*بول روجرز – زميل أول في قسم الأمن الدولي في «مجموعة أكسفورد للبحوث»، وأستاذ دراسات السلام بجامعة برادفورد
*عرض وترجمة: أحمد بركات
ليس الأمر كما تحاول حكومة الولايات المتحدة أن توهمنا؛ فالأمور في أفغانستان لا تسير على ما يرام على الإطلاق. فقبل أيام قلائل، زعمت صحيفة The Washington Post أن التقارير الحكومية السرية تكشف عن حملة ممنهجة لإضفاء «صورة وردية على الحرب»، وذلك من خلال «تصدير تصريحات يعرفون كذبها، وإخفاء أدلة لا لبس فيها على أن الحرب هناك باتت لا تحتمل أي نهاية سعيدة».
ربما يمثل هذا مفاجأة لكثيرين، لكنه ليس كذلك بالنسبة إلى المنافذ الإعلامية القليلة التي تبنت وجهة نظر غير منحازة لفكرة الحرب قبل نحو عقدين من الزمان ،وما يمكن أن تحققه من تقدم مزعوم.
منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب كانت هناك مؤشرات عديدة على وجود مشكلات كبرى، لكنها حُجبت عن العقل الجمعي الأمريكي بفعل فورة الحماسة المفرطة للآلة العسكرية الأمريكية وقدراتها الهائلة على دك حصون طالبان والقاعدة في غضون ثلاثة أشهر على الأكثر من وقوع أحداث 11 سبتمبر.
وبرغم هذه المؤشرات، مضى جورج دبليو بوش قدما في مشروعه. وبعد أقل من شهر، استخدم خطاب «حالة الاتحاد» (The State of the Union Address) في عام 2002 لتوسيع دائرة الحرب ضد تنظيم القاعدة إلى صراع أشمل ضد «محور الشر». كانت العراق وإيران وكوريا الشمالية أول أعداء يجب أن تنال منهم آلة الحرب الأمريكية، وتبقى ليبيا وسوريا وكوبا ضمن القائمة. لم يكن كل العسكريين الغربيين مؤمنين بأن هذه الاستراتيجية القائمة على الحل العسكري وحده جيدة للمضي قدما. وقد تم تضمين أحد أبرز الأدلة على ذلك في تقرير نُشر في يناير 2001، أي قبل شهور من أحداث 11 سبتمبر، وحرب الإرهاب التي أعلنها بوش ضد محور الشر. تضمن هذا التقرير خطابا ألقاه قائد القوات المسلحة البريطانية في ذاك الوقت، الأدميرال مايكل بويس، أمام جمهور من النخبة، في «المعهد الملكي للخدمات المتحدة» (Royal United Services Institute) في لندن، حذر فيه من مغبة فكرة إمكانية حسم الحرب على الإرهاب من خلال عمل عسكري مكثف دون إدراك الأسباب الجذرية للمشكلة.
جورج دبليو بوش
والأهم من ذلك، أن بويس قد حذر من أن استخدام القوة المفرطة يمكن أن يسهم في إضفاء الطابع الراديكالي على الرأي العام الإسلامي.
كان بويس يستمد تحليلاته من مصادر عسكرية شديدة الدقة، لذلك فقد تحدث صراحة عن مغبة الحرب حتى في الوقت الذي كانت تقوم فيه الولايات المتحدة بقصف مناطق طالبان. وعلى مدى الشهور التالية، كانت هناك إشارات واضحة على أن الأمور في أفغانستان لا تسير في صالح البنتاجون.
وفي 31 ديسمبر أفاد تقرير آخر بأن الغالبية العظمى من عدة آلاف من عناصر الميليشيات التابعة لتنظيم القاعدة في أفغانستان قد اختفت تماما من المشهد، وأن بضعة مئات منهم فقط قد تم إلقاء القبض عليهم أو قتلهم. إذا كان هذا حقيقيا بالنسبة لتنظيم القاعدة، فإنه يصدق بدرجة أكبر على عشرات الآلاف من عناصر ميليشيات طالبان الذين تراجعوا وتفرقوا مرة بعد أخرى أثناء القتال ضد قوات التحالف. فبالنسبة لعناصر طالبان كان الأمر لا يتجاو مجرد عودة إلى قراهم أو مدنهم، أما بالنسبة لمقاتلي تنظيم القاعدة فقد كان يعني عبور الحدود صوب باكستان.
علاوة على ذلك، في بداية عام 2002، وفي غضون أسابيع من تحديد بوش لعناصر ’محور الشر‘، كان نطاق الحرب ضد طالبان والقاعدة يتسع. أحد الأمثلة على ذلك كانت العملية التي قامت بها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد قوات المتمردين حول بلدة «سيركانيل» الجبلية في جنوب كابول. لكن هذه العملية، التي شارك فيها ألف جندي أمريكي تدعمهم قوات محلية، أسفرت عن نتائج عكسية ظهرت آثارها مبكرا، حيث تبين أن تقدير حجم قوات المتمردين كان مجافيا للواقع تماما.
في هذا السياق أفاد تقرير أنه «مع تطور الصراع كان يجب تعزيز القدرات الأمريكية بخمس مروحيات هجومية من طراز Cobra وطائرتي نقل من طراز UH-53 تنطلق من سفينة دعم برمائية من طراز Bon Homme Richard في بحر العرب». كما أشار تقرير غير مؤكد صادر عن هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) إلى أن المروحيات الخمس كان يجب أن تحل محل خمس مروحيات أخرى تمت إصابتها من قبل قوات المتمردين أثناء القتال. وقد اشتمل القتال على استخدام مكثف لقاذفات القنابل والمقاتلات AC-130 وأسلحة الباريوم الحرارية، حيث أسقطت الطائرات الأمريكية والفرنسية 450 قنبلة في الأيام الأربعة الأولى فقط من انطلاق العملية.
وفي غضون أربع سنوات، كانت طالبان تبسط نفوذها في جميع أنحاء أفغانستان. وارتفع عدد القوات الغربية من 5000 جندي في نهاية عام 2002 إلى 130 ألف جندي بعد مرور عقد واحد فقط من الزمان. ومع ذلك لا تزال الحرب مستمرة حتى يومنا هذا.
لعل الأثر الإيجابي الوحيد الذي خلفته هذه الخبرة المبكرة في واقعنا المعاصر هو تلك الطمأنينة التي نشعر بها الآن حيال انطفاء جذوة هذه الحرب وأن نهايتها صارت وشيكة. رغم ذلك، يصر دونالد ترمب على أن يعلن دائما أن الغرب قد انتصر. وتتجاهل وسائل الإعلام الغربية عودة تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيمات أخرى على شاكلته في سوريا والعراق، وتصم آذانها عما يحدث في ليبيا واليمن والصومال أو افغانستان، وتبدو وكأنها لا تعي حقيقة ما يجري على الأرض في منطقة الساحل في أفريقيا.
وبين الحين والآخر، يحدث ما يلفت الانتباه بشدة. مثل الهجوم الجماعي الذي شنته عدة مئات من عناصر التنظيمات شبه العسكرية في النيجر في بداية هذا الشهر (ديسمبر 2019). كما أفادت تقارير بأن جماعات مرتبطة بتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية قد اجتاحت قاعدة عسكرية، وقتلت 71 جنديا من القوات الحكومية في النيجر، في الوقت الذي تتصاعد فيه وتيرة القتال في جميع أنحاء البلاد برغم وجود الآلاف من جنود القوات الفرنسية والإقليمية التي تدعم الحكومة النيجيرية في عملياتها لمكافحة الإرهاب.
وراء الكواليس، وحتى هذا الوقت، ربما يخبر بعض الحكماء الحكومات البريطانية والأمريكية والفرنسية وغيرها من حكومات الغرب بأن أفكار الأدميرال بويس، التي تمتد إلى ثمانية عشر عاما خلت، عن ضرورة الالتفات إلى الأسباب الجذرية لانتشار الإرهاب، وضرورة تجنب إثارة المزيد من المد الراديكالي، كانت أفكارا مهمة في حينها، مثلما هي الآن. لكن، لا يبدو أن أيا من هذه الحكومات قادر على تفهم الأمر، وقد يستغرق الأمر عقدين آخرين قبل أن تتعلم من تجاهلها العنيد والمتعمد والجامح للواقع المؤلم.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا