في صيف عام ١٩٦٢، كانت مصر والعرب في حالة إنتباه شديد ومتابعة لما يُذاع وقتها عَلى شاشة التلفزيون المصري – الذي كان يُسمى آنذاك «التلفزيون العربي» – و للإذاعة المصرية، وخاصة إذاعة «صوت العرب» التي كان إرسالها يصل الى كل شبر من أرض الوطن العربى.
كانت المُناسبة هي تلك النقاشات والحوارات الجادة والثرية حول مشروع «ميثاق العمل الوطني» الذي قدمه الرئيس «جمال عبدالناصر» للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية، مُفتتحاً مرحلة جديدة من عمر التجربة المصرية في التنمية والتحديث وبنية النظام السياسي وعلاقاته الدولية والإقليمية، وحتى قراءته لتاريخ الحركة الوطنية المصرية الحديثة من دولة محمد علي باشا الى ثورة يوليو مروراً بالثورة العرابية وثورة 1919.
لم تكن وثيقة «الميثاق» نصاً عادياً، لا في الصياغة ولا في المضمون، واعتُبرت عند الكثيرين من مفكري العرب أهم وثيقة سياسية عربية في القرن العشرين.
و كان أعضاء «المؤتمر الوطني للقوى الشعبية» وهم ٣٦٠ عضواً، يشكلون تمثيلا شاملا لكل القوى السياسية والفكرية والثقافية في مصر، وكانت الحوارات بين الرئيس وأعضاء هذا التجمع الوطني صريحة ومُفيدة وتاريخية، حتى أنه يمكن توصيف تلك الفترة من عمر الوطن بأنها كانت وبحق «ربيع القاهرة» حيث تفتحت مئات الزهور، عندما تحاورت وتحدثت أكثر من مدرسة فكرية وسياسية وثقافية بشجاعة وقوة ووضوح.
رؤية واضحة
كان الأستاذ «خالد محمد خالد» أحد نجوم هذا المحفل الوطني، إذ تحدث برؤية واضحة عن قضايا الحريات والديمقراطية، فيما قام الرئيس بالرد عَلى تساؤلاته، والأخذ بكل اهتمام تلك المخاوف التي عبر عنها الأستاذ «خالد» من صعوبة الجمع بين التحول إلى الاشتراكية، والضمانات الديمقراطية. في هذا المُناخ الثري من الحوار والفكر والثقافة، استمعت وشاهدت، للمرة الأولى في حياتي، للأستاذ «خالد محمد خالد» الذى كانت قوة مّنطقهُ، وتكامل حُجته، وأسلوبه اللغوي الجميل، أمورا كفيلة بإثارة اهتمام الكثيرين ممن استمعوا اليه.
كان «خالد محمد خالد» صاحب رصيد وافر من الأعمال الفكرية والثقافية الرائدة التي كانت سبباً كافياً لمعرفة وثيقة بالرئيس «عبدالناصر» واحترام مُبكٍر لإنتاجه الفكري والتنويري، وهو ما جاء عليه تفصيلاً في أكثر من موقع من مذكراته «قصتي مع الحياة» الصادرة عن «دار أخبار اليوم» المصرية في عام ١٩٩٣.
في عام ١٩٥٦ دعا الرئيس عبد الناصر خالد محمد خالد لزيارته في منزله، بحضور الشيخ «أحمد حسن الباقوري»، أول وزير للأوقاف في عهد الثورة، كان حديثاً استطلاعياً، قصد منه «عبد الناصر» معرفة رأي صاحب الكتاب الرائد «من هنا نبدأ» تجاه أكثر من قضية من قضايا الثورة، والتي بدأت بمعركة مصر ضد الأحلاف الغربية، ومؤتمر باندونج في أبريل من عام ١٩٥٥ وأبعاده الدولية، ومشروع دستور ١٩٥٦، الذي كان وقتها مطروحاً للنقاش العام.
في تلك الفترة كان الأستاذ «خالد» قد أصدرأكثر من كتاب، وكتب عشرات المقالات التي كانت تُنشر في جريدة «الجمهورية» وهي جريدة الثورة، والتي كان يُشرف عليها «أنور السادات» أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، ويرأس تحريرها الأستاذ «حسين فهمي» صاحب الاتجاه اليساري، وأول نقيب للصحفيين في عهد الثورة.
من هنا نبدأ
غيرأن كتاب «من هنا نبدأ» كان بداية منطقية لأي حوار مع «خالد محمد خالد» وحوله، فقد اقترب الرجل أحياناً من توجهات كتابه الرائد، وابتعد أحياناً عنه، وهو ما يُفسر بعض التساؤلات والتحولات التي اعترت مسيرته الفكرية والسياسية، والتي بلغ في بعضها حد التناقض.
فقد شملت أعماله الفكرية العشرات من القضايا، فمع البدء كان كتاب «من هنا نبدأ» وفي نهاية الرحلة، كان كتاب «الدولة في الإسلام» الصادر عام ١٩٨١، وبينهما أعمال هامة وخطيرة مثل «مواطنون لا رعايا، وكي لا تحرثوا البحر، و الله والحريّة، الديمقراطية أبداً، ومحمد والمسيح، وخلفاء الرسول، ورجال حول الرسول، والوصايا العشر لمن يريد أن يحيا» وغيرها من الإصدارات التي أثارت الاهتمام العام، لجدية المحتوى، ولجمال اللغة، والتي امتلك الأستاذ «خالد» زمامها باقتدار.
لكن يظل كتاب «من هنا نبدأ» بمثابة حجر الزاوية في الحياة الفكرية والسياسية، لهذا المُفكر الكبير، وهو الكتاب الذي صدر بعد ربع قرن تماماً عَلى صدور كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ «علي عبدالرازق» سنة ١٩٢٥ الذى نقد فكرة الخلافة.
يشتمل «من هنا نبدأ» عَلى أربعة محاور لنقد فكرة السلطة الدينية وهي:
-«الدين لا للكهانة، الخبز هو السلام، قومية الحكم، الرئة المُعطلة» وقد صودر الكتاب بناءً عَلى طلب رئيس لجنة الفتوى في الأزهر الشريف في مايو عام ١٩٥٠ (لكن بعد تحقيقات النيابة وسماع الدفاع أفرج عنه القضاء)، وكانت التهم الموجهة للكتاب ثلاثاً: «الأولى هي التعدي على الدين الاسلامي، حيث يرى أن دوره لا يّتعدى الهداية والرشاد، وكل ممارسات الرسول، عليه الصلاة والسلام، كانت لضرورة اجتماعية وليست لأنها من عناصر الرسالة، والتهمة الثانية، هي الترويج لمذهب يّرمي الى تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة والإرهاب ووسائل أخرى غير مشروعة، والتهمة الثالثة هي الحّضْ علناً عَلى بُغضْ طائفة من الناس، وهي طائفة الرأسماليين والازدراء بها هو تعريض من شأنه تكدير السلم العام».
لكن حيثيات القضاء في هذه القضية جاءت انتصاراً لفكرة الدولة المدنية، فقد أيد مواقف المؤلف، مُدعماً إياها بالأدلة العقلية والفقهية، آخذاً إياها بُحسن نية، «فهو اجتهاد لا يُعاقب عليه صاحبه، فالحكومة الدينية لا تستلهم مبادئها وسلوكها أحياناً من الكتاب والسُنة، وقد تحكم بهواها وليس بما أنزل الله، فالدين شئ ،والحكومة الدينية شئ آخر، وبالتالي فإن المؤلف لم يطعن في الدين، ووصف أوضاع البؤس في المجتمع المصري عن صدق بما فيه من كبت وحرمان وضرورة تطبيق اشتراكية نابعة منه ومعاداة الاستغلال، لذلك تقرر الإفراج عن الكتاب في ٢٧ مايو ١٩٥٠».
ضد الحكومة الدينية
موقف مشهود للقضاء المصري، يُماثل موقفه المُناصر لـ «طه حسين» في معركة كتابه «في الشعر الجاهلي»، لذلك كان حرياً عَلى الأستاذ «خالد» والأمر على هذا النحو ، أن يواصل حربه ضد السلطة الدينية بكل صورها، فلم يّختص الحكومة الدينية في الاسلام وحده، بل حذر منها في كل الأديان، فلا فرق عنده بين دين ودين،. وقد تأكد ذلك في كتابه «معاً عَلى الطريق، محمد والمسيح» والذي جاء مُصدٍرا بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام «الأنبياء أخوة، أمهاتهم شّتىّ»، أي تّعدد الأمم، ودينهم واحد «معاً عَلى طريق الرب، ومعاً من أجل الإنسان، ومعاً من أجل الحياة».
وفي كتابه «الله والحريّة، مقالات في السياسة والاجتماع» يواصل «خالد محمد خالد» معركته ضد الحكومة الدينية، من خلال مجموعة من الخطابات المفتوحة الى شيخ الأزهر، اتسمت بالجرأة والوضوح، خطابات تُثير الدهشة من رجل تّعلّم في الأزهر ويعرف قدره وأهميته وخطورته في حياتنا.
وفي كتابه «مواطنون لا رعايا» يستكمل خالد محمد خالد حربه ضد الحكومة الدينية، فيصفها بأنها شعار حديدي يخفي وراءه جحيماً وفوضى، وأن الحكومات المسيحية في الغرب خير دليل عَلى ذلك، وقد ابتكرت وسائل التعذيب مثل الخازوق، وحرق العلماء وهم أحياء، ومحاكم التفتيش، أما في تاريخ الحكم الديني في الإسلام تكفي سيرة «الحجاج بن يوسف الثقفي» من فساد وقمع وقتل لعشرات الآلاف من المسلمين من أجل أطماع بنى أمية والخليفة «عبدالملك بن مروان»، فيما خدع الأتراك الشعوب العربية بالدِّين طوال أربعة قرون من الذُل والمهانة والقهر والقمع والاستغلال، وطمس الهوية العربية!
