هل حملت رياح الربيع العربي بذور انهيار الشرق الأوسط الذي كان يضج قبلها تحت وطأة العديد من الصراعات والانقسامات؟ وما هي عوامل هذا الانهيار؟ وهل سيكون الانهيار كليا أم عبر سلسلة من الانهيارات الجزئية؟ وما هي سبل الحيلولة دونه؟
يتصدى محمد أيوب، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ولاية ميتشيجان الأمريكية ومؤلف كتاب The Many Faces of Political Islam (الوجوه المتعددة للإسلام السياسي) (2007) للإجابة على هذه الأسئلة من خلال كتاب مهم حمل عنوان Will the Middle East Implode? (هل سينهار الشرق الأوسط؟)، والذي صدر عن دار نشر بوليتي ضمن سلسلة كتب Global Futures، ويعد أحد أهم الأدبيات التي تناولت مآلات الربيع العربي.
فسيفساء مشهد معقد
يتألف الكتاب من ستة فصول يمثل أولها مقدمة يتبعها أربعة فصول تحدد بدقة، وربما بنظرة تشاؤمية لا تخلو من كثير من الموضوعية، عوامل الانهيار المرتقب، ثم فصلا سادسا يمثل خاتمة الكتاب.
في الفصل الأول «After the Arab Spring» (ما بعد الربيع العربي) يتناول أيوب بصورة مجملة مآلات هذا الربيع، ويؤكد مبكرا أن الثورات التي اجتاحت العالم العربي من تونس إلى البحرين لم تكن سوى «سراب سيؤدي حتما إلى زوال الوهم (أو الحلم)»، حيث أضافت هذه الثورات كثيرا إلى حالة الغموض التي تكتنف السياسات الشرق أوسطية، مما تسبب في إرباك حسابات معظم القوى الإقليمية والخارجية وأودت بالمنطقة – المتخمة بالأساس بالصراعات والتوترات – إلى حالة من السيولة والقابلية للاشتعال.
في الجزء الثاني من هذا الفصل يحدد أيوب «أربعة عوامل رئيسة للاشتعال المحتمل»، ويعنون بكل منها لفصوله التالية، حيث يتناولها بقدر من التفصيل.
يحمل الفصل الثاني عنوان The Islamist Challenge (التحدي الإسلاموي) باعتباره أحد الندوب في الجسد الشرق أوسطي التي عمّقها الربيع العربي وأضاف إليها أبعادا جديدة. وفي هذا الإطار يقسم أيوب الحركات الإسلامية بوجه عام إلى فصيلين كبيرين، هما:حركات الإسلام السياسي البرجماتية، التي لا تمانع فى دخول اللعبة السياسية، والحركات الجهادية التي تنتهج العنف كآلية وحيدة للتغيير، لكنه يؤكد أن كلاهما نشأ في القرن العشرين من خلفية معادية للمشروع الغربي.
ونتيجة للثورات العربية نجح التيار الأول ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين في ارتقاء سلم السلطة سريعا، وهو ما أثار مخاوف الغرب الأوربي والأمريكي وذراعه الإسرائيلي في الخارج، كما أثار قلق التيارات العلمانية في الداخل. وبرغم إقصاء جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم في مصر في عام 2013. إلا أن المشهد لا يزال معقدا، حيث تمكنت الجماعة من خوض تجارب ناجحة في دول أخرى مثل الأردن والمغرب، فضلا عن التجربة التركية التي نقلت مقاليد السلطة في البلاد إلى «حزب ما بعد إسلاموي»، كما يصفه أيوب، أو «حزب ديمقراطي محافظ»، كما يحلو لقادة «العدالة والتنمية» أن يصفوا أنفسهم ، لكن بكل الأحوال تحول «قلب التوازنات في العلاقات المدنية العسكرية لصالح الأول»
أما التيارات الراديكالية العابرة للحدود فقد ظهر دورها جليا في الدول الضعيفة، أو شبه الفاشلة، حيث انخرطت الجماعات الموالية لتنظيم القاعدة في ليبيا ومالي واليمن والعراق وسوريا وغيرها، في معارك محلية تهدف في الغالب إلى تحقيق هيمنة إقليمية داخل دول موجودة بالفعل (وهو ما نجح فيه فعليا «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»). ويحذر أيوب من تعاظم دور هذه الجماعات في الدول التي فشلت فيها التجربة الديمقراطية.
تأثير سلبى على القضية الفلسطينية
يتناول الفصل الثالث Deadlock Over Palestine «الجمود في الشأن الفلسطيني» تأثير الثورات العربية على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يبدأ الفصل من حيث حركة «حماس» باعتبارها «حركة إسلامية، لكنها ليست حزبا إسلاميا حاكما أو معارضا»، وباعتبارها أيضا «منظمة تجمع بين الأيديولوجيا الإسلامية والأيديولوجيا القومية»، وقد انحازت الحركة، ومن ورائها عموم الشعب الفلسطيني، للثورات العربية باعتبارها ثورات اندلعت ضد أنظمة كانت – من وجهة نظرهم – أكثر انحيازا للمصالح الإسرائيلية. ومع صعود جماعة الإخوان المسلمين للحكم في مصر في منتصف عام 2012، استقوت الحركة، التي كانت تتربع على عرش السلطة في غزة، بالحليف المصري الجديد، الذي أبدى بدوره إنحيازا لها تجلى أكثر ما تجلى إبان العدوان الإسرائيلي على غزة في نوفمبر 2012، واستعاضت الحركة الإخوانية بالنظام المصري الجديد عن الحليف السوري الذي خسرته نتيجة اصطفافها مع القوى الديمقراطية ضد نظام الأسد في الثورة التي اندلعت في منتصف عام 2011.
إزاء ذلك، نقلت الحركة مقارها في المنفى من دمشق، كما انتقل خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، من دمشق التي قضى فيها عدة سنوات إلى قطر في يناير 2012. ومع سقوط الحكم الإخواني في مصر، وجدت الحركة نفسها بلا حليف، بعد أن خسرت الحليف الإيراني، بكل ما كان يقدمه من دعم سياسي واقتصادي وعسكري، بسبب موقفها من النظام السوري، ثم الحليف المصري والسعودي والإماراتي بسبب انحيازاتها في مصر.
تدخل خارجى
لم يكن ذلك – بحسب أيوب – مؤثرا فقط في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي تبلورت فيه توازنات جديدة مع وصول جماعة الإخوان للحكم في مصر، وإنما امتد هذا التأثير إلى الصراع الداخلي بين حركتي حماس وفتح، الذي مالت كفته في بداية الربيع لصالح الطرف الأول، ثم لم تلبث بعد عام 2013 أن تحولت إلى الجهة الأخرى.
ويخلص أيوب إلى أن الربيع العربي قد أضاف مزيدا من الركود إلى مياه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الراكدة بالأساس.
وإذا كان للصراع الإسرائيلي الفلسطيني منشؤه ومساره المستقلان عن الثورات العربية، فإن العلاقة بين تلك الثورات واحتدام التنافس بين قوى إقليمية ودولية في منطقة الشرق الأوسط بات أكثر وضوحا وأسهل تمييزا. فبرغم اندلاع هذه الثورات منذ نهاية عام 2010 لأسباب محلية بحتة تتعلق بالقمع السياسي والركود الاقتصادي والملف الحقوقي، إلا أن نتائجها كانت ولا تزال تتأثر، بل وتتحدد وفقا للمصالح الاستراتيجية والاقتصادية للقوى الإقليمية والدولية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط، وليس وفقا لمصالح القوى السياسية المحلية في بلدان الربيع.
وانطلاقا من هذه الرؤية، يؤكد أيوب في الفصل الرابع، الذي يحمل عنوان Regional and Global Rivalries (الصراعات الإقليمية والدولية)، أن المأزق السياسي والعسكري في سوريا، وإجهاض الحركة الديمقراطية في البحرين، وضبابية المستقبل في اليمن، والطبيعة الفوضوية للمسار الانتقالي في ليبيا، كل هذا وغيره قد تأثر بعمق وبدرجات متفاوتة بالمواقف التي تبنتها القوى الإقليمية والدولية، وبتدخلها – في كثير من الأحيان – في عمليات التحول. وفي نهاية هذا الفصل، يخلص أيوب إلى أن الديناميات المحلية المستقلة للتحول السياسي قد أفسدها «تدخل قوى خارجية تمتلك أهدافا وأجندات خاصة، تختلف عن تلك الخاصة بالقوى السياسية المحلية»
إيران وأمريكا
ويتناول أيوب في كتابه قضية تطوير إيران لقدراتها النووية، التي يعرض لها في الفصل الخامس تحت عنوان Iran and the Bomb (إيران والقنبلة النووية)، ويشير إلى أنه لا علاقة بين الصراع الأمريكي الإيراني، وبين الربيع العربي من قريب أو بعيد. فهذا الصراع بين واشنطن وطهران أشبه بالحلقة المفرغة، والثابت الوحيد فيها هو أن «جميع الخيارات مطروحة» بدءا من الحلول السياسية ومرورا بالعقوبات الاقتصادية ووصولا إلى الحل العسكري . رغم ذلك، يقترح أيوب إنشاء «منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الأوسط» كمخرج وحيد لهذا الصراع باعتباره أحد الصراعات التي تضع المنطقة بأسرها فوق صفيح ساخن.
يمثل الفصل السادس والأخير خاتمة الكتاب التي تجمل ما فصل على مدى أربعة فصول. يعنون الكاتب لهذا الفصل بالسؤال الكبير الذي يحمله غلاف الكتاب Will the Middle East Implode؟ (هل سينهار الشرق الأوسط؟).. ورغم أن الكاتب يترك القوس مفتوحا، إلا أنه يؤكد أن «القوى التي حُلًت من عقالها بفعل الثورات العربية قد ضاعفت من حدة وتعقيد المشكلات التي كانت موجودة من قبل، وأضافت لها أبعادا جديدة» ويخلص الكاتب إلى أن هذا الربيع قد خلف وراءه أنظمة سياسية محطمة ودولا فاشلة وحروبا بالوكالة وصراعا سنيا شيعيا واحتمالات متزايدة بصعود جديد للتيارات الجهادية الراديكالية.
ربما لا يقدم الكتاب إجابة حاسمة على السؤال الذي يطرحه على مدى ما يقرب من 200 صفحة، لكنه يؤكد أن احتمالات حدوث ذلك «الانهيار» قد تضاعفت عما كانت عليه قبل اندلاع هذا الربيع. فقد نجحت الثورات العربية في زعزعة منظومة الحكم القديمة، وأزالت عنها قبضتها الحديدية وما كانت عليه من استقرار وسكينة في تسلطها على الشعوب، لكنها فشلت في تأسيس منظومة جديدة أو تقديم نموذج بديل لصياغة العلاقات داخل الدولة وبين الدول في المنطقة.
وتمثل هذه الحالة من الانهيار والسيولة عند أيوب مقدمة لحالة أشد من الضعف والصراعات كتلك التي سبقت الحرب العالمية الأولى في أوربا.إذ «يبدو أن الشرق الأوسط يترنح على أعتاب أزمة مشابهة».