيوبيا.
في السنوات الأخيرة، «عادت إسرائيل إلى إفريقيا وعادت إفريقيا إلى إسرائيل». هذا ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.
ويشير إحصاء صدر في 2005 إلى وجود علاقات بين إسرائيل و44 دولة إفريقية. وفي آذار (مارس) 2016، دشن نتانياهو اللوبي الإسرائيلي – الأفريقي لحماية مصالح الطرفين، لاسيما في المحافل الدولية. ولم يخف الغرض من هذا اللوبي، وهو مواجهة الطرف العربي وأي محاولات لإدانة إسرائيل في المحافل الدولية، وقال للسفراء الأفارقة في بلاده: «أعي أنّ ممثلي دولكم سيصوّتون في المحافل الدولية بما يتماشى مع مصالح إفريقيا، وأنا أرى أن مصالحنا تقريباً متطابقة، ما يعني أن التصويت لصالح إسرائيل هو بالضرورة تصويت لصالح إفريقيا».
يتزايد بين حين وآخر الحديث حول الدور الإسرائيلي في الأزمة الحالية بين دول منابع النيل ودولتي المصب، ويذهب البعض إلى تأكيد وجود هذا الدور، إذ تطالب وثيقة أعدها السفير الإسرائيل السابق في مصر تسيفي مزائيل ونشر ملخصها في شباط (فبراير) 2010 بتدويل النزاع بين دول منابع النيل السبع من جهة، ودولتي المصب من جهة أخرى. وحملت الوثيقة التصورات الإسرائيلية حول ملكية مصر لمياه النيل وحقوق دول المنابع المهدرة. واتهم مزائيل مصر بـ «تجاهل المطالب الشرعية لدول المنابع»، قائلاً إنه «بدلاً من قيام مصر بالبحث عن حلول واقعية وعملية، سارت نحو حرب غير منطقية”، داعياً إلى “تدخل الأمم المتحدة والقوى الدولية الكبرى في الأزمة».
ثمة أهداف إسرائيلية في دول حوض النيل، تتمثل في التحرك الإسرائيلي هناك من خلال جملة من الأهداف الاستراتيجية، وتتراوح هذه الأهداف ما بين سياسية وعسكرية أمنية واقتصادية. ويتمثل ذلك في تأكيد الحضور والتأثير الاستراتيجي في دول الحوض، واستثمار ذلك في مواجهة الأزمة المائية التي قدّر خبراء إسرائيليون أن تتجلى بصورة حادة بداية العام 2030، مع السعي إلى امتلاك أوراق تأثير في دوائر تمس الأمن القومي المصري والسوداني والمساومة فيها بملفات ثنائية وإقليمية، مع الإفادة من زيادة الحضور الإسرائيلي في تلك الدول في ما يتعلق بقضايا الصراع العربي – الإسرائيلي.
رصدت تحركات إسرائيلية في هضبة البحيرات (التي تمثل 15 في المئة من إيرادات النيل) عبر استخدام مجموعة متكاملة من الآليات والاتفاقات والمشروعات (تعاون زراعي – تجاري – ثقافي) وغيرها من المجالات المختلفة، وتوظيفها في خدمة التعاون المشترك، في ظل وجود مكاتب تجارية لإسرائيل في كل من إثيوبيا وإريتريا وكينيا، تهدف إلى تعزيز التبادل التجاري بين إسرائيل وتلك الدول.
سبق أن وافقت الحكومة الإسرائيلية على تمويل إنشاء خمسة سدود لتخزين مياه النيل في كل من تنزانيا ورواندا، وكان نصيب تنزانيا أربعة سدود منها، أما رواندا فكان نصيبها سداً واحداً. وجاءت الموافقة الإسرائيلية على إقامة هذه السدود في أعقاب زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان إلى أفريقيا في شهر أيلول (سبتمبر) 2009. كذلك، قدمت إسرائيل إلى كل من الكونغو الديموقراطية ورواندا دراسات تفصيلية لبناء ثلاثة سدود.
