*ميديا بنجامين – كاتبة وناشطة حقوقية أمريكية ومؤسس مشارك لمنظمة «كود بينك» المناهضة للحرب
*نيكولاس ديفيز – صحفي مستقل وباحث في منظمة «كود بينك»
*عرض وترجمة: أحمد بركات
تجتاح العالم في الوقت الراهن ثورات شعبية عارمة، ضد عقود طويلة من هيمنة حكومات يمين الوسط ويسار الوسط النيوليبرالية (الليبرالية الجديدة)، التي أفادت الشركات الثرية متعددة الجنسيات على حساب الطبقة العاملة.
ففي «خريف الغضب» الراهن، تنتفض الشعوب من شيلي وهايتي وهندوراس إلى العراق ولبنان ضد النيوليبرالية، التي فرضها عليهم في كثير من الحالات الغزو الأمريكي والانقلابات العسكرية وغير ذلك من منهجيات الاستخدام الوحشي للقوة. وبينما أدى القمع المفرط ضد هؤلاء النشطاء إلى سقوط – على سبيل المثال لا الحصر – أكثر من 250 قتيلا في العراق وحدها على مدى شهر أكتوبر الماضي، فإن المد الثوري يشهد تصاعدا عالميا لافتا. كما نجحت فعليا بعض الحركات، على غرار ما حدث في الجزائر والسودان، في إسقاط حكومات فاسدة كانت تضرب بجذورها في أعماق عقود طويلة من الزمان.
شيلى وقاعدة ال 5 ,3%
في هذا الإطار، تبرز شيلي كنموذج أيقوني للانتفاضة العالمية ضد النيوليبرالية. ففي 25 أكتوبر، خرج مليون مواطن شيلي – في دولة لا يتجاوز تعداد سكانها 18 مليون نسمة – إلى الشوارع في جميع أنحاء البلاد، ولم يقمعهم الاستخدام المفرط للقوة من قبل حكومتهم، والذي أودى بحياة 20 شخصا على الأقل، وجرح مئات آخرين. وبعد يومين فقط، اضطر الرئيس الشيلي، الملياردير سيباستيان بينيرا، إلى إقالة حكومته بالكامل، معلنا: «إننا بصدد واقع جديد؛ فشيلي اليوم ليست هي شيلي قبل أسبوع واحد».
ويبدو أن شعب شيلي قد أثبت صحة ما أكدته إيريكا تشينوويث في أبحاثها التي أجرتها حول الحركات الاحتجاجية غير العنيفة، والتي توصلت فيها إلى أنه «بمجرد أن ينهض أكثر من 3.5% من الشعب للمطالبة بالتغيير السياسي والاقتصادي بأساليب سلمية لا تجنح إلى العنف، فإنه لا يمكن لأي حكومة أن تقاوم مطالبهم».
في هذا السياق، لم يبق إلا أن نرى ما إذا كانت استجابة بينيرا السريعة ستكفي لإنقاذ استمراره في الحكم، أم تراه سيكون الضحية التالية لقاعدة «3.5%» التي وضعتها تشينوويث.
ومن المنطقي تماما أن تكون شيلي في طليعة «خريف الغضب» الذي يجتاح العالم اليوم ضد مظالم النيوليبرالية، بالنظر إلى أنها كانت المختبر الأصلي الذي تم فيه تحضيرها. فبعد فوز الزعيم الاشتراكي الراحل سلفادور الليندي في انتخابات عام 1970، بعد عملية سرية قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على مدى ست سنوات للحيلولة دون انتخابه، أمر الرئيس الأمريكي آنذاك، ريتشارد نيكسون، بتوقيع عقوبات “تجعل الاقتصاد الشيلي يئن ويتهاوى.
وفي السنة الأولى من توليه الحكم، نجحت السياسات الاقتصادية التقدمية التي انتهجها الرئيس الليندي في تحقيق زيادة في الأجور الحقيقية بنسبة 22%، كما بدأ العمل في بناء 120 ألف وحدة سكنية جديدة، وتأميم مناجم النحاس وغيرها من القطاعات الصناعية الأخرى. لكن معدلات النمو لم تلبث أن تباطأت في عامي 1972 و1973 تحت وطأة ضغوط العقوبات الأمريكية القاسية، كما يحدث اليوم في فنزويلا وإيران.
وفي 11 سبتمبر 1973، تمت الإطاحة بالرئيس الليندي على إثر انقلاب عسكري دعمته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA). وقام الرئيس الجديد، المدعوم من الولايات المتحدة ودول غرب أوربا، الجنرال أوجستو بينوشيه، بإعدام أو إخفاء 3200 شخص على الأقل، والقبض على 80 ألف ناشط سياسي، وإيداعهم السجون، وأسس نظاما ديكتاتوريا وحشيا استمر في الحكم حتى عام 1990.
أولاد شيكاغو.. والنموذج النيوليبرالى
قام بينوشيه بإعادة هيكلة شاملة وجذرية للاقتصاد الشيلي، وأسس لهذا الغرض ما أطلق عليه «أولاد شيكاغو»، وهم مجموعة من طلاب الاقتصاد الشيليين الذين تدربوا في جامعة شيكاغو، تحت إشراف ميلتون فريدمان. وسرعان ما بادرت الولايات المتحدة إلى رفع العقوبات المفروضة على شيلي، وقام بينوشيه ببيع الأصول العامة للبلاد إلى شركات أمريكية ومستثمرين أثرياء.
كان البرنامج النيوليبرالي العالمي آنذاك يقوم على خفض الضرائب عن الشركات والأثرياء، وإجراء عملية خصخصة شاملة، وتقليص معاشات التقاعد وميزانيات الرعاية الصحية والتعليم وغيرهما من الخدمات العامة في جميع أنحاء العالم.
وبينما أشارت مجموعة إقتصاديي «أولاد شيكاغو» إلى ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي في شيلي كدليل على نجاح برنامجهم النيوليبرالي، إلا أنه بحلول عام 1988 كان 48% من الشيليين يعيشون تحت خط الفقر. وتعد شيلي اليوم واحدة من أغنى دول أمريكا اللاتينية، لكنها تعد أكثرها من حيث اللامساواة والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي.
ولم تحد الحكومات التي توالت على عرش البلاد بعد بينوشيه، من يمين الوسط إلى يسار الوسط، عن النموذج النيوليبرالي، وواصلت استغلال حاجات الطبقات الفقيرة والعاملة الذين لا يزالون يدفعون ضرائب أعلى من رؤسائهم المتهربين، إضافة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، ومعدلات الركود، وتدني مستوى الخدمات التعليمية والرعاية الصحية، وقد تحول هذان القطاعان على وجه التحديد إلى منظومة طبقية بامتياز؛ مما أودى بمجتمعات السكان الأصليين إلى أن ترزح في قاع هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الفاسد.
بدت النيوليبرالية وكأنها ’نهاية التاريخ‘ بالنسبة لشيلي، وهو ما أدى إلى إصابة الشيليين بخيبة أمل عميقة تجاه العملية السياسية برمتها، وتراجع إقبال الناخبين من 95% في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 1989 إلى 47% في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في عام 2017.
ثورة عالمية
إذا كانت تشينوويث محقة فيما أكدته في دراساتها عن الاحتجاجات الشعبية كوسيلة للتحولات السياسية والاقتصادية، وتجاوز المليون مواطن الذين خرجوا إلى الشوارع في جميع أنحاء شيلي نقطة التحول السلمي صوب بناء ديمقراطية شعبية، فإن شيلي تقف اليوم على أعتاب دور طليعي تاريخي جديد، ولكن هذه المرة لإشعال فتيل ثورة عالمية ضد المظالم السياسية والاقتصادية التي خلفتها النظم النيوليبرالية.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?