منوعات

عباس بن فرناس.. المُغامر الأكبر و العبقري المظلوم

من غرائب البشر، أن ضريبة العبقرية قد تكون أفدح من ضريبة البلادة، العبقري يسبق زمانه بسنوات وأحيانًا بقرون، فتنهال على رأسه اتهامات أهل زمانه فتمضي حياته بين نكران وجحود وتهم باطلة، بينما أضواء عبقريته تكاد تحرق فؤاده مطالبة بالظهور على الناس الذين لا يقدرون عبقريته حق قدرها.

من بين هؤلاء العباقرة الرواد، كان أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس المولود في العام 190 هجرية بتاكرنا بجنوب الأندلس.

حفيد الفاتح

عباس ليس عربي النسب، هو من الأمازيغ، هذا الشعب الكريم الذي ينتسب إليه الفاتح العظيم طارق بن زياد الذي يفتخر به كل الأمازيغ ويعتبرونه جدهم الأعلى.

أسرة عباس ـ التي لم يهتم بها المؤرخون ـ كانت كما تشير سيرة ابنها من تلك الأسر التي تقدر العلم وتراهن عليه، نفهم ذلك جيدا لأن عباسًا قد تفرغ منذ نعومة أظفاره لطلب العلم، ولم يعرفه التاريخ إلا متعلمًا أو معلمًا.

حاكم ذلك الزمان الذى عاش فيه عباس كان الأمير الحكم بن هشام الأموي الذي التقط الشاب النابه وقربه منه، فترقى عباس في بلاط الأمير حتى أصبح بتعبيرنا المعاصر مستشاره العلمي، وهو ما سيكونه مع الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام، ثم مع الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام، فهؤلاء الأمراء، كانوا حريصين على وجود عباس في بلاطهم.

من ناحيته أظهر عباس قدرات خاصة في مجالات متعددة، فهو عاشق للفلسفة، ورياضي، وفلكي، وعالم طبيعة، وملحن ومطرب وشاعر ومخترع.

الهجرة

في سنة من سنوات شبابه نظر عباس إلى نفسه فوجد أنه قد حصّل ما لدى علماء الأندلس من علوم، فقرر ترك نعيم القصور الملكية وشد الرحال إلى عاصمة الدنيا بغداد لطلب العلم الذي عند المشارقة، معلومة كهذي لا تهز أحدنا الآن فمن العادي أن يسافر أحدهم من أسبانيا إلى العراق، ولكن هذا السفر قبل ألف ومائتى عام كان مغامرة لا يستطيعها سوى أولو العزم من الرجال.

في العراق – الذي كان مقر خلافة قادرة قوية تحكم نصف العالم – حرص عباس على التبحر في علوم اللغة، وقد كان أول علم طلبه من علماء العراق هو علم العروض الذي أنشأه الخليل بن أحمد الفراهيدي، وسبحان علام الغيوب، فعلم العروض هذا سيكون نكبة على عباس فيما هو قادم من أيامه!

فتوحات حضارية

بعد أن تزود عباس بن فرناس بعلم العراق عاد إلى موطنه فشمر عن ساعد الجد، فكان أول ما فعله، أنه أقام معملًا لتجاربه، وكان معمله في قلب بيته.

ذلك المعمل سيكون علامة فارقة في تاريخ الحضارة الإنسانية، لقد تمكن عباس من اختراع أول قلم حبر عرفته البشرية، ثم بعده اخترع من نوع معين من الرمال ألواحاً زجاجية، ثم خطا خطوة أوسع فاخترع الساعة وأطلق عليها اسم «الميقاتة» كما قدم للبشرية اختراعًا عجيبًا أطلق عليه «ذات الحلق» وهو عبارة عن آلة فلكية تمثل محاكاة لحركة الكواكب والنجوم لرصدها في السماء.

وقد قدم تلك الآلة لحاكم زمانه، أما سقف بيت هذا العبقري فكان عبارة عن قبة عجيبة صممها على هيئة السماء بنجومها وكواكبها.

لم يكتف عباس بكل هذه الاختراعات التي كان استخدامها مقصورًا على القطاع المدني من شعبه، فقد رأى أن يعين العسكريين بجانب من مخترعاته.

 قام عباس بخلط بعض المواد الكيميائية مع بعضها البعض، مخترعاً قنبلة تشبه القنبلة المسيلة للدموع في عصرنا الحالي.ثم  قام بِصُنع آلة قتالية من أجل دَك الحصون، وقد استخدمت في إحدى المعارك، وتم تحطيم حصون العدو بتلك الآلة.

ثم عاد عباس للمخترعات المدنية فقام بصنع عدسات تصحيح النظر، فكان بذلك مخترع النّظارات الطبيّة.

الميقاتة

المغامرة والعقاب

عندما نرى طائرة الآن فإن رؤيتنا لها لا تثير في نفوسنا شيئًا.. أي شيء، فمع كثرة التكرار والتعود تفقد الأشياء بل والمعاني طرافتها ولمعانها، لكن الموقف كان مختلفًا قبل ما يزيد على الألف ومائتى عام، عندما كان التحليق في الجو مقصورًا على الطيور فقط، وكان بالنسبة لبني الإنسان مجرد حلم قد يداعب خيال العباقرة النابهين الذين تصنع أحلامهم الحضارة ولكنهم يدفعون ثمن أحلامهم.