قضية الحرية
من هنا تبدو قضية الحرية في المرحلة الأولى من حياة «خالد محمد خالد» هي القضية الرئيسية في تفكيره، فهو مع التفكير الحر ضد الكهانة، وحرية القول ضد التسلط، وحرية الوطن ضد الاستعمار، ولذلك تظهر المعاداة لكل مظاهر التسلط التركي والبريطاني والأمريكي في الكثير من كتاباته. فنجده يهدي كتابه «مواطنون لا رعايا» إلى الذين ضاقت صدورهم بالظلم، وطال شوقهم إلى الحرية، ويتساءلون أين الطريق؟».
ثم جاءت قضية الاشتراكية التي تبناها خالد محمد خالد بكل جُرأة وشجاعة، فدعا قبل قيام ثورة يوليو بنحو عام، وتحديداً في عام ١٩٥١ ومع صدور كتابه «مواطنون لا رعايا» الى اشتراكية المحرومين، وليس اشتراكية الصدقات، مطالبا في ذلك بالإصلاح الزراعي والتأميم والتمصير وحقوق العمال وتحديد الايجارات وتنظيم النسل. لذلك كان طبيعياً أن ترتبط الثورة المصرية في يوليو ١٩٥٢ بأفكاره التي تأثر بها «عبدالناصر» وبعض زملائه من الضباط الأحرار، إلى الحد الذي قال له الرئيس خلال زيارته له في بيته بمنشية البكري، إنه كان يقوم بشراء كتبه وتوزيعها عَلى عدد كبير من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار.
وقد أخذت الثورة بعدد وافر من أفكاره ووضعتها موضع التطبيق، فمفهوم التقريب بين الطبقات أصبح مع الثورة تذويب الفوارق بين الطبقات، واعتمدت عليه الثورة في مواجهتها لحركة الاخوان المسلمين، ودعوتهم الى الحاكمية الإسلامية والدولة الدينية.
محاكمة خالد محمد خالد
غير أن الكثيرين من الباحثين يَرَوْن أن السنوات الأخيرة من المسيرة الفكرية الطويلة لـ «خالد محمد خالد» قد انتكست عما سبقها من سنين، فبين كتابه «من هنا نبدأ» الصادر في عام ١٩٥٠، وكتابه «الدولة في الإسلام» الصادر في عام ١٩٨١ فرق واضح وصريح، حتى بدت البدايات أكثر تقدمية واستنارة من النهايات – كما يرى البعض-، إلى الحد الذي استنتج معه الدكتور «حسن حنفي» أستاذ الفلسفة الإسلامية الكبير، أن الفكر الثوري الذي ظل «خالد محمد خالد» رافعاً رايته، قد تغير في أواخر حياته، مُتأثراً فيما يبدو بعصر النفط، وصعود الحركة الإسلامية المُحافظة، ودأبه عَلى نشر مقالاته في جريدة «الوفد»، جريدة الرأسمالية المصرية المعادية لثورة يوليو.
وفي مواجهة ذلك أقدم «أسامة» الابن الأكبر للأستاذ «خالد» في عام ١٩٩٤، وقبل رحيل أبيه بثلاث سنوات، بإصدار كتاب عن كتاب أبيه «من هنا نبدأ» يحمل عنواناً مُثيراً هو «محاكمة خالد محمد خالد» وفي هذا الكتاب استرجاع لمعطيات الخمسينيات التي صدر فيها كتاب «من هنا نبدأ» لنقضها، ومقارنة لها بالتسعينيات، حيث يتواصل الحكم عَلى الفكر في المحاكم، وفي خارجها يجري قتلُ الكُتّاب واغتيالهم، في إشارة، – وان كانت ضمنية – لطعن الأستاذ «نجيب محفوظ» واغتيال الدكتور «فرج فودة»، كما يجري منع العشرات من الكتب سنوياً.
ولذلك كان من المدهش، أن معركة الإبن عن ابيه هي الرجوع إلى البداية، حيث الكتاب الرائد «من هنا نبدأ» فالكاتب يعتقد أن الحاجة اليه كبيرة، فبعد نصف قرن، نعجب من أن تكون الحاجة اليه لا تزال أكبر ما تكون.
فهل هذا القول هو إتهام لمجتمع لم يتغير ولا يتطور؟ أم هو تقريظ مُتسرع لكتاب وكاتب، خاض معركة، ولم يربحها بعد؟
اقرأ أيضا:
خالد محمد خالد: الإسلام نبوة لا ملك via @aswatonline https://t.co/xCz1gzaYXG
— أصوات Aswat (@aswatonline) November 21, 2019