زيارة نتانياهو الإفريقية في صيف 2016، شملت أربع دول هي: أوغندا وكينيا ورواندا وإثيوبيا. واتضح من خلال تلك الزيارة، أن الرهانات الاقتصادية والاستراتيجية هي المحرك الأساس للديبلوماسية الإسرائيلية في إفريقيا. وقبل جولة نتانياهو الإفريقية، قام وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، أفيغدور ليبرمان في حزيران (يونيو) 2014 بزيارة إلى رواندا وإثيوبيا وكينيا، رافقه فيها 50 ممثلاً لشركات إسرائيلية عاملة في مجالات الزراعة والرّي، وقّعوا عقوداً بملايين الدولارات بهدف إعداد خطط منفصلة متوسطة وطويلة المدى لإنشاء مشاريع خاصة بالمياه والطاقة في أفريقيا وتنمية التعاون بين المؤسّسات الصحية الإسرائيلية والإفريقية، وتوسيع التدريبات في المجالات الأمنية والصحية والأكاديمية والعلمية مع الدول الإفريقية، وإنشاء صناديق مالية خاصة تابعة لوزارة المالية الإسرائيلية في البنك الدولي لتمويل الاستثمار في أفريقيا.
نعم، تُعَدّ العلاقات الاقتصادية بين إثيوبيا وإسرائيل الأهم بالنسبة إلى الأخيرة في كامل إفريقيا، إذ يبلغ رأس المال الإسرائيلي الجاري استثماره في إثيوبيا أكثر من بليون و58 مليون دولار تشمل أكثر من 280 مشروعاً استراتيجياً في مجالات الطاقة والزراعة والرّي وبحوث الفضاء.
تدخل المياه في شكل دائم في دائرة الاهتمام الإسرائيلي. وتظل مياه نهر النيل من أهم أهداف التوجّهات الإسرائيلية الحالية في إفريقيا، علماً أن إثيوبيا قاربت على الانتهاء من أعمال بناء «سد النهضة»، الذي يؤثّر بصورة مباشرة على حصة دول المصب من المياه، خصوصاً وأن نحو 95 في المئة من احتياجات مصر المائية منفردة تأتي من النيل الأزرق.
الواضح أن كلّ التحرّكات الإسرائيلية في هذا الملف تنبع من رغبة في الضغط المُستمر على مصر، من أجل القبول إما بسيطرة إسرائيل على منابع النيل أو تسليمها جزءاً من حصّة مصر المائية. وهما خياران أحلاهما مرّ بالنسبة إلى الأخيرة، خاصة أن إسرائيل حاولت خلال تسعينات القرن الماضي، عرض خطّة رفضتها مصر، تقوم (إسرائيل) بمقتضاها بتمويل استكمال مشروع قناة «جونجلي» في جنوب السودان، وهو المشروع الذي توقّف في منتصف ثمانينات القرن الماضي، مقابل أن تتقاسم مصر والسودان نصف الحصّة التي سيتم توفيرها من المياه بعد إتمام المشروع، فيما تحصل إسرائيل على النصف الثاني مع دفع ملايين الدولارات لبقية دول المنابع.
يكشف ما تقدّم أن إسرائيل وضعت البُعدين العسكري والاستراتيجي لإفريقيا نُصب عينيها، انطلاقاً من الأهمية الاستراتيجية لدول منابع النيل كمتحكّم في شريان الحياة الرئيس في القارة، لكنها (إسرائيل)، التفتت أيضاً إلى أهمية دول الساحل الشرقي من أجل السيطرة على ثلاثية «البحر الأحمر – باب المندب – خليج عدن».
هل تعي الجهات المعنية ضرورة توحيد جهودها إزاء الملف المائي واعتماد استراتيجيا متعددة الأطراف وبناء تحالفات دولية لتقوية الموقف الشمالي (دول شمال أفريقيا)؟ يتطلب ذلك إعادة تقييم السياسة العربية تجاه الدول الإفريقية عموماً، ودول حوض النيل خصوصاً.
نقلا عن: الحياة