ثقافة

“الكلام” بين المنطق وأصول الفقه.. الجسر المنبوذ!

ظهرت الحاجة الملحَّة إلى علم أصول الفقه عند اشتداد الصراع الفقهي بين أهل الحديث وأهل الرأي.. فقد رأى الفريق الأول الوقوفَ عند ظواهر النصوص؛ دون النظر في عللها، فقلما تجد منهم من أفتى برأي، مع نهيهم عن مجادلة “أهل الاهواء” ومناظرتهم عملا بقوله تعالى: “مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا…” غافر جزء من آية4.

أما الفريق الآخر فقد عمل على البحث عن علل الأحكام، وربط المسائل بعضها ببعض، وفي محاولة جادة منهم للنجاة من الوقوع في الشبهات، وعدم الوقوع في شرَك الاحتمالات في فهم النصوص– دوَّن هؤلاء القواعد الكلية والأدلة العامة؛ تسهيلا لعملية الاستنباط، وقد تزامن ذلك مع انتقال المنقول اليوناني والمنطق بالذات إلى اللسان العربي، وقد أدّى تعرُّف هؤلاء وأولئك على المنطق إلى توسيع هوة الخلاف، إذ نقمت الفئة الأولى على الفكر اليوناني عامّة والمنطق خاصّة؛ فحرَّمت التعامل معه، وبالأخص استخدامه في البحوث الإسلامية، إذ عُدَّ من قِبَلهم دخيلا وغريبًا ولا يتناسب وطبيعة العلوم الإسلامية من حيث القواعد والأصول، بينما رأت الفئة الأخرى صلاحية علم المنطق كمنهج يمكن من خلاله الولوج إلى منابع الأحكام الشرعية وأصولها، وصولا إلى الأدلة الكُلية، كون علمَ أصول الفقه يحتاج إلى آلة ضابطة تحكم آليته، وتعصمه من الوقوع في الشبهات.

ويُعرَّف “عِلْمَ أصُول الفِقه” الذي يرجع فضل تأسيسه إلى الإمام “الشافعي”، بأنَّه ذَلك العِلم الذي يُوضّح عَلاقة العَقل بالشّريعة، بَعيدًا عن عِلم أصُول الدِين، الذي يُظهِر عَلاقة العَقل بالعَقِيدة.. وهناك تعريف آخر يقول بأنَّه علم معرفة دلائل الفقه إجمالا وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد، وهو ما يرتب لهذا العلم خصائص بعينها، منها أنَّه علم معياري، أي أنَّه ميزان توزن به الاستدلالات الشرعية، ويبيَّن فيه الصواب من الخطأ في استنباط الأحكام الشرعية، وأنَّه علم استقرائي يقوم على تتبع طرائق وكيفيات دلالة النصوص والأدلة الشرعية على الأحكام، من خلال استقراء الدلالة اللغوية لألفاظ النصوص الشرعية، مع استقراء مواقف الصحابة رضوان الله عليهم في فهمهم، وتصرفات القرن الأول ممن شاهد التنزيل وعَلِمَ التأويل، كما أنَّه مرتبطٌ بالنصَّ الشرعي: إذ هو موضوع بحثه، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: “ولا يجاوز نظر الأصولي قول الرسول صلى الله عليه وسلم”.

صورة تخيلية للشافعي
صورة تخيلية للشافعي

وتعتبر اللغة العربية أكبر مصادر علم أصول الفقه، إذ يتميز بعدد من الخصائص اللغوية، يقول الإمام الجويني: “اعلم أنَّ معظم الكلام في الأصول يتعلق بالألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ فلابد من الاعتناء بها، إذ أنَّ الشريعة عربية، ولن يستكمل المرء خِلال الاستقلال بالنظر في الشرع ما لم يكن ريَّانًا من النحو واللغة”.

ويذهب البعض إلى أن المشتغلين بعلم الأصول، قد فاقوا النحاة واللغويين في استنباطهم المعاني الدقيقة التي تحتملها الالفاظ، والتي لا يستطيع إدراكاها إلا الأصولي، ويستشهدون في ذلك بقول الإمام “السبكي”: أمّا الأصوليون فقد دققوا في فهم أشياء من كلام العرب، لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون، وإنّ كلام العرب متسع جدا، والنظر فيه متشعب، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي واستقراءٍ زائدٍ على استقراء اللغوي”.

ويرتبط علم أصول الفقه بالثمرة التطبيقية ارتباطًا وثيقًا حدِّ الغلبة عند بعض العلماء، كما هو مُشتهرٌ عند بعض فقهاء الحنفية، حيث تُستخرج القاعدة الأصولية بناءً على الفروع الفقهية، وهذا موجود على التحقيق؛ حتّى عند المذاهب الفقهية الأخرى كالحنابلة، والمالكية تحديدًا.

ويعرف علم أصول الفقه في الاصطلاح الشرعي بأنَّه “العلم بالقواعد والبحوث التي يُتَوصَّل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وموضوع بحثه هو الدليل الشرعي الكُلِّي من حيث ما يثبت به من الأحكام الكلية، بحيث يكون البحث في القياس وحجيته، والأعم وما يقيّده، والأمر وما يدل عليه، وهكذا.

أمّا بالنسبة لعلم المنطق فالراجح أنّ لفظة(المنطق) هي لفظة عربية المنشأ والمصدر، وهي ليست ترجمة حرفية للأصل اليوناني الذي يعني العلم.. ولقد حاول “المناطقة” العرب أن يطلقوها حتى تُرادف المعنى المراد عند مُصدِّري الفكرة المنطقية.

صورة تخيلية للفاربي
صورة تخيلية للفارابي

ويشير بعض المؤرخين المعاصرين إلى أنَّ كلمة المنطق لم تكن تتضمن في العربية معنى التفكير أو الاستدلال بل كانت تدل على الكلام فقط، وبقي هذا المعنى الأخير شائعًا حتّى بعد أن اصطلح على تسمية علم الفكر بالمنطق.. ولعل أوَّل من سوَّغ هذا المصطلح لغويًا، وحاول إيجاد مناسبة له هو الفارابي بقوله: “… صناعة المنطق واسمها مشتق من النطُّق، وهذه اللفظة تدل عند القدماء على ثلاثة أشياء هي: القوة التي يعقل بها الإنسان المعقولات، والمعقولات الحاصلة في نفس الإنسان بالفهم، ويسمونها النطق الداخل، والعبارة باللسان عن ما في الضمير، ويسمونها النطق الخارج”.

ولقد استمر الفارابي في استنباط المناسبة بين اللفظ والمعنى بحسب الدلالات التي نقلها سابقًا؛ مبيِّنا سبب تسمية هذه الصناعة بالمنطق، فيقول: “وهذه الصناعة لما كانت تُعطي القوة الناطقة قوانين في النطق الداخل الذي هو المعقولات، وقوانين مشتركة لجميع الألسنة في النطق الخارج الذي هو الألفاظ، وتُسدَّد بها القوة الناطقة في الأمرين جميعًا نحو الصواب، وتحرزها من الغلط فيهما سُمِّيت بالمنطق”.

وكانت هناك محاولات للعدول عن هذا الاصطلاح (المنطق) إلى تسمية أخرى، كما فعل “ابن سينا” في كتابه (منطق المشرقيين) بتسميته بالعلم الآلي، كما كانت أوسع المحاولات عند الغزالي في أسمائه الشهيرة: معيار العلم، ومحك النظر، وعلم الميزان ونحوها.

صورة تخيلية للإمام الغزالي
صورة تخيلية للإمام الغزالي

وتجدر الإشارة إلى أنَّ تأثير علم المنطق في العلوم الإسلامية، قد بدا جليًا في علم الكلام الذي يمثل همزة وصل وجسر عبور بين العلوم العقلية -غير الشرعية- والعلوم الشرعية بجامع تغليب المنهجية العقلية في الاستدلال والاحتجاج والمناظرة؛ لذا كان علم الكلام أولى العلوم الشرعية للتفاعل مع العلوم العقلية بحكم طبيعته ونزعته التي تكونت مع بنيته الفكرية المتمركزة حول العقل.

ويُعرّف “ابن خلدون” علم الكلام بقوله: “هو علم يتضمن الحِجَاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السُّنة”. ويقول عنه الغزالي: “وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة”.. وعُرِّفَ أيضا بأنَّه: “علم يُبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام”. وقيل هو “علم يقتدر معه على إثبات الحقائق الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها.. وباب من الاعتبار في أصول الدين يدور النظر منه على محض العقل في التحسين, والتقبيح, والإحالة, والتصحيح, والإيجاب, والتجويز, والاقتدار, والتعديل, والتحوير, والتوحيد, والتفكير”.

ابن خلدون
ابن خلدون

أمّا “الفارابي” فقال عنه: “صناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملة وتزييف ما خالفها بالأقاويل”.

وقد أوضح “الفارابي” الفرق بين علم الكلام، وعلم اصول الفقه بقوله: “وهذه الصناعة تنقسم جزأين أيضا: جزء في الآراء وجزء في الأفعال، وهي غير الفقه لأنَّ الفقيه يأخذ الآراء والأفعال التي صرّح بها واضع الملة مُسلّمةً، ويجعلها أصولا فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها.. والمتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولا من غير أن يستنبط منها أشياء أخرى. فإذا اتفق على أن يكون لإنسان ما قدرة على الأمرين جميعا فهو فقيه متكلم. فتكون نصرته لها بما هو متكلم، واستنباطه منها بما هو فقيه”.

ويوضح “الزركشي” ذلك الدور المؤسس لقطبي علم الكلام البارزين: المعتزلة والأشاعرة في التحول الكبير في علم أصول الفقه، وذلك بمجيء القاضي “أبي بكر بن الطيب” الأشعري والقاضي “عبد الجبار المعتزلي” اللذين “… وسَّعا العبارات وفكا الإشارات، واقتفى النَّاس بآثارهم، وساروا على لاهب نارهم”.

من كل ذلك نخلص إلى أنَّ علم الكلام كان بمثابة القناة الموصِّلة للأثر المنطقي في علم أصول الفقه، وهو أثر امتد إلى العديد من العلوم الإسلامية الأخرى، إذ حمل علم الكلام عديدًا من المبادئ المنطقية التي امتزجت بفعل الممارسة بالوسط الكلامي وأصبحت جزءًا منه، ومن ثُمَّ حدث ذلك التفاعل معها بالنقد والتطوير الذي أدى إلى إحداث ذلك الأثر في سائر العلوم الإسلامية.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock