في فيلم «زوجة رجل مهم» للمخرج الراحل «محمد خان»، نُفاجأ بأن «عبد الحليم حافظ» هو أحد أبطال الفيلم، رغم أنه لم يظهر في أي لقطة، ورغم إنه لم يؤد أي مشهد كممثل، ورغم أن الفيلم قد صنع بعد رحيل «عبد الحليم» بعشر سنوات تقريبًا.
كيف فعلها «محمد خان»؟ أن يكون هذا الصوت هو المعبر عن مرحلة هامة من حياة الوطن، حيث تكون الأحداث في الفيلم خلال حقبة السبعينيات، ولا يكون إلا صوت «حليم» – الذى نحتفل هذه الأيام بالذكرى التسعين لميلاده – معبراً عن تلك السنوات التي حفلت بالكثير من الزخم السياسي والتغيرات الاجتماعية، ليس على مستوي الوطن بل على مستوي الأمة العربية وأشخاصها أيضًا.
https://youtu.be/y0ILIZJbGSI
من خلال تلك النظرة «الخانية» -نسبة إلى «محمد خان»- سنجد أن صوت عبد الحليم، هو أهم الأصوات المصرية التي عبرت عن حياتنا، شجنا وفرحا.. حب الطفولة وبدايات المراهقة وتقلباتها، شغف الحب في الجامعة، والهوس بالحب الأول الذي يخترق القلب لأول مرة، ثم اشتباك الحب مع مشكلات الحياة بعد ذلك.
اقرأ أيضا:
حليم.. العشق المصرى
وللتأكيد على حبنا لعبد الحليم وأنه لا يزال المطرب الذي يتربع على عرش قلوبنا، فقد لاحظنا ما نال النجم الراحل أحمد زكي – وهو الذى يحب الجمهور شخصه فى الحقيقة حبا كبيراً- لأدائه شخصية «العقيد هشام» في فيلم «زوجة رجل مهم»، ليس بسبب جبروت أو غطرسة الشخصية التى يؤديها، بل لأنه ظهر في مشهد يسخر فيه من عبد الحليم بصفته «حتة مطرب»، لأن زوجته – ميرفت أمين- والتي كانت من عشاق حليم وأغانيه، أرتدت الأسود حدادا عليه بعد رحيله. كان ذلك المشهد كفيلا بكراهية كبيرة له – رغم أداء أحمد زكي العبقري والمتميز في هذا الفيلم- وكفيلا أكثر لإثبات حبنا وعشقنا لحليم.
https://youtu.be/I3OHqtbfQ2w
فهل كان «خان» يقصد أن هذا الشعب – الموعود بالعذاب- لم يجد إلا صوت عبد الحليم ليعبر عن عذاباته وطموحاته، وانكساره ودقات قلبه؟.. لقد نجح «خان» في إيصال تلك الفكرة، النابعة في أساسها من قدرات «عبد الحليم حافظ»، وكأننا لن نجد إلا سواه للتعبير عنا. ونحن – هنا- نحاول أن نفهم أحد أسرار حبنا له، وعشقنا لصوته ولرحلته، وكيف لايزال بعد رحيله قبل ما يزيد عن أربعين عاما، متربعًا على عرش قلوب ووجدان الجماهير – حتي تلك التي لم تره أو تعايشه.
لقد أثبتت الأيام أن عبد الحليم حافظ ليس قديمًا، وأنه يستطيع أن يخترق الزمان بصوته وصورته ولا يتوقف، حيث –لا يزال – معشوق قلوبنا.فقد عاش عبد الحليم فينا، وأصبح داخل تكوين نسيجنا الإنساني، وهى مكانة لم يستطع أحد أن يزحزحه عنها أبدا.
كثير من الأشياء والأخبار جعلت قصة حليم، قصة ملهمة جدا انسانيا ودراميا وفنيا.. بداية من يتمه وطفولته الصعبة، ثم ارتباط مرض البلهارسيا به، ومن ثم كثرة العمليات الجراحية التي أجراها بسبب هذا المرض – 60 عملية تقريبًا.. فهل كان لرحلته مع المرض دور فى أن يكون هو المطرب المحبوب حتي الآن؟
أيقونة مصرية
من منا لم يناد حبيبته التي فارقته بأغنية «في يوم في شهر في سنة»، أو تمزق قلبه وهو يرى حبيبته تذهب لحبيب آخر، فيطلق حنجرته صارخا بأغنية «تخونوه»، أو حتي يتذكر قبضة عبد الحليم للوسادة على الفراش معبرًا عن شوقه الكبير لحبيبته، ومن منا لم يحتفظ بـ «دبلة» في يده لتذكره بحبه القديم، ومن منا لم يطلق أغنيته «الناجح يرفع أيده» كأغنية نجاحه في الثانوية العامة.
ومع حلاوة صوت العندليب وتعبيره الأكيد عن مشاعر و أحلام وطموحات المصريين فإن هناك أسبابا أخرى – غير حلاوة الصوت وتفرده – أكسبت العندليب كل هذا الحب وتلك المكانة فى قلوب المصريين والعرب.. ربما هى قصة حياة «عبد الحليم» من يتم وكفاح في بداياته ثم تعبيره عن ثورة يوليو وأحلامها حتي انكسارها في 67، ثم عودته مرة أخري كصوت للجهاد الحربي حتي تمت استعادة الأرض والكرامة في حرب أكتوبر73. ربما هو مرضه ورحيله المبكر، الذي مثّل صدمة لمحبيه – حتي الآن- هو ما جعل من سيرته أسطورة، ومن رحلة كفاحه تاريخا لا يمحي، وكأننا نعشق هذا الألم الذي عاشه عبد الحليم، ونتذكر كل حياتنا بالألم فقط. وربما لأن صوته استطاع أن يحمل بين نبراته كل مشاعر التفاؤل والطموح والحرمان والكفاح والفرح والحزن. وربما لأننا لم نعثر على حبيبته حتي الآن، رغم كثرة القصص حول حبه وارتباطه – سواء الخفي منها أو المعلن. وقد يكون حبنا لحليم واستمرار هذا الحب يعود إلى حنين بداخلنا لفترة الأبيض وأسود أو لفترة الخمسينيات والستينيات، وبالتالي حنين لصاحب الصوت الذي حمل لنا تلك الفترة حتي الآن، وربما لأنه عبر عن مرحلة الكفاح الوطني على المستوي الاقتصادي، خاصة مشروعات مثل «السد العالي»، وذهابه للغناء في تلك الأماكن، ما جعله يقترب أكثر من الجماهير، في أغاني «حكاية شعب» لأحمد شفيق كامل وتلحين كمال الطويل، و«الاستعمار» و«صورة» لصلاح جاهين وتلحين كمال الطويل، وتصويره الأغنية فى موقع السد العالى هناك وسط الكراكات والعمال وهو يرتدي زي العمال، وهو ما فعله فى أغنية «الجزائر » عام 1962 ليحيي فيها كفاح أهل الجزائر الذين نالوا استقلالهم في نفس العام. ثم ينتقل بصوته ليعبر عن فترة الكفاح المسلح، لإزالة آثار العدوان، فلم يتوقف صوته، ولم يختف، بل جاءت أغنيته «عدى النهار» في نفس عام النكسة 67، لتصبح إحدي أشهر أغانيه، من كلمات عبد الرحمن الأبنودي وألحان كمال الطويل، ثم وعده بترديد أغنيته «أحلف بسماها وترابها»، في كل حفلاته إلى أن تتحرر أرض سيناء،و«البندقية اتكلمت» سنة 1968، وكلاهما من كلمات عبد الرحمن الأبنودي وألحان كمال الطويل أيضا.
ومع العبور العظيم ونصر اكتوبر المجيد، علا صوت حليم بأغنية «عاش اللي قال» كأول أغنية يغنيها «حليم» بعد النصر، وهي من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدي، وهو ما جعل الرئيس السادات يشيد بها ويعتبرها خير تعبير غنائى عن انتصار مصر العظيم…
كل هذه الأسباب وغيرها هي التي أبقت حليم أيقونة حية فى قلوبنا جميعا، فبكل هذا الحضور وتلك الرحلة الحافلة والاغنيات الخالدة يبدو عبد الحليم وكأنه قد وضع «كراسة الحب والوطنية» كما ذكر صديقه ورفيق رحلته الاستاذ مجدي العمروسي في كتاب يحمل هذا الاسم.
https://youtu.be/tP-xnzCf7OA
تنويعات
ورغم أن صوت عبد الحليم ارتبط بقصص الحب، إلا أنه كان من الذكاء الفني بحيث جعل صوته ينطلق فى مساحات ومجالات مختلفة ومتنوعة، وغير الأغانى الوطنية الكثيرة التى صدح بها فقد شدت حنجرته بالابتهالات الدينية، مثله مثل النقشبندي وطوبار والكحلاوي في هذا المجال فلا ننسي له: «أنا من تراب» بتصويرها التليفزيوني في وقت الإفطار فى رمضان، أو ابتهاله «أدعوك يا سامع دعائي»، وكذلك ابتهاله «خلينى كلمة» وجميعها من كلمات الشاعر الكبير عبد الفتاح مصطفي، وألحان محمد الموجى.
وحين رحل العندليب، فإن جنازته والجماهير الغفيرة التي خرجت لوداعه لمثواه الأخير أثبتت أنه مطربها الدائم والأثير مهما حدث. وفي ذكري ميلاده التسعين يؤكد عبد الحليم حافظ أنه استاذ الحب والشجن وطبيب القلب الذي يعشق، والذكري الحلوة لكل أيامنا الحلوة.