رغم ما قدمه المفكر الكبير الراحل طه حسين لمشروع التنوير العربي، إلا أن هناك أتهاما شائعا طال الرجل، وأطلقه بعض المنتمين إلي معسكر التنوير، الذين يزعمون أن مشروع طه حسين الفكري كان بمثابة ردة عن الخطاب العقلاني النقدي التنويري الذى برز في أواسط القرن التاسع عشر.
ومن وجهة نظر هولاء التنويريين، فإن طه حسين، شكّل تعبيراً جلياً عن منحى عقلاني هش في مواجهته للأصولية الدينية التي يرون أنه أنكفأ أمامها في موقف دفاعي مستسلماً، ومعلناً اعتذاره وارتماءه في أحضان الأيديولوجيا الدينية السائدة. وللتأكيد على ذلك، يستشهدون بتحول الموقف الفكري لطه حسين من نقد الثوابت الدينية باستخدام منهج الشك الديكارتي، كما فعل في كتابة الشهير (في الشعر الجاهلي) إلي المصالحة مع المؤسسة الدينية في مصر واتجاهه إلي الكتابة في الإسلاميات!
ضد المنهج العقلي
وأعتقد من وجهة نظري المتواضعة أن اتهام هولاء التنويريين لطه حسين بالارتداد عن النهج العقلاني النقدي والخضوع للأيديولوجيا الدينية السائدة والاعتراف بمشروعية قوالبها المغلقة، هو في حد ذاته ارتداد عن هذا النهج وخضوع للإيديولوجيا وقوالبها المغلقة وذلك لسببين:
الأول: أننا لو قسنا هذا التحول في موقف طه حسين على مقياس أطروحات العقلانية النقدية نفسها، التي يتشدق بها من يتهمونه بالرده عنها سنجد أن موقف عميد الأدب العربي كان بمثابة تجسيد لأطروحات المنهج العقلاني النقدي. فالعقلانية النقدية -بمعناها المعرفي الذى يتجاوز توظيفها كلافتة إيديولوجية -تعنى التفرقة ما بين الحقيقة واليقين، فدور المعرفة العلمية يكمن في البحث عن الحقيقة من خلال وضع الأفكار موضع الاختبار الواقعي على الأرض، ومن ثم تتخذ الأفكار والنظريات طابعاً إجرائياً من خلال قابليتها للدحض والتكذيب وهو ما عبر عنه الفيلسوف البريطاني كارل بوبر، أحد أبرز اقطاب تيار العقلانية النقدية في كتابة (أسطورة الإطار)، بقوله إنه «إذا ما تم دحض نظريتي فإن عدد النظريات التي مازالت قائمة قد تقلص، أما إذا صمدت أمام ذلك الدحض فإنى أكتسبها بنوع من الصلابة»، وهى مقولة تتسق مع منهج بوبر العقلاني النقدي الذى يتكون من أربع مراحل، هي طرح المشكلة، ووضع الحلول لها، ثم استبعاد الحلول الخاطئة من خلال أخضاعها إلي الشك والتكذيب، وصولا إلى طرح جديد للمشكلة ذاتها.
وفي ضوء ذلك فإن من حق طه حسين، بل ومن حق أي مفكر ينتهج المنهج العقلاني النقدي، أن يقوم بمراجعة أفكاره وقناعاته قياساً على تفاعلها مع الواقع أولاً، وقياساً على قابليتها للخضوع لتكذيب عقله لها ثانياً، ثم يقوم بعد ذلك بغربلة واستبعاد ما يراه خاطئا من أفكار وقناعات، ليطرح قضيته بشكل جديد ومختلف.
طه حسين وكارل بوبر
موقف أيديولوجي
ومن ثم فإن منحى إدانة وجلد طه حسين، بعدما تغيرت قناعاته الفكرية هو في حد ذاته منحىٍ معادٍ لتلك العقلانية النقدية، لأنه يتعاطى بشكل يقيني أقرب إلي الأيديولوجيا منه إلي العلم، مع موقف الرجل العقلي والفكري الذى بلوره في كتابه (في الشعر الجاهلي)، كما أن هذا الرأي يشكل ادانة قاسية للرجل، لمجرد أنه أستخدم حقه العقلي النقدي المطلق غير المُقيد، متحولاً عن قناعاته القديمة التي طرحها في هذا الكتاب بشكل علمي ومنهجي.
أما السبب الثاني، فهو أن هناك موقفا مغايرا ً للتيار الأغلب من التنويريين العرب، ولا سيماً المصريين منهم، تجاه هذا التحول الفكري في مشروع طه حسين. ويتأرجح هذا الموقف بين تصورين لتيارين مختلفين.. التيار الأول، وهو الأغلب بين مثقفي تيار الاستنارة، ويعتقد بضرورة تجاهل هذا التحول و اختزال مشروع طه حسين في كتابة (في الشعر الجاهلي)، ومن ثم يتعاطى هذا التيار مع المعركة التي دارت حول الكتاب باعتبارها أمجد معارك التنوير في مصر، ويستدعيها كلما حدث صدام يتعلق بحرية التعبير والرأي بين دعاة التيار العلماني التنويري وبين القوى الدينية ممثلة في المؤسسة الدينية الرسمية أو التيارات الأصولية.
تراجع تكتيكي
أما التيار الثاني فيعترف، على العكس من ذلك، بهذا التحول في مشروع طه حسين الفكري، لكنه يعتبره بمثابة تراجع تكتيكي هدفه اكتساب تيار الاستنارة لمساحة جديدة على حساب القوى الدينية، وهو ما ذهب إليه الباحث إبراهيم فوزى في رسالته للماجستير المقدمة إلي جامعة القاهرة بعنوان (تحولات الفكر في مصر في الثلاثينيات والأربعينيات). فقد درس الباحث هذه التحولات الفكرية، وفى مقدمتها بالطبع التحول الذى طرأ على مشروع طه حسين في سياق التحولات السياسية الذى حدثت داخل مصر وخارجها، ليصل إلي نتيجة مختلفة عن ما يعتقد نقاد هذا التحول، وهى أن هذا التحول لم يكن ردة أو خيانة أو تراجعاً عن أفكار المشروع التنويري، أو بدافع الخوف من مواجهة الرأي العام بتلك الأفكار، بل كان الهدف منه اجتذاب قطاعات جديدة من الجماهير تجاه الخطاب التنويري الليبرالي، بتعويد الجماهير على استقبال الفكر التراثي من الكتاب التنويريين، بعد ما كان مقصوراً على رجال الدين، خصوصاً مع تأثر طه حسين وغيره من مفكري التنوير بحركة نقد الكتاب المقدس في أوربا، ومن ثم فإن هذا التحول لم يكن يعنى تراجع طه حسين عن توجهاته الليبرالية التنويرية بل يعنى تأكيدها.
ويمكن القول في النهاية إن التحول الفكري الذى طال مشروع الراحل طه حسين، قد وقع في أسر ذلك التأويل الإيديولوجي، سواء الذى أدان حق الرجل المشروع في تغيير مواقفة وقناعاته، أو تجاهل ذلك التحول على أرضية خطاب التنوير التقليدي، أو الطرف الثالث الذي أيّد ذلك التحول باعتباره خطوة إلي الوراء، تتبعها خطوتان إلي الأمام، في مواجهة شيوخ المؤسسة الدينية، وهو تأويل لا يعكس في مجمله الطابع الإشكالي لمشروع طه حسين الفكري بتحولاته وتقلباته على الصعيد المعرفي، بقدر ما يعكس هيمنة الوعى الإيديولوجي على خطابنا الثقافي والفكري. وهذا ما انتهى إلى توظيف التحول الفكري في مشروع العميد توظيفاً سياسياً بحتاً، إما للمزايدة عليه وأقصائه من دائرة التنويريين العرب، أو للاختباء خلفه لمواجهة المؤسسات والتيارات الدينية، وهو توظيف يحكمه منطق منغلق ومهزوم، لأنه يجرد بكل بساطة كاتبا ومفكرا عملاقا بوزن طه حسين، من حقه العقلي والمعرفي المشروع في تغيير أفكاره، ولا يرى في ذلك إلا إرتماء في أحضان الاصولية الدينية. ومشكلة مثل هذا التوظيف أنه ينقل الفكر المصري والعربي، من سعة المعرفة وتجردها، إلي ضيق الإيديولوجيا وانحيازاتها.
اقرأ أيضا:
كيف برأت النيابة طه حسين من تهمة «التشكيك في القرآن»؟ (1-2) via @aswatonline https://t.co/UAjuSiuyFM
— أصوات Aswat (@aswatonline) August 14, 2019