كانت حرب أكتوبر المجيدة وستظل حاملة لأعظم تجليات الشخصية المصرية التي صاغت من الصبر والإصرار، والعرق والدموع، والغضب واليقين، إرادة الانتصار.. فما حققه الرجال على الأرض في ذلك اليوم وفي أصعب الظروف، سيبقى أحد أهم مشاهد تاريخنا الحديث،إن لم يكن أهمها على الإطلاق.
كان يوم السادس من أكتوبر عام1973، تتويجا لجهود استمرت لأكثر من ست سنوات، صنع خلالها الجندي المصري بعزمه و دمه أروع الملاحم فى أشرف المعارك. وكان من المفترض أن يكون الفن على مستوى الحدث أو قريبا منه. لكن الأعمال السينمائية والدرامية التي ناقشت هذا الحدث الكبير، جاءت في معظمها أقل بكثير مما كان منشودا، وظلت حرب العبور بقصصها وحكاياتها وبطولاته المدهشة ،كنزا عجز صناع الفن عن اقتناص جواهره الثمينة.
الرصاصة لاتزال في جيبي
مع بداية عام74 رأت القيادة السياسية أن من الواجب على السينمائيين أن يقوموا بدورهم الوطني في تسجيل بطولات حرب أكتوبر، وتحفيزا لهم قررت الجهات المعنية منح أولوية التصريح بالعرض للأفلام التي تتناول الحرب المظفرة.. وبالقطع فإن مشاهد العمليات الحربية كانت بدعم كامل من القوات المسلحة.. وتبارى السينمائيون في إنتاج أفلام تخلد ملحمة العبور العظيم، ليكون عرضها الأول في الذكرى الأولى للانتصار المؤزر.
https://youtu.be/LpVyF9Y0esE
كان أول هذه الأفلام فيلم «الرصاصة لا تزال في جيبي» من إخراج حسام الدين مصطفى عن قصة إحسان عبد القدوس، والسيناريو والحوار لرمسيس نجيب، باستثناء سيناريو المشاهد الحربية الذى كتبه رأفت الميهي.. وللأسف رغم توفر العديد من عناصر النجاح للفيلم؛ إلا أنه لقى استهجانا كبيرا عند عرضه في مصر ولبنان وعدد من الأقطار العربية، وتعرض مخرجه وبطله لهجوم عنيف من النقاد في قرطاج.. وكان السبب في ذلك أن صناعه أرادوا مغازلة نظام الرئيس السادات- وربما كان ذلك مطلب النظام- بتلويث الحقبة الناصرية ووصمها بالفساد وتحميل شخص الرئيس عبد الناصر مسئولية الهزيمة؛ وذلك من خلال شخصية «عباس» رجل الاتحاد الاشتراكي الفاسد الذي اغتصب بطلة الفيلم، وهي ترمز لمصر التي سينتشلها الجندي «محمد مغاوري» – بالطبع لا يخفى على أحد لمن يرمز- من الوحل، ليمحو عنها عار الهزيمة والاغتصاب.. وصل الأمر بالجمهور اللبناني إلى إحراق بعض دور العرض؛ غضبا مما حملته رسالة الفيلم، بالرغم من أن صناعه وفقوا إلى حد كبير في مشاهد العمليات العسكرية التي استعان فيها الإخراج بمنفذ معارك أجنبي هو «ماريوما» ومونتير إيطالي«كلوديو كونرى» ومصور إيطالي يدعى «كوتري».
ما يجدر ذكره أن الفنان يوسف شعبان الذي قام بدور «عباس» قد صرح في أحد البرامج التليفزيونية عام 2015 مع المذيع عمرو الليثي، يأن شخصيته في الفيلم كانت ترمز للرئيس عبد الناصر، وأن الكل كان يعلم ذلك.
الوفاء العظيم
وفي نفس العام يقدم لنا المخرج حلمي رفله فيلمه «الوفاء العظيم» عن قصة فيصل ندا.. وتدور الأحداث حول «صفوت» ضابط الجيش الذي تربطه علاقة حب بالفتاة «”ولاء» وهي ابنة بالتبني لغريم أبيه الذي يرفض زواجهما، ويعقد قرانها على ابن أحد أصدقائه، وهو بالمصادفة ضابط حديث التخرج، وفي ساحة القتال يلتقي الشابان وينقذ «صفوت» زميله «عادل» من الموت، ولكنه يفقد ساقه أثناء عملية الإنقاذ، ويترك «عادل» فتاته لتعود إلى حبيبها بعد اقتناع الأب بأن الماضي لا بد أن يمحى، بعد أن غير الانتصار العظيم كل شيء.. وللأسف أيضا جاء الفيلم مخيبا للآمال كسابقه -ربما أكثر- وكانت أعين صناعه تستجدي رضا النظام الجديد فقط فلم يلتفتوا إلى ضعف السيناريو الذي لم يستطع ستر عيوب القصة التي قامت على التلفيق، ولم يفلح أداء «كمال الشناوي» و«عبد المنعم إبراهيم» ولا نجومية «محمود ياسين» و«نجلاء فتحي» في إنقاذ الفيلم من السقوط في بئر الافتعال والمباشرة.
بدور
وفي سباق مع الزمن في نفس العام -1974- يسابق «نادر جلال» الوقت ليصل بفيلمه «بدور» إلى دور العرض قبل أن ينفض المولد، استعان «نادر» – في استسهال واضح -بنجمي الوفاء العظيم محمود ياسين ونجلاء فتحى، وجاءت القصة مسيئة بكل مفرداتها، فالبطل «صابر عبد التواب» يعمل في تسليك المجاري منذ ست سنوات، في إشارة فجة لتاريخ النكسة وكأن حرب الاستنزاف غير جديرة بأي تقدير، وهي التي شهدت بطولات غير مسبوقة، واعترف الكيان الصهيوني أن خسائره خلالها فاقت التوقعات. وبطلة الفيلم «بدور» نشالة تائبة، تلجأ للبطل لحمايتها من نشال يدعى «ميمو» يحبها ويطاردها، وتتوالى الأحداث في جو الحارة وفرقة العوالم التي تقودها المعلمة «نوسة» التي فقدت أخاها الضابط في حرب يونيو، وأثناء المعارك تتحول إلى خياطة لتساهم في المجهود الحربي، ويلتقي الغريمان «صابر» و«ميمو» في المعركة ويكتشفان – بالمصادفة- أنهما ينتميان إلى نفس الكتيبة ونفس الفصيلة، ويزول ما بينهما من خلاف، ويعود «ميمو» ويظن الجميع أن «صابر» قد استشهد لكن «نادر جلال» يعيده إلى «بدور» لينتهي الفيلم نهاية سعيدة تدعو للتفاؤل والأمل وبداية حياة جديدة.
أبناء الصمت
وفي أول تعامل جاد مع الحدث الكبير، يقدم لنا المخرج محمد راضي عن قصة مجيد طوبيا فيلم «أبناء الصمت» الذى يتعرض في بدايته لآثار الهزيمة على المجتمع المصري الذي اجتاحته كثير من السلوكيات الغريبة عليه، كرد فعل طبيعي للصدمة التي أحدثتها النكسة، ومن خلال مجموعة من الجنود المتخندقين على الضفة الغربية للقناة يستعرض صناع العمل آمال وأحلام جيل كامل لم يزل قابضا على سلاحه متمسكا بالأمل في تحقيق النصر.. ودون تلفيق أو ادعاء ومن خلال تتالي المشاهد على جبهة القتال وحياة الجنود الخاصة مع ذويهم، ومن خلال «نبيلة» خطيبة أحد الجنود التي تعمل صحفية وتصر على كشف الحقائق ما يجد ممانعة من رئيس التحرير الذي استسلم للواقع رغم بداياته الثورية- تتكشف للمشاهد الكثير من التفاصيل الخاصة بهؤلاء الأبطال، وعندما يتحقق النصر ويستشهد «مجدي» خطيب «نبيلة» تصر على عمل تحقيق صحفي مع زملاء خطيبها لتسجل من خلاله بطولاتهم التي صنعوها بعد اجتياز ذلك الحاجز النفسي الرهيب الذي صنعته الهزيمة.. وقد احتل الفيلم المرتبة الرابعة والسبعين في قائمة أفضل فيلم مصري.
وفي عام 1975، يقدم المخرج «أشرف فهمي» عن قصة «يوسف السباعي» فيلما بعنوان «حتى آخر العمر» يلمس الفيلم جانبا إنسانيا شديد الأهمية، وهو معاناة جرحى الحرب وذويهم من خلال قصة الطيار «أحمد» الذي يشارك في الحرب، ويبلي بلاء حسنا، لكن طائرته تصاب إصابة مباشرة، ما يضطره للقفز منها دون استعدادات كافية، فيصاب بالشلل، ومن خلال مشاهد الفيلم نرى حالة البطل التي تتأرجح بين اليأس والرجاء، وانفعالاته المضطربة بسبب المرض، ومحاولات الزوجة الوفية مساعدته في اجتياز الأزمة، وينتهي الفيلم بتجدد الأمل في الشفاء.
العمر لحظة
وفي عام توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» تقدم الفنانة «ماجدة» من إنتاجها وإخراج محمد راضي عن قصة يوسف السباعي فيلم «العمر لحظة» بتكلفة انتاجية كبيرة بلغت ستمئة وخمسين ألف جنيها، وتدور الأحداث حول الصحفية «نعمت» التي ترفض الهزيمة وتدعو لاسترداد الأرض وتختلف جذريا مع زوجها الذي يرأس تحرير الجريدة، ويكتب مقالات يدعو فيها إلى قبول الأمر الواقع، ما يجعل «نعمت» تتجه إلى عمل تحقيقات صحفية مع جرحى الحرب في إحدى المستشفيات، وهناك تتعرف على مجموعة من الجنود، وضابط صاعقة، وترتبط «نعمت» بهم على المستوى الإنساني، وتذهب إلى الجبهة وتعايش الجنود أثناء الاستعداد لعملية خلف خطوط العدو، وينتهي الفيلم بالعبور والنصر، ويلفظ البطل أنفاسه متأثرا بجراحه بعد أن يوصيها بابنته.. لم يعرض الفيلم في الدول العربية لمقاطعتها مصر بسبب «كامب ديفيد» فكانت خسائر الإنتاج كبيرة.
ثم يقدم المخرج محمد راضي ثالث أفلامه الحربية، حائط البطولات عن بطولات سلاح الدفاع الجوي، والغريب أن الفيلم أنتج عام 1998، لكن لم يعرض إلا بعد ستة عشر عاما، بسبب تدخل الرئيس المخلوع مبارك وأمره بمنع عرض الفيلم الذي رأى أنه ينتقص من دور القوات الجوية في المعركة، ويضخم من دور سلاح الدفاع الجوي.
أسد سيناء
وفي العام 2016 يقدم المخرج حسن السيد فيلمه «أسد سيناء» عن قصة البطل السيد زكريا خليل الذي نجح بمفرده في إيقاف كتيبة صهيونية كاملة، أثناء حرب أكتوبر؛ بعد استشهاد جميع أفراد فصيلته، وبعد استشهاده يتقدم الصهاينة إلى الموقع ليجدوا أن من أوقفهم هو جندي واحد، فيأخذ أحدهم متعلقاته، ويروي القصة كاملة للسفير المصري في برلين، ويسلمه متعلقات البطل بعد ربع قرن من المعارك.. ورغم أن الفيلم نفذ بطريقة جيدة خاصة مشاهد التدريب والمعارك القتالية إلا أنه لم يحقق أي نجاح وجاءت إيراداته مخيبة للآمال.
وخلال العام الحالي قدم لنا المخرج شريف عرفه فيلمه «الممر» الذي يتناول إحدى العمليات العسكرية الكبرى خلف خطوط العدو التي قامت بها المجموعة 39 قتال، خلال حرب الاستنزاف، ولم يتطرق الفيلم لحرب أكتوبر بشكل مباشر، لكنه تناول فكرة استعادة الروح والتصميم على تحقيق النصر مهما كانت التضحيات، وقد كان الفيلم بمثابة بعث جديد للروح المصرية، ورسالة للأجيال الجديدة أن العدو مازال رابضا على حدودنا، وأن أكتوبر لن تكون آخر الحروب، وأن الصراع كما تعلمنا في الصغر، صراع وجود لا حدود.
https://youtu.be/XKqIwl60fmE?t=5
وما زلنا في انتظار أعمال سينمائية تتناول البطولات التي لا حصر لها التي جرت في معارك أكتوبر وماقبلها، ومازلنا يحدونا الأمل في أن يكون الفن المصري معبرا بصدق عن أمجادنا في الماضي، وما يهمنا في الحاضر وما يعنينا في المستقبل بعيدا عن هذا الضجيج الفج الذي بات لا يحتمل.