بطلنا عباس قرر عندما كان فوق الستين من عمره أن يقدم على مغامرة كبرى.كان قد درس ثقل الأجسام ومقاومة الهواء لها، وتأثير ضغط الهواء عليها إذا ما حلقت في الفضاء، وبعد تلك الدراسة المتأنية والمتبحرة تأكد له أنه يستطيع تحقيق حلم الإنسان في الطيران فجمع الناس أمام برج قصر الرصافة بقرطبة التي كانت عاصمة الأندلس، وأمام أعينهم كسا نفسه بالريش الذي اتخذه من الحرير الأبيض لمتانته وقوته، وركّب جناحين من الحرير وقفز من فوق البرج الشاهق، فطار بالفعل أمام أعين الناس، لقد حلق لمسافة تتجاوز مئات الأمتار ثم سقط سقطة غير مميتة، لأنه لم يصنع لنفسه ذيلًا يقيه السقوط.

كل ما تعرض له العبقري كانت متاعب هينة أصابت ظهره، تلك المحاولة فتنت العالم كله وخلدها التاريخ الذي سجل في مدوناته أن عباس بن فرناس هو أول آدمي يطير في الهواء.

بعد تلك المحاولة عاد عباس لاستئناف تجاربه في معمله فهب أصحاب البلادة المتنطعون ورموا العبقري بالكفر والزندقة!

يقول ابن حيان عن تلك النكبة: «جاء الشهود فقال بعضهم: لقد سمعته يقول: «مفاعيل .. مفاعيل».

مفاعيل .. مفاعيل، إنه العروض الذي تعلمه عباس في العراق، وقد ظن شهود الجهل إنه كلام كافر.

ثم قال شهود: «لقد رأينا الدم يفور من قناة بداره».

طبعًا لم تكن هناك دماء ، هذه تجارب كان العبقري يجريها في معمله.

تكاثر الشهود وعلم الحاكم بأمر الفتنة التي تهدد حياة مستشاره العلمي فدعا لتحويل الأمر إلى القضاء، ومن فضل الله كان القاضي سليمان بن الأسود من أصحاب العقول النيرة ففند شهادة الشهود وأبطلها وحكم ببراءة عباس.

تمثال عباس ابن فرناس في بغداد

رد الاعتبار

عبقرية عباس جعلته هدفًا للذين لا يعملون ولا يروق لهم أن يعمل الآخرون ،فراحوا يزوّرون تاريخه، لكن لأن الله تعالى تعهد بحماية ما ينفع الناس فقد يسّر للمؤرخ المصري الفذ محمد عبد الله عنان اكتشاف مخطوط كتاب «تاريخ ابن حيان» وهو من أكابر مؤرخي الأندلس وكان معاصرًا لعباس، ومن خلال ما كتبه ابن حيان عن عباس ونقله عنان ظهرت لنا الصورة الصحيحة لعباس الذي رماه بعضهم بالجنون.

وبعد إنصاف ابن حيان وعنان له شاء الله أن ترضى أوربا بإقامة معرض عرف باسم «ألف اختراع واختراع» ضم المخترعات  التي قدمها المسلمون للحضارة الإسلامية وكانت مخترعات عباس على رأس المعروضات بالمعرض الذي قالت عنه محطة البي بي سي: «إن الكثيرين من الغربيين لا يعرفون أن الأرقام التي يستخدمونها عربية، وأن الصفر واللوغاريتمات التي تعتبر أساسية في اختراعات بدأت من الكمبيوتر وحتى الصاروخ ظهرت بجهد علماء مسلمين، كما أن كثيرين منهم لا يعلمون أيضا أن الكثير مما نستخدمه في حياتنا اليومية بدءاً من القهوة وفرشاة الأسنان وأصناف العطور مروراً بأدوات الجراحة و المستشفيات والجامعات والصيدليات والمكتبات، وصولا إلى آلات التصوير وقياس الزمن وأسماء النجوم وحتى علم الفلك والكيمياء والفيزياء كلها لها جذور إسلامية».

ذلك المعرض شهد إقبالًا خرافيًا وكان من المقرر أن يطوف كل دول ومدن أوربا الكبرى، ولكن عندما وصل المعرض إلى إيطاليًا أحدث ما يشبه الفتنة لأن شباب علماء الغرب تأكدوا لأول مرة من وجود حضارة متقدمة للمسلمين فزعزعت ثقتهم في أولية الحضارة الأوربية، فتنبه لذلك العنصريون من الأوربيين فعملوا على كتم حضور المعرض الذي ذهب إلى أمريكا بدون أدنى إشارة إلى كونه معرضًا للحضارة الإسلامية!

وبعيدًا عن الموقف الأوربي فقد تواصل عطاء الله لاسم عباس فقامت وكالة الأبحاث الفضائية الأميركية «ناسا» بإطلاق اسمه على فوهة قمرية تُعرف بفوهة «ابن فرناس القمرية».

وأُطلق اسمه على فندق مطار طرابلس بليبيا، وفي العراق وُضع له تمثال على طريق مطار بغداد الدولي، وسمي مطار آخر شمال بغداد باسمه.

وفي إسبانيا، تم افتتاح  جسر عباس بن فرناس بمدينة قرطبة على نهر الوادي الكبير، وفي منتصفه تمثال له، أما في مسقط رأسه رندة فافتُتح مركز فلكي يحمل اسمه.

عاش عباس راهبًا في محراب العلم بعد مغامرة الطيران ومحنة التكفير إحدى عشرة سنة، ثم في العام 260 توفي إلى رحمة الله بعد أن حفر اسمه في سجلات الخالدين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock