دان سالتر ومايا تودور
ترجمة: أحمد بركات
شهدت إندونيسيا والهند (الديمقراطيتان الأكبر والأكثر تنوعا في آسيا) مؤخرا سباقين انتخابيين وضعا قضية التسامح الديني على محك صناديق الاقتراع، وقد كشفت النتائج عن آراء متناقضة للناخبين في كلتا الدولتين.
ففي إندونيسيا، حققت حكومة الرئيس الحالي جوكو ويدودو (الذي يعرف باسم «جوكوي») فوزا كبيرا من خلال تبنيها رسالة التعددية. كان جوكوي قد دعا إلى قومية شاملة تتجاوز حدود الإسلام بوصفه الدين السائد في إندونيسيا، وقد لاقت فكرته رواجا لدى المجتمع الإندونيسي انعكس بقوة على صناديق الاقتراع.
جوكو ويدودو
أما في الهند، فقد رجحت كفة رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي، لكن على خلفية مغايرة تماما؛ حيث جاء فوز مودي، الذي يرأس حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي، بفارق كبير من خلال استدعاء رؤية حزبه «هند من الهندوس وللهندوس».
وعلى غرار جميع الانتخابات، لم تكن الانتخابات الإندونيسية والهندية مجرد استفتاء على قضية بعينها،. فكلا الزعيمين في البلدين يدينان بانتصاريهما لعوامل عدة، تتضمن، من بين أشياء أخرى، ما يتمتع به كل منهما من شعبية وقدرة فائقة على التواصل الجماهيري، ونجاحات سابقة في ملف التنمية،وبالقدر نفسه يدينان لموقفيهما من قضية التمييز الديني.
يضاف إلى هذه العوامل الذاتية عوامل أخرى لا تقل أهمية، ففي الهند، اختارت المعارضة، ممثَلة في حزب المؤتمر الذي يتبنى فكرة الدمج الديني، مرشحا ينتمي إلى أسرة سياسية عريقة، لكنه يفتقر تماما إلى الجاذبية الجماهيرية، بينما لم يرشح الحزب الديمقراطي الإندونيسي، الذي ينتمي إليه الرئيس جوكوي، زعيمه، الذي ينتمي أيضا إلى عائلة سياسية مرموقة، لخوض هذه الانتخابات لافتقاره إلى الشعبية.
ناريندرا مودي
التجربة الديمقراطية في الهند واندونيسا
قد تبدو الفكرة سطحية، لكن الرسالة التي تبعث بها هذه الانتخابات مفادها أن التسامح الديني لا ينتصر إلا من خلال مؤسسات سياسية قادرة على اختيار مرشحين أكفاء. يعني هذا أن انتصار التسامح الديني، على نحو ما حدث في إندونيسيا، قد يكون هشا وغير حاسم وقصير الأمد.
وهناك عامل أقوى وأثقل في الميزان السياسي، وهو المفاهيم التاريخية الراسخة لدى الدول للتعددية، فالعودة إلى الوراء لعقود أو قرون يساعد في تحديد ما إذا كانت الرسالة ستصادف آذانا صاغية أم صماء. فمنذ اللحظة الأولى لتأسيسهما المتزامن إلى حد كبير كدولتين قوميتين مستقلتين في نهاية أربعينيات القرن الماضي، ورثت كل من إندونيسيا والهند التعددية القومية عن القادة والحركات الذين ناضلوا من أجل الاستقلال. وبشكل حاسم، لم يميز الدستور في كلتا الدولتين الدين المهيمن ديموغرافيا (الهندوسية في الهند والإسلام في إندونيسيا) على بقية الأديان.
بصورة إجمالية، مثَّل هذا المفهوم التعددي موردا ديمقراطيا مهما في كلتا الدولتين. فقد ساعد في شرح مرونة الديمقراطية الهندية منذ نهاية الأربعينيات، والانفتاح الديمقراطي المفاجئ الذي أعقب الحكم العسكري في إندونيسيا في نهاية التسعينيات. إن الديمقراطية الاستيعابية تمثل قيمة دائمة للديمقراطيين التسامحيين، سواء قي أوقات التحول الديمقراطي، أو عند مواجهة الرؤى الأكثر إقصائية وتمييزا في السباقات الانتخابية. وعلى الرغم من أن سياسات الاحتواء الرسمية لا تمنع السياسيين من اللجوء إلى المجتمع الديني السائد، فإن العلمانية الهندية وفلسفة البانتشاسيلا في إندونيسيا (وهي خمسة مبادئ رئيسة أعلنت غداة الاستقلال في عام 1945، وتضمنها الدستور لتكون مبادئ حاكمة للبلاد) التي تفرض الإيمان بإله واحد، حتى ولو كان غير الإله الذي يؤمن به المسلمون، تساعدان على ترسيخ شرعية الأحزاب السياسية التعددية الكبرى في البلاد ورسائلها التي تدعو إلى الاحتواء والدمج.
تحالف القومي والديني في إندونيسيا
لكن إذا كان ما يجمع بين الدولتين هو نمطهما الاستيعابي القومي، فلماذا إذا انتصر التسامح في إندونيسيا بينما أخفق في الهند؟ بعيدا عن العوامل المرتبطة بالحملات الانتخابية والمحدِدة للمرشح، قد يعتقد المرء أن الآراءالتعددية ستزدهر بسهولة في الهند العلمانية أكثر منها في إندونيسيا التي تؤطر عقيدتها القومية للإلحاد باعتباره أمرا خارجا عن القانون. ونظرا لأن أندونيسيا قد حددت هويتها القومية بصورة أكبر في إطار ديني، وأتاحت للمسلمين الأكثر تدينا مواقع مركزية في الجماعة الوطنية، فقد تبدو أكثر عرضة من الهند للتعصب الديني الذي يؤثر على سياساتها الانتخابية.
