رؤى

سلسال التكفير.. وتوحش «كلاب أهل النار»

عرفت الخبرة الإسلامية ظاهرة التكفير، أي الحكم بالكفر على عوام المسلمين الذين شهدوا لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة، مع التحولات التي عرفتها الدولة بعد الفتوحات الكبرى ودخول أقاليم كانت تحكمها الإمبراطورية الرومانية كمصر، والإمبراطورية الساسانية الفارسية كالعراق، ضمن أقاليم الدولة الإسلامية الكبرى التي بلغت اكتمالها مع عصر عمر بن الخطاب.

قُتل عمر بن الخطاب الخليفة الثاني.. قتله أبو لؤلؤة المجوسي، ثأرا مما اعتبره زوال دولة الفرس التي كانت تدين بالمجوسية قبل أن تدخل في الإسلام، وولي من بعده عثمان بن عفان، وقُتل هو الآخر وهو يقرأ في المصحف، بسبب خروج مجموعات ممن اعترضوا على طريقته في الحكم والتي كانت مختلفة عن تلك التي كان عليها أبو بكر وعمر وبالطبع النبي الأكرم صلي الله عليه وسلم.

ومع مقتل عثمان، فُتحت على المسلمين أبواب ما عُرف باسم الفتنة الكبرى، التي اقتتل فيها المسلمون، وتوقفت عمليات الفتح الخارجي، وظهر في معركة صفين جماعة ممن عُرفوا بالخوارج لخروجهم على علي بن أبي طالب الخليفة الرابع الراشد في خلافه مع معاوية بن أبي سفيان، ، وقد خرجوا عليه بسبب قبوله التحكيم، أي الحكم بكتاب الله بين الفريقين المتقاتلين، وكانوا أول من رفع شعار “الحاكمية” وقالوا لا حكم إلا لله، وقد حاجهم عبد الله عباس حبر الأمة، وأبان لهم أنه يجوز تحكيم الرجال، فرجع منهم عدد وفير.

كفر الخوارج عليا وقتلوه وهو خارج لصلاة الفجر، كما كفروا الحكمين عمرو بن العاص وأبا موسي الأشعري، وتشكلت لأول مرة في تاريخ الأمة الإسلامية طائفة كبيرة تتبنى أفكارا ذات طابع عقدي يتضمن تأويلا مختلفا للكتاب. طائفة تواجه الدولة وحاكمها الشرعي وتتحداه وتمتنع عليه، وقد قتلوا عليا باعتباره إمام جور وظلم يجب قتله وقتاله، فهم يرون السيف مع من يعتبرونه أئمة الجور، كما أنهم يرون السيف ورفعه على عامة المسلمين، حتى على الأقارب من الآباء والأمهات الذين لا يلتزمون مذهبهم. وغالب المصطلحات التي أضيفت لمعنى الإسلام مثل البراءة من الذين لم يلتزموا عقيدة الخوارج أو لم يخرجوا معهم في القتال والذين يطلق عليهم “القعدة”، وأحكام الديار واختلافها باختلاف كونها “تقية” أي يخفون فيها عقائدهم ولا يظهرون ما يظهرونه في دار “العلانية” التي يعلنون فيها عقائدهم ويظهرون فيها بأحكامهم وأفكارهم وسطوتهم، وقد قتلوا الصحابي “عبد الله بن خباب” لما فهموا من كلامه أنه يخطئهم ويعتبر ما يفعلونه فتنة وتهديدا للمسلمين، وبقروا بطن سريته (زوجته) وكانت حامل. وحين نراجع كتابا مثل “مقالات الإسلاميين” لأبي الحسن الأشعري لنعرف مقالات الخوارج وعقائدهم نجدها أقرب للعقائد العدمية، ورغم أن لهم شعراء كانوا يتغنون بالحرب والقتال وأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا، إلا أنه لا يُعرف لهم فقهاء أو أصول للفقه أو قواعد للفهم والتخريج والتحقيق، وإنما أقوال متناسلة يوردها عادة علماء الفرق والجماعات الخارجة عن إجماع الأمة. وظل الإمام علي طوال خلافته يرسل إليهم الجيوش ويقضي عليهم في  الأقاليم التي يخرجون فيها تباعا ويظهرون فيها بأفكارهم وتحديهم للدولة والأمة معا حتى قتلوه كما هو معلوم عام 35هـ.

واستمر الخوارج يمثلون تهديدا للدولة الأموية طوال بقائها القصير حتى أنهكوها، وسالت دماء كثيرة بين عسكرهم وعسكر الأمويين. هذه الانقسامات الرأسية المفارقة للجماعة وللأمة والمهددة لهويتها واستقرارها كانت وبالا كبيرا علي استقرار المجتمعات المسلمة على مستوى هويتها وعلى مستوى استقرارها معا.

ويمثل شكري مصطفى استعادة لأفكار الخوارج في المجتمع المصري، فهو قرأ كتب الخوارج الأزارقة واستلهم مصطلحاتهم، وبدأ يستخدم تلك المصطلحات فوجه سموم أفكاره إلى المجتمع، واعتبر الناس كفارا وديارهم ديار كفر ومنع الصلاة في المساجد واعتبرها مساجد ضرار، واعتبر جماعته هي جماعة المسلمين، وأن من لم يلحق بها فالبراء منهم واجب، ودعوته إليها ضرورية فإن لم يدخلها فهو كافر، وبدأ فكره ينتشر خلال مرحلة تحول في المجتمع المصري، وتبعه كثير من الفتيات والشباب، بيد أن الشيخ محمد حسين الذهبي مفتي مصر وعالم التفسير خرج ليرد عليهم فجعلوه هدفا لهم وقتلوه.

واقعة اغتيال الشيخ الذهبي

كان شكري يؤمن بالهجرة من المجتمع الجاهلي ثم العودة إليه فاتحا من بعد، ولم يلبث أن حوكم وقُتل هو وخمسة من جماعته، وكان يقول إنه لن يُقتل أبدا، ولو قُتل فإن فكره على خطأ لأنه إمام الجماعة وبقاؤه عنوان على صحة فكرها.

الغريب أن فكر التكفير تسلل إلى من أطلقوا على أنفسهم “السلفية الجهادية” فكفروا أعيان الناس، واعتبروا من يخالفهم في أفكارهم ولا يتبعهم هو كافر حلال الدم والمال. ورغم أن فكر شكري كان انسحابيا، إلا أن حالة السلفية التكفيرية الجديدة التي يعبر عنها تنظيم ما يُطلق عليه “الدولة الإسلامية” طُعمت بأفكار “التوحش وإدارته”، وتغيرت تركيبتها ومزاجها الذي ارتبط بحروب عالمية كبرى كما هو في أفغانستان والعراق وسوريا، ومن ثم ارتفع المكون العسكري فيها، وامتزجت أفكار البعث بأفكار السلفية فأخرجت لنا صيغا أكثر توحشا وقسوة.

 وحشية ما يسمى بالدولة الإسلامية

كان الآخر واختلافه كأنه مرآة لتأكيد الذات، وقد وجدوا الآخر الشيعي في العراق والكويت والسعودية وباكستان وأفغانستان فعمدوا إلى مساجدهم ليفجروها ويفتكوا بمن فيها باعتبارهم مشركين وكفارا دماؤهم حلال وأموالهم ونساؤهم كذلك، ولم يلبثوا في سيناء أن حاولوا إيجاد ذلك الآخر ليعطوا مبررا لعنفهم ومروقهم وانحرافهم، فاستهدفوا الصوفية، وعمدوا إلى بعض مقامات شيوخهم ففجروها كما، عمدوا إلى كبار مشايخهم فقتلوهم، ثم وسعوا الخطوات نحو الهاوية باستهداف مسجد الروضة قبل نهاية العام 2017 وقت صلاة الجمعة وقتلوا المصلين والمؤذنين والأئمة.

يتعجب كثيرون.. وهم لا يعلمون أن ذلك النسل من سلسال ولغ منذ ظهر في الدم والقتل دون مراعاة لحرمة أو حكم بالحلال والحرام، إنهم كما وصفهم النبي “كلاب أهل النار”.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock