ربما لم تعرف أمريكا اللاتينية شخصية أثّرت في تاريخها وألهمت شعوبها وأبنائها قدر شخصية سيمون بوليفار الذي عُرف في القارة بلقب واحد ظل الأعز عليه رغم تعدد ألقابه ورتبه وهو ..المحرر.
فبوليفار المولود في فنزويلا في عام 1783، جسّد على مدار أكثر من عشرين عاماً طموحات أبناء القارة في الاستقلال والحرية، وفوق هذا وذاك في تجاوز القطرية والتوحد في دولة مركزية.
حرب ضد الإستعمار
خاض بوليفار حروباً عدة ضد الاستعمار الإسباني لأمريكا الجنوبية انتهت بتحرير القارة وإعادة السيادة فيها إلى أيدي أبنائها ونجح في تأسيس دولة عرفت باسم كولومبيا الكبرى ضمت دولاً عدة كالاكوادور وبنما وفنزويلا وكولومبيا في كيان سياسي واحد.
لم تكن مسيرة التحرير التي خاضها بوليفار بدءا من عام 1810، بالسهلة أو الهينة، حيث تعرض لانتكاسات عدة، كان أبرزها في عام 1814، حين تعرضت قواته لخسارة أمام قوات موالية لإسبانيا مما إضطره للجوء إلى هايتي التي كانت قد نالت استقلالها عن فرنسا.
ومرة تلو الأخرى، كان بوليفار يثبت قدرته على النهوض من عثرته، فعاد إلى موطنه فنزويلا عام 1817 معلنا «حكومة ثورية» وتم انتخابه رئيسا للبلاد، ثم حقق نصرا على الاسبان في معركة بوياكا عام 1819 محررا ما يعرف اليوم بكولومبيا.
وتوالت انتصاراته على الاسبان بدءا بمعركة كارابوبو عام 1821 وتمكنه في العام ذاته من الزحف نحو الاكوادور والسيطرة عليها وضمها إلى جمهوريته الوليدة.
وفي إطار إيمانه التام بأن استقلال أميركا الجنوبية لن يتم ولن يكتمل إلا في حال تلقي إسبانيا هزيمة عسكرية في كافة أرجاء القارة وكل مستعمراتها فيها، قاد بوليفار في عام 1824 القوات الثورية في بيرو وتمكّن من سحق القوات الاسبانية في معركة أواكوشو.
وفي العام التالي منحت شعوب القارة بوليفار لقبه الأحب إلى نفسه: المحرر وتم اختياره رئيسا للبيرو.
حلم الدولة الواحدة العادلة
حلم بوليفار باقامة اتحاد مشابه للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن رؤية «القائد المحرر» إمتازت عن رؤية الولايات المتحدة بأمر أساسي وهي رغبته في اقامة دولة تقوم على المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن لونهم أو عرقهم، سواء كانوا من السكان الأصليين أو السود أو الأوربيين البيض.
ومن اللافت أن بوليفار ورغم نجاحه في تحرير أمريكا الجنوبية إلا أن معركته الأهم، والتي كتبت نهايته السياسية لم تكن مع الاستعمار الاسباني وإنما مع رفاق النضال.
حيث حكم بوليفار جمهورية مليئة بالتناقضات والانقسامات بين فصائل راغبة في الانفصال، ومع تزايد حركات التمرد وتفكك أوصال جمهورية كولومبيا التي أسسها، قدّم بوليفار استقالته من الرئاسة في عام 1830.
وفي العام ذاته خسر بوليفار معركته الأهم مع عدو لم يستطع منازلته، وهو مرض السل الذي فتك به في ديسمبر من ذلك العام أثناء وجوده في كولومبيا.
وعلى مدار نحو قرنين تقريبا منذ وفاته، ظل بوليفار يلهم أبناء قارته على مختلف الأصعدة، فعلى صعيد السياسة ظل اسمه محفزا لعشرات الثورات التي هدفت إلى انتزاع الاستقلال الوطني والاقتصادي من براثن الاستعمار الجديد.
وفي مقدمة هذه الثورات: الثورة الكوبية بقيادة كل من فيدل كاسترو وتشي غيفارا والتي بدا واضحا فيها تأثر قادتها بأساليب الحرب التي انتهجها بوليفار ضد المستعمرين الإسبان والتي طبقها الثوار ضد قوات نظام الجنرال باتيستا رئيس كوبا آنذاك والمدعوم من واشنطن، وأسفرت في النهاية عن انتصار الثورة في أوائل عام 1959.
فيدل كاسترو، وتشي جيفارا
وعقب انتصار الثورة سعى غيفارا لاستنساخ النموذج الكوبي في بلد لاتيني أخر حمل اسم بوليفار وهو بوليفيا، ورغم اخفاق تجربة غيفارا هناك والتي انتهت بأسره واغتياله عام 1967، إلا أنها أثمرت حركة نضالية توجت بوصول عامل من السكان الأصليين إلى سدة الرئاسة عام 2006 هو إيفو موراليس المتأثر بأفكار كل من بوليفار وغيفارا.
إيفو موراليس
وفي 1998 وصل إلى الرئاسة في فنزويلا، مسقط رأس بوليفار، عسكري شاب هو «هوغو تشافيز» الذي ينتمي تماما كموراليس إلى السكان الأصليين، والذي يعتبر بوليفار مثله الأعلى. فقد بدأ تشافيز عهده بتغيير اسم فنزويلا الرسمي إلى جمهورية فنزويلا البوليفارية وبقي حتى وفاته عام 2012 رمزا لمناهضة السياسات الأمريكية في أمريكا الجنوبية.
هوغو تشافيز
ولم يقتصر تأثير بوليفار على مجال السياسة بل تعداه إلى الأدب أيضاَ، ففي عام 1989 أبدع أديب كولومبيا الأشهر غابرييل غارسيا ماركيز روايته الشهيرة «الجنرال في متاهة»، وهي رواية تاريخية توثق الأيام الأخيرة من حياة الجنرال سيمون بوليفار، بدءًا من رحلة المنفى من بوغوتا إلى الساحل الكاريبي لكولومبيا في محاولة لمغادرة أمريكا والذهاب إلى منفاه في أوروبا.
وفي حين أن هذه الرواية تقوم على أحداث سياسية وتاريخية حقيقية، إلا أن ماركيز سعى من خلالها إلى تقديم الجانب الانساني من شخصية بوليفار خاصة في محنته الأخيرة التي سبقت وفاته.
وفي عام 2013، أنجز المخرج الفنزويلي ألبرتو ألفيرو فيلم «المحرر» الذي يتناول سيرة بوليفار بدءاً برحلته إلى أوروبا التي أثّرت كثيرا في فكره، ثم معاركه العسكرية والسياسية انتهاء بتحرير القارة. وقد جسّد دور بوليفار في الفيلم الممثل الفنزويلي الشهير إدغار راميريز، ونال أداؤه استحسانا من النقاد، ورشح الفيلم لنيل لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي.
وبعد مرور كل هذه السنوات يبقى سيمون بوليفار، في السياسة والأدب والفن على حد سواء، بمثابة أيقونة يلجأ إليها أبناء أمريكا اللاتينية كلما راودتهم أحلام الاستقلال والحرية والمساواة.
تمثال بوليفار بميدان بيلجريف بلندن