لكن على مستوى الممارسة، فإن النمط الديني للقومية الإندونيسية يمكن أن يقوم بدور ’اللقاح‘ الواقي من فيروس‘ التعصب الذي يحول دون انتشاره. ونظرا لأن الهوية القومية لإندونيسيا تستوعب الإسلام دون أن تمنحه الأولوية، فإن السياسة هناك ليست منقسمة بين المسلمين والأقليات غير المسلمة. على العكس من ذلك، فقد تحالف المسلمون القوميون مع غير المسلمين في مواجهة المسلمين الأكثر تعصبا. ومن ثم، فإنه في إندونيسيا يمكن بسهولة أن تكون مسلما ملتزما وقوميا تعدديا في آن.
توافقت انتخابات 2019 في إندونيسيا مع هذا النمط. وقد سهل التمسك التاريخي للقومية الإندونيسية بالدين على حزب جوكوي التعددي تشكيل تحالف مع «جمعية نهضة الأمة»، وهي أكبر جمعية إسلامية بالبلاد. لا شك أن اختيار جوكوي لقائد محافظ من جمعية نهضة العلماء كمرشح على مقعد نائب الرئيس ليكون رفيقا له في السباق الانتخابي قد أثار غضب المؤيدين الليبراليين، لكن الذي لا شك فيه أيضا هو أن هذا الاختيار ساعده على ضمان أغلبية ساحقة في المناطق المكتظة بالسكان في جاوا الوسطى والشرقية حيث تضرب الجمعية بجذور عميقة. لقد أسهم تحالف حزب جوكوي مع جمعية نهضة العلماء، والتزامهما بقومية تجمع بين الإسلام والتعددية في فوز جوكوي بالانتخابات أكثر من أي شيء آخر.
قومية هندوسية متعصبة في الهند
لكن الأمر يختلف في الحالة الهندية. فالقومية الهندوسية مؤثرة ونافذة منذ زمن طويل في السياسة الهندية، لكن دستور ما بعد الاستقلال يؤكد على الحقوق المتساوية لجميع الأقليات. وقد دعمت القيادة التاريخية للزعيم الهندي الأيقوني، جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند، هذه البنية الدستورية؛ مما أدى إلى صياغة قوانين منفصلة للأديان وسياسة للاعتراف بالطبقات والإقرار بحقوقها حددت مسارات السياسة الهندية لعقود من الزمان.
جواهر لال نهرو
لكن بمرور الزمن، أدى الخط الفاصل بين دين الأغلبية وشخصية الدولة إلى توحد قوى القومية الدينية في جانب واحد من جانبي الخط السياسي، وهو جانب حزب بهاراتيا جاناتا المحافظ اجتماعيا. كان التحول تدريجيا. ويبين عالما السياسة براديب شهيبر وراهول فيرما أنه منذ خمسة عشر عاما صوت القوميون الهندوسيون المتعصبون، الذين فضلوا أن تلتزم الدولة بالقومية المتشددة لحساب حزب بهاراتيا جاناتا بأغلبية كبيرة، بينما انقسمت أصوات هؤلاء الذين فضلوا ببساطة حماية الثقافة الهندوسية مناصفة بين حزبي بهاراتيا جاناتا والمؤتمر. لكن حزب بهاراتيا جاناتا تمكن من الترويج لفكرة مفادها أن الدولة الهندية يجب أن تمنح الأولوية بقوة للثقافة الهندوسية، وأن العلمانية لم تكن سوى سياسة لاسترضاء الأقلية. وبحلول عام 2014 كانت أعداد كبيرة من الهندوس المتدينين قد انضمت إلى حزب بهاراتيا جاناتا. وعلى النقيض من الحالة الإندونيسية، فقد صار من الصعب في الهند اليوم التمسك بالهندوسية ومعانقة القومية التعددية. إن قدرة مودي على الفوز بدعم كل من الناخبين الشباب الطموحين الذين انجذبوا إلى ديناميته والناخبين الهندوس المتدينين الذين يؤمنون بالأغلبية الثقافية قد أدى في نهاية المطاف إلى فوزه بالسباق الانتخابي.
تمتلك كل من الهند وإندونيسيا أسس التعددية وهزيمة التعصب الديني. لكن مدى الاستفادة من هذه الأسس يعتمد بالأساس على الأحزاب التعددية في كل منهما. فبغض النظر عن الموروث القومي الاستيعابي في إندونيسيا، فإن البلاد تشهد تصاعد مد إسلام سياسي ذي نمط سلطوي. وليس هناك ما يضمن صمود هذا الموروث التعددي في المستقبل. أما في الهند، فقد تمكنت القومية الهندوسية من تحقيق الفوز في هذه المرة، لكن التعددية قد تسود إذا تخلت المعارضة عن أبناء الأسر الحاكمة ودعمت سياسيين أكثر جاذبية وقدرة على الاستفادة من التناقضات الأيديولوجية داخل القاعدة المؤيدة للحزب الحاكم.
ربما في المرة القادمة، عندما تدور رحا الانتخابات في الهند وإندونيسيا، سنروي قصة مغايرة تماما. أما ما لا مراء فيه فهو أن معركة الدفاع عن التعددية في الديمقراطيتين الأكبر والأكثر تنوعا في آسيا لم تضع أوزارها بعد.
*هذه المادة مترجمة؛ يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?