رؤى

كيف استخدمت واشنطن مؤسسات التمويل الدولية للهيمنة على العالم ؟

في أعقاب الحرب العالمية الثانية قامت الولايات المتحدة بتشكيل النظام الاقتصادي العالمي، من ثلاثة مكونات رئيسية وهي: النظام النقدي الدولي المبنى على أساس سعر الصرف الثابت والدولار، والنظام المالي الدولي من شبكة المساعدات الخارجية، والنظام التجاري الدولي بهدف تحرير التجارة الدولية.

ففي عام 1944 دعت الولايات المتحدة ممثلي 44 دولة، إلى اجتماع في مدينة بريتون وودز، حيث وافقوا على إنشاء صندوق النقد الدولي لمساعدة الدول الأعضاء في مواجهة مشاكل ميزان المدفوعات قصيرة الأجل، ولتثبيت أسعار الصرف، حيث كانت الحروب التجارية والمنافسة في تخفيض سعر العملة أحد أسباب الحرب العالمية الثانية.

لكن بسبب الآثار الخطيرة لحرب فيتنام بدأ الضعف يدب في الاقتصاد الأمريكي، فظهر العجز التجاري لأول مرة عام 1970، وبدأت معدلات البطالة والتضخم في الارتفاع، وتزايدت المديونية الأمريكية.

Related image

ردع العصيان بالأزمات الثلاث

كانت الولايات المتحدة تعتمد في تمويل عجزها الخارجي، على الدور الذي يلعبه الدولار كعملة دولية. حيث أن بإمكانها التوسع في الإصدار التضخمي دون أن تخشى آثاره، طالما أنها تقوم بتصدير هذا التوسع الى مختلف دول العالم. وهذه الدول تقبل الدولارات الورقية وتعتبرها كعملة احتياط لغطائها النقدي المحلي، مما ينعكس عليها في شكل تضخم نقدي.

وقد تسبب ذلك في تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة من جهة ،وأوروبا واليابان من جهة أخرى، فطالبوها بسياسة انكماشية، في الوقت نفسه طالبتهم الولايات المتحدة بمعالجة فوائضهم. ومن أجل إعادة بناء سيطرتها على أوروبا واليابان والعالم الثالث، دفعت الولايات المتحدة في مطلع السبعينيات بثلاث أزمات عالمية هي:

1الأزمة النقدية: بسبب قرارات الرئيس( الأسبق) ريتشارد نيكسون في أغسطس 1971 ،والتي فاجأ بها حلفاءه على الأخص أوروبا واليابان، بإيقاف تحويل الدولار إلى ذهب ،بالإضافة الى فرض ضرائب على نصف الواردات الأمريكية وتخفيض المساعدات الخارجية. وفى مؤتمر جاميكا عام 1976 استسلمت الدول الصناعية الكبرى للسيطرة المالية  الأمريكية، حيث تقنن دور الدولار الورقي كعملة دولية. 

Image result for ‫ريتشارد نيكسون‬‎

ريتشارد نيكسون

2أزمة غذاء عالمي: ساهمت الولايات المتحدة في خلقها، من خلال بيع كميات ضخمة من الحبوب الى الاتحاد السوفييتي، أغلبها من فائض الحاصلات الأمريكية، وذلك على هامش اتفاقات الوفاق بين واشنطن وموسكو عام 1972، والتي كان لها تأثير خطير، تفاعل مع ظاهرة الجفاف التي تسببت في محاصيل هزيلة في أفريقيا وآسيا، وخاصة على اليابان التي تعتمد بشكل أساسي على واردات الغذاء من الولايات المتحدة.

Related image

3 وأخيراً أزمة البترول: والتي جاءت بعد فشل جهود جون كيندي وليندون جونسون في الحفاظ على الدولار كعملة رئيسية مسيطرة، وكذلك في الحفاظ على توازن التجارة الخارجية الأمريكية، وبعد أن دعت أوروبا (بقيادة الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول) إلى تحويل الدولارات الموجودة لدى الأوروبيين إلى ذهب. فقد اتجهت أمريكا، سعياً لحل مشاكلها الاقتصادية، إلى رفع أسعار البترول، والتحكم الكامل في أسعاره. فعقد وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، اتفاقا مع العاهل السعودي الراحل الملك فيصل في مايو 1973، أقرا بموجبه رفع أسعار البترول، بشرط قصر التعامل فيه على الدولار دون غيره من العملات، وبذلك ظهر ما سمي البترودولار.

Image result for ‫البترودولار‬‎

 لقاء هينري كيسنجر بالملك فيصل في السعودية

تدوير المال النفطي

كانت زيادة أسعار البترول وسيلة لضرب أوروبا و اليابان.فخلال الفترة من 74-1979، بلغ فائض الحساب الجاري للدول المصدرة للبترول نحو 200 بليون دولار، في حين قدرت بنحو 500 بليون دولار عام 1983.

وقد مثلت تلك الفوائض الضخمة الناتجة عن ارتفاع أسعار البترول عبئا على الاقتصاديات المستهلكة للبترول مثل أوروبا واليابان وبلدان العالم الثالث غير المنتجة للنفط. في حين كان ذلك في مصلحة الولايات المتحدة، التي يتم تحويل عائدات البترول لصالحها، سواء بشكل مباشر أوغير مباشر، وذلك عبر واردات السلع والخدمات، أوشراء الأسلحة، وتكاليف حفظ الأمن والدفاع عن العالم الحر، وفرض بعض النفقات العسكرية وغير العسكرية على دول الخليج.

كذلك فإن القروض التي كانت تؤَمِنْها الولايات المتحدة، تحملت جزءا أساسياً منها الدول المصدرة للبترول، هذا بالإضافة الى نفقات أخرى تدفعها الدول المنتجة للنفط، في صورة تكاليف إدارية بالعملات الأجنبية، حيث تعتمد هذه الدول على الخبراء  الأمريكيين بشكل متزايد.

كذلك فإن الدول المصدرة للنفط تتولى عن الولايات المتحدة ما يتوجب عليها من أعباء تجاه بعض المؤسسات الدولية، وتنشىء صناديق تمويل تحقق نفس أهدافها (أمريكا)، كما تدفع هبات لمؤسسات وجامعات أمريكية، إلى جانب تلك الأموال التي يتم تدويرها من خلال السندات الحكومية (سندات الخزانة الأمريكية والبريطانية) والاستثمارات المباشرة في الدول المتقدمة.

Image result for ‫تدوير المال النفطي‬‎

 أزمة المديونية وانقلاب الصندوق

في مواجهة الارتفاع في أسعار النفط اضطرت الدول المستوردة للبترول للاقتراض لتسديد العجز الناتج عن ذلك. ولم يكن أمامها سوى تلك الدول المصدرة للنفط، والتي تملك فوائض عائدات التصدير، التي تفوق قدراتها تماماً على الاستيعاب. وهنا برزت آليات جديدة في تدوير المال النفطي منذ عام 1974 بشكل أساسي، من خلال البنوك الخاصة العابرة للجنسية Transnational Banks التي تقبل ودائع الدول المصدرة للبترول، وتقوم بإقراضها الى الدول التي تعاني عجزاً.

وبذلك تغير دور النظام المصرفي الدولي بشكل جوهري منذ صدمة عام 1973، حيث لعبت البنوك الأمريكية التي قادت الطريق، الدور الأساسي في تداول الأموال النفطية في السبعينات، ليس فقط من خلال الخدمات والأساليب المالية الجديدة، ولكن من خلال تأسيس شبكة متكاملة من مكاتبها فيما وراء البحار.

 فبينما كانت وظيفة البنوك أن تقدم التسهيلات المالية للمقترضين الخواص، وبصفة أساسية الشركات العابرة للجنسية، بغرض تمويل استثماراتها وأنشطتها التجارية، فإن الودائع الحكومية مثلّت أكبر حصة من مواردها في السبعينات،وبالأخص من دول الأوبك، كما أنها كرست جزءاً من اقراضها لتمويل الدول النامية، والعجز في موازين مدفوعاتها، في آجال أطول من آجال صندوق النقد الدولي وبشروط أقل من شروط البنك الدولي.

Image result for ‫الأزمة المالية العالمية‬‎

وعندما أصبحت أزمة المديونية قضية مركزية في علاقات الشمال والجنوب منذ الثمانينيات، لم يعد من المستغرب أن تبحث حكومات العالم الثالث بصورة متزايدة، عن المساعدة من منظمات التمويل الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. ومن النتائج البارزة لأزمة المديونية تلك، كان النفوذ المتزايد الذي توفر لصندوق النقد الدولي، في صياغة السياسة الاقتصادية للحكومات في أنحاء العالم الثالث. وما ترتب على ذلك من بروز ظاهرة جديدة، أصبحت معروفة بظاهرة انقلاب الصندوق I.M.F Coup، حيث أصبحت أغلب دول العالم الثالث مضطرة الى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي في وقت ما. 

ونتيجة لذلك وجدت تلك الدول نفسها مقيدة بالشروط الاقتصادية للصندوق. وهي عادة ما تأخذ شكل برنامج تثبيت، يتضمن إجراءات انكماشية مثل تخفيض قيمة العملة، وتقليص القطاع العام، وتبنى موقف أكثر حرية بالنسبة للاستثمار الأجنبي ……الخ.

Image result for ‫الأزمة المالية العالمية‬‎

كسارة البندق

 وهكذا خططت الولايات المتحدة مباشرة ومن خلال الصندوق والبنك، وبإشراف وكالة التنمية الدولية( A.I.D ) لكي تعيد دول العالم الثالث (وسياستها الاقتصادية) إلى وضع التبعية، فأصبح الصندوق والبنك كحدي كسارة بندق تقبضهما اليد الأمريكية، وذلك من خلال تقسيم الأدوار بين الصندوق والبنك. فحين أنهت الولايات المتحدة نظام سعر الصرف الثابت، جردت صندوق النقد الدولي من وظيفته الأساسية. ولكن قبل أقل من ثلاث سنوات فتحت له الصدمة النفطية الأولى، من جديد، أبواب دول العالم الثالث، فالتفاقم الحاد في العجز الخارجي للدول النامية غير النفطية ترتبت عليه احتياجات تمويلية عاجلة، ومن ثم سقوط تلك الدول في فخ الدين. ومع الصدمة النفطية الثانية 78/79 تزايد وجود صندوق النقد الدولي رسوخا.

فمنذ ظهور الأزمة في السبعينيات وحتى الثمانينيات، أصبحت الوظيفة الهامة لصندوق النقد والبنك الدوليين هي أن تمد دول العالم الثالث التي تواجه عجزاً في النقد الأجنبي بالقروض، أو أن تساعدها في الحصول عليها، وهو ما أتاح الفرصة لكلا المؤسستين لرسم السياسات الاقتصادية لهذه الدول.  

حسني كحلة

باحث في الاقتصاد السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock