يرى رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبي، الذي استضافت بلاده قمة مجموعة العشرين التى انعقدت مؤخرا بمدينة أوساكا، وناقشت إدارة المعلومات فى جميع أنحاء العالم، أن حوكمة المعلومات أصبحت أولوية عالمية. مجلة ذى «أتلانتيك» الأمريكية الشهرية اهتمت بتصريحات شينزو وقدمت تحليلا دقيقا لقضية تداول المعلومات، وأبعادها المختلفة، تقول المجلة:
في الواقع، فإن حقيقة أن الإنترنت أصبح معولماً ومفتوحًا نسبيًا قد ساهمت في نمو الاقتصاد الرقمي، حيث تخزن التطبيقات على هواتفنا، والبريد الإلكتروني صار متاحا في جميع أنحاء العالم،ويتم شحن السلع بين عشية وضحاها، كما يتم تبادل الأخبار والبحوث الطبية ومعلومات الأسهم الاقتصادية، وقد أصبح هذا كله جزءا من الاتصال العالمي بطبيعته الحالية.
رئيس الوزراء اليابانى «شينزو آبي»
ويساهم تبادل المعلومات بين المؤسسات (الشركات والجامعات، الحكومات، إلخ) عبر الحدود في تقديم وعرض وتسويق الشركات للخدمات في جميع أنحاء العالم، في نفس الوقت تقريبا، بينما تستفيد البلدان المتحالفة من ذلك في تقاسم معلومات إنفاذ القانون والمعلومات الاستخباراتية.
قمة مجموعة العشرين
نزاع معلوماتي
موضوع المعلومات وتبادلها وتداولها، سواء بين الدول والحكومات، أو بين الشركات والأفراد، كان أحد القضايا الرئيسية أمام قمة مجموعة العشرين الأخيرة. لكن المشكلة هنا هي أن الحكومات في دول مجموعة العشرين، مثل الصين والهند والاتحاد الأوروبي واليابان والولايات المتحدة، لديها اختلافات جوهرية حول النظرة إلى قضية تداول المعلومات. ولايقتصر الخلاف حول المسائل الفنية لكنها بمثابة فجوات عميقة، قد لا يمكن جسرها. وزاد من صعوبة ذلك أن قمة العشرين جاءت في وقت تخوض فيه الولايات المتحدة والصين حرباً تجارية تتمحور بشكل أساسي حول التكنولوجيا – وبالتالي، فإن المعلومات والبيانات محور من محاور تلك الحرب. ويعني ذلك أن القواعد الخاصة بمن يتحكم في المعلومات – وبالتالي تسخير قيمتها – هي جزء من منافسة جيوسياسية أكبر ستشكل موضعا للنزاع في القرن الحادي والعشرين.
ستُحدث اتصالات الجيل الخامس زيادة هائلة في المعلومات والبيانات، ولكن من منظور جيوسياسي، ويمكن القول إن التأثير الاستراتيجي الأكبر يكمن في أنظمة التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي (AI). ذلك لأن الباحثين يحتاجون إلى بيانات ومعلومات لتدريب وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، والتي لديها القدرة على تحسين كل شيء.. من سلامة النقل إلى تشخيص الأمراض.. إلى دقة الأسلحة الفتاكة. ليس فقط حجم البيانات و المعلومات هو المهم في المعادلة، ولكن أيضًا نوع البيانات والمعلومات ومكانها.
الذكاء الاصطناعي
في عالم سيتحكم فيه الذكاء الاصطناعي بوتيرة متسارعة، سيحتاج أولئك الذين يتطلعون إلى تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعى، إلى أن تكون الخوارزميات والمعلومات التي يعملون من خلالها دقيقة عن كل بقاع الأرض – وخصوصا تلك المتعلقة بالديموغرافيا وسهولة الوصول إلى البيانات حول التركيبات السكانية المختلفة في كل أنحاء العالم. وبالتالي ستؤثر القواعد التي تضعها الحكومات فيما يتعلق بهذا الوصول على المنافسة الدولية في مجال الذكاء الاصطناعى، فعدم الحصول على هذه البيانات يمكن أن يحد من مدى جودة المنتجات المصممة خصيصًا لأشخاص من أي جزء من العالم.
كما ستحدد هذه القواعد أيضًا إمكانية وصول الدول إلى البيانات و المعلومات عندما يتعلق الأمر بإنفاذ القانون والمراقبة المحلية، مما يجعل البيانات و إتاحتها وسهولة الوصول إليها عنصرًا متزايد الأهمية للأمن القومي، بالإضافة إلى النمو الاقتصادي.
ليس من المفاجئ إذن أن تصطدم الحكومات عندما يتعلق الأمر بوضع قواعد لمن يمكنه الوصول إلى أنواع معينة من المعلومات.
ومن المهم هنا أن نعرف أن بلدين مثل الهند والصين يكتسب أسلوبهما في التعامل مع البيانات والمعلومات أهمية خاصة، ذلك لأنهما يمثلان معاً أكثر من ثلث سكان الأرض.
ففي الهند تتطلب مسودات القوانين الهندية من الشركات التي تعمل في البلاد أو تجمع بيانات و معلومات عن المواطنين الهنود، معالجة أنواع معينة من البيانات الشخصية على الخوادم في الهند – حتى لو لم تكن الشركات مقرها في البلاد. ويعتبر المدافعون عن هذا النهج انه بمثابة رد فعل ضد ما يسمى باستعمار البيانات. ومع ذلك يشعر النقاد بالقلق من أن هذا النهج يمنح الحكومة الهندية سلطة غير محدودة لمراقبة مواطنيها.
منذ أيام وخلال لقائه بمجلس الأعمال الأمريكي الهندي، قبيل زيارته إلى نيودلهي، قال وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو «إن أمريكا ستدفع باتجاه التدفق الحر للبيانات عبر الحدود».
مايك بومبيو
أما في الصين فإن الحكومة الصينية تريد تخزين أنواع معينة من البيانات على الخوادم المحلية، فيما يمارس صانعو السياسة الأمريكية والتكتلات الصناعية الأمريكية والأوروبية واليابانية ضغوطًا على بكين منذ سنوات لتغيير هذه الأحكام و القواعد، لأنها قد تعني تكاليف باهظة للشركات الأجنبية، التي ستكون مطالبة بإنشاء مراكز بيانات محلية لتخزين وتحليل جميع بيانات الشركات. وقد تحدث الرئيس الصيني شي جين بينغ بشكل مكثف عن أهمية السيادة في الفضاء الإلكتروني، ومن الواضح أن التحكم في تدفق البيانات عنصر مرتبط بهذه الرؤية.
الرئيس الصيني شي جين بينغ
القوانين الصينية
ينص القانون الصيني صراحة على أن الحكومة لها الحق في مطالبة الشركات بتسليم البيانات لأسباب غير محددة تتعلق بالأمن القومي. ونتيجة لذلك، اعتبر مسؤولو الاتحاد الأوروبي أن الصين قد لا تكون مؤهلة أبدًا للترتيب القانوني بموجب الإتفاقية العامة لحماية البيانات (GDPR)، والتي تسمح بتبادل البيانات و المعلومات مع الاتحاد الأوروبي. فالاتفاقية، التي دخلت حيز التنفيذ العام الماضي، تنص على قواعد خصوصية صارمة لأولئك الذين يتعاملون مع بيانات مواطني الاتحاد الأوروبي. وقد تجد الشركات الصينية أنه من المستحيل الامتثال لقواعد وشروط تلك الاتفاقية ولقانون الأمن السيبراني الصيني في آن واحد.
المفارقة هي أن أولئك الذين صاغوا قواعد خصوصية البيانات في الصين تطلعوا في صياغتهم للقانون، للاتفاقية الأوروبية كنموذج. لكن القانون الذي أنشأوه للنظام السياسي في الصين، حيث تمتلك الحكومة سلطات مراقبة واسعة، يجعل من الصعب تصور كيف يمكن التوفيق بين النظامين.
في هذا السياق أبدت الحكومة الهندية مخاوف بشأن إساءة استخدام الشركات الصينية للبيانات الهندية، على الرغم من بعض أوجه التشابه في كيفية تخزين البلدين للبيانات محليًا. فعلى سبيل المثال، لا يُسمح للأفراد العسكريين الهنود بتثبيت أوتنزيل برنامج WeChat، وهو تطبيق المراسلة الاجتماعية الصيني، على هواتفهم، لكن يمكنهم استخدام WhatsApp على Facebook، وذلك على خلفية العلاقات المتوترة تاريخيا بين البلدين.
التوافق الصعب
قد تبدو محاولة إيجاد توافق في الآراء بشأن إدارة البيانات والمعلومات العالمية، وكأنها لعبة ألغاز معقدة وقد تكون بعض هذه الانقسامات الموجودة ببساطة غير قابلة للحل، وربما تتسبب تلك التعقيدات في تفكك و تقويض اقتصاد البيانات كما نعرفه.
وعلى هذه الخلفية، طرحت حكومة اليابان خطة تقوم على «تدفق مجاني للبيانات». وقد يكشف رئيس الوزراء اليابانى المزيد عنها في المستقبل القريب، لكن أحد التفسيرات هو أنه إذا كانت الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي ترى أن الصينيين يمكنهم تعقب مواطنيهم، فإن البيانات التي تصل إلى المواطنين الصينيين تنطوي على درجة من المخاطرة، حيث يمكنها إبرام اتفاقيات مشاركة البيانات مع بعضها البعض فقط (أو حتى مجموعة فرعية من تلك المجموعة)، ولكن مع الحفاظ على تقييد الوصول للشركات الصينية. قد يجعل هذا الأمر أكثر صعوبة على منصات الإنترنت الصينية لتطوير منصات الذكاء الاصطناعي للأماكن والديموغرافيا خارج الحدود الصينية عن طريق قطع الوصول إلى البيانات الضرورية.
الولايات المتحدة، من جانبها، تضغط بالفعل من أجل فرض قيود جديدة من شأنها أن تمنع الشركات الصينية والحكومة من الوصول إلى البيانات الحساسة عن المواطنين الأمريكيين. فعلى سبيل المثال، في شهر مارس الماضي، أبلغت الحكومة الأمريكية شركة ألعاب صينية تدعى Beijing Kunlun Tech بأنها ستحتاج إلى بيع Grindr، تطبيق المواعدة الأمريكية للمثليين، بسبب احتمال الابتزاز إذا سقطت بيانات التطبيق في أيدي المخابرات الصينية.
قانون الخصوصية الأمريكية
يلعب قانون الخصوصية الذي تجري مناقشته في الولايات المتحدة أيضًا دورًا مهمًا في التنافس الجيوسياسي، بينما تستخدم الهند وأوروبا و بلدان أخرى ،البيانات والمعلومات، على نحو متزايد، لتقييد الوصول إلى الأسواق لشركات التكنولوجيا المدمجة في الخارج. وإذا لم تفعل الولايات المتحدة شيئًا حيال هذا الأمر فقد يؤدي ذلك إلى ترسيخ فكرة أن المؤسسات التي تُفَعّل استراتيجيات Big Tech لا يمكن الوثوق بها للتعامل مع بيانات الأفراد بطرق غير مستغلة. ويعني هذا أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى إجراء عمليات فحص للخصوصية على شركات مثل Google و Facebook إذا كانت هذه الشركات ستستمر في البحث عن البيانات والوصول إليها عالميًا.
دونالد ترامب
إن تدشين سياسة تتفهم أنه لا يوجد بالضرورة مفاضلة بين الخصوصية والابتكار عليها ان تقطع شوطًا طويلًا نحو استعادة الثقة في مؤسسسات big tech داخل الولايات المتحدة الأمريكية وفي جميع أنحاء العالم بينما تساعد أيضًا في تعزيز التقدم في الذكاء الاصطناعى. بدلاً من السباق نحو الأسفل عندما يتعلق الأمر بالخصوصية، قد تكون هذه هي الطريقة الأفضل للتنافس ضد شركات الإنترنت الصينية على قيادة الذكاء الاصطناعي، بالتالي فإن المخاطر كبيرة في المنافسة على وضع قواعد لإدارة البيانات العالمية.
قد يبدو طموح رئيس الوزراء اليابانى للتوصل إلى توافق في الآراء بشأن هذه القضايا مثير للسخرية، لكن بدء محادثات تنطوي على وجهات نظر متضاربة بشأن البيانات و المعلومات في مراكز ثقل الجغرافيا السياسية قد يكون من بين أهم انجازاته.