رؤى

الأستاذ “العزبي”.. و”عالمه العجيب”! (1-5)

منذ فترة ليست قليلة، صدر في القاهرة كتاب بالغ الأهمية للصحفي الكبير الأستاذ محمد العزبي عنوانه “الصحافة والحكم” وقد صدر ضمن سلسلة  كتاب الجمهورية، وعن تلك المؤسسة الصحفية العريقة، التي ولدت مع ثورة يوليو لتكون  صوتا مُعبرا عنها.

الكتاب بعد أن استولى على مشاعري، وأعاد إلى الذاكرة  وقائع وأحداث كثيرة، يحمل من المضمون ما هو أكبر من هذا العنوان، فقد تحدث عن الصحافة والإعلام، والمجتمع والحكم ومؤسساته، والرؤساء والزعماء، واليهود والحركة الشيوعية في مصر، وعالم السياسة وتقلباتها وحتى الحديث عن المشاعر الإنسانية.

فقد بلغ الأستاذ “العزبي” من الثراء الإنساني والثقافة  الكثير الكثير، ما يجعله بإجماع من اقتربوا منه وعرفوا فضله من شيوخ الصحافة المصرية والعربية الذين ظلوا مُتمسكين  بالمبدأ وكرامة المهنة طوال سنوات وطوال جيل لم يبق منهم، سوى الأستاذ محمد العزبي، والقليل القليل من زملاء جيله.

فقد عاصر  الأستاذ العزبي من صور الحياة وتنوعها، فرحا وحزنا، انتصارا وانكسارا، ما يُعد كنزا إنسانيا ومعرفيا في عالم الصحافة والفكر والسياسة، فقد أمتعنا الأستاذ العزبي على مدى عقود بكتاباته التي تفيض رقة وعذوبة وسلاسة.

غير أن معرفتي بالأستاذ محمد العزبي مرت بمرحلتين، أو قُل عالمين، الأول وأنا في سنوات الصبا، كان ذلك في أعوام الستينيات من القرن الماضي، والثانية عندما تشرفت بمعرفته شخصيا وبالقرب منه.

المرة الأولى، كنت فيها قارئاً لما يكتبه، ولكل الكتيبة الرائعة من صحفيي وكتاب ومفكري جريدة الجمهورية في ذلك الزمن البعيد، كان زملاء الأستاذ العزبي أسماء كبيرة مثل الأساتذة  محمد عودة، وأمير اسكندر، وحافظ محمود، وعبدالرحمن فهمي، وناصف سليم، وإسماعيل المهداوي، وسامي داؤود، وفتحي غانم، وفتحي عبد الفتاح، وحسين عبدالرازق، وفريدة النقاش، وسمير فريد، ويوسف إدريس قبل انتقاله الى الأهرام، وحلمي سلام، وجلال السيد، وعبدالعال الباقوري، وصلاح عيسى وبدوي محمود، وابراهيم نوار، فضلا عن مجموعة من الكُتّاب الكبار مثل الدكاترة محمد أنيس، وفوزي منصور، وإبراهيم سعد الدين، وجمال حمدان، وغيرهم وغيرهم، حتى أننا كنا نسمع كلمات أشبه بالحكمة تقول في ذلك الزمن:

“إذا أردت أن تعرف آخر خبر فعليك بالأهرام، وإذا أردت أن تعرف أفضل رأي فعليك بالجمهورية”.

في ذلك الزمن قرأت مقالا للأستاذ العزبي كان عن كوبا، زمن جيفارا وكاسترو وروح الثورة، كان المقال دراسة شاملة عن كيف تكون صامدا ومُنتجاً وصاحب كرامة، بالرغم من وجودك تحت الحصار الأمريكي وتقع على بعد ٩٠ ميلا من السواحل الأمريكية!

لازال هذا المقال في ذاكرتي لا يُغادرها، رغم مرور أكثر من نصف قرن من العمر، قرأت خلالها الآلاف من الموضوعات والمقالات والدراسات.

جيفارا
جيفارا

غير أن موضوعه الرائع عن “ربيع براج” يحتل نفس المكانة والأهمية، فالموضوع له تفرده، بل ورياديته، فقد تناول وقتها ثورة “ألكسندر دوبتشيك” السكرتير العام للحزب الشيوعي التشيكي، على الجمود المذهبي في الحركة الشيوعية، داعيا إلى الإصلاح وإقامة الاشتراكية ذات الوجه الإنساني!

إلاّ أن الاتحاد السوفيتي في عام ٦٨ وفي إطار الحرب الباردة وفي ضوء الجمود العقائدي لقيادة ليونيد يبريجنيف لم يترك هذا الأمر يمر، فقد دخلت الدبابات السوفيتية للجيش الأحمر العاصمة براج وفرضت سيطرتها على مؤسسات الحزب والدولة، وأُعتقل دوبتشيك، ونُقل على الفور سفيرا لبلاده في تركيا.

وتغيرت الأوضاع بالكامل، غير أن الأستاذ العزبي الذي تناول هذه القضية من وجهة نظر سياسية وإنسانية  واشتراكية، فوجئ بأن الجزء الثاني من دراسته تلك لم ير النور، فلم يُسمح بنشرها، ففي كتابه الجديد “الصحافة والحكم” والذي نحن بصدد الحديث عنه، يشرح الأسباب لذلك المنع بعد استدعائه من وزير الإعلام وقتها الأستاذ محمد فائق، الرئيس السابق للمجلس القومي لحقوق الإنسان، فقد أرجع سبب المنع إلى تشابه ذلك الصراع بين ألكسندر دوبتشيك مع وزير دفاعه، إلى ذلك  الصراع بين الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبد الحكيم عامر، ما يحمل شُبهة الإسقاط عَلى الوضع الحادث آنذاك في مصر!

غير أنني أختلف مع الأستاذ العزبي، في تلك الرؤية التي نقلها عن الأستاذ محمد فائق؛ فالمشير عامر كان قد انتقل إلى رحمة الله في سبتمبر ١٩٦٧، فيما اندلعت أحداث براج في منتصف العام ١٩٦٨، أي بعد غياب عامر بنحو عام، أي لم تكن هناك ثمة مخاوف من نفوذ رجل وضع نهايته بيده عَلى سلطة الحكم والقيادة في مصر!

غير أنني عرفت بعد ذلك من الأستاذ لطفي الخولي -رحمه الله- ما يبدو أنه هو الحقيقة وراء أسباب منع نشر الجزء الثاني من الدراسة الشاملة للأستاذ العزبي عن ربيع براج.

كان الأستاذ لطفي الخولي وقتها رئيسا لتحرير مجلة الطليعة اليسارية التي كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام زمن الأستاذ محمد حسنين هيكل، فقد أعدوا عددا خاصا من المجلة عن ربيع براج، يحمل وجهة نظر نقدية للاجتياح السوفيتي، غير أنهم عرضوا الأمر على الأستاذ هيكل الذي نصحهم بإصدار عدد متوازن، يحمل وجهتي النظر، الذي يرى في الحركة الإصلاحية لدوبتشيك تجديدا للاشتراكية بعد أن أصابها الجمود والتحجر، ووجهة النظر الأخرى التي ترى  في الاجتياح السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا، ضرورة من ضرورات الحرب الباردة والصراع مع الغرب، أمريكا وحلفائها.

وما شرحه الأستاذ هيكل بعد ذلك يكشف عن السبب الحقيقي، لهذا الموقف الغامض الصادر عن القاهرة إزاء هذا الحدث الكبير في السياسة الدولية، فقد استدعاه الرئيس عبد الناصر الذي  أبدى تعاطفه مع ربيع براج، شارحا ملاحظاته النقدية على التجربة السوفيتية في التطبيق الاشتراكي، غير أنه أبلغ الأستاذ هيكل إن أي نقد للغزو السوفيتي، وسحق الحركة الإصلاحية التي قادها دوبتشيك؛ سيكون لها حساسيات بالغة في موسكو، ما سينعكس على توريد شحنات السلاح التي تحتاجها مصر في إعادة  بناء جيشها الذي فقد سلاحه بالكامل إثر هزيمة يونيو1967.

محمد حسنين هيكل

وكان المخرج العبقري لتلك الإشكالية، والتي تُعبر عن رأي القاهرة، هو اقتراح الرئيس بقيام الأستاذ هيكل بإجراء حوار شامل مع الزعيم اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو، الذي أعلن علانية معارضته للغزو السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا!

وبالفعل ذهب الأستاذ هيكل إلى يوغسلافيا، وأجرى الحوار المُنتظر مع الرئيس تيتو، وعاد إلى القاهرة، وقد أفردَ هيكل، بخبرة الصحفي المُطلع على أسرار الحكم، في مقاله الأسبوعي “بصراحة” تلك العناوين التي تحمل نقدا للموقف السوفيتي، غير أنها تأتي جميعها على لسان الرئيس تيتو!

وهكذا تمضي القراءة لكتاب الأستاذ العزبي، فهو يمثل تاريخا من حياة الوطن والصحافة والثقافة والحكم، إلاّ أنه يمثل في الوقت نفسه، بما يكتبه، تنشيطا لذاكرة من هم من أبناء جيلي، جيل الستينيات من القرن الماضي، ففي قراءة هذا العمل الثقافي البديع، تستدعى أحداث ووقائع، وتبدو المقارنة والمواجهة.. بل والمطابقة بين ما كتبه الأستاذ العزبي، وما تحفظه الذاكرة، عملا منطقيا ومشروعا؛ بل واجبا وضروريا.

غير أنني واجهت عند قراءة هذا الكتاب الجميل ما يستدعي المقارنة بين طريقة كتابة الأستاذ العزبي، والأستاذ عباس محمود العقاد، مقارنة بين السهل الممتنع، والصعب المستحيل!

ملاحظة:

هذه السلسة من الكتابات سبق أن نشرتها فور صدور الكتاب في نهاية عام ٢٠١٥، عن أستاذي وأخي الكبير الأستاذ محمد العزبي، أعيد نشرها لعل من يقرأها يجد فيها بعض الفائدة. فلم أتوقف عند قيمة الأستاذ العزبي، الفكرية والثقافية فقط، ولكن توقفت عند عصره وعصرنا، وجيلنا وجيله. وما أعظمه من جيل!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock