كان إسماعيل مظهر المولود فى القاهرة فى التاسع عشر من يناير عام 1891 واحدا من أهم دعاة الإصلاح فى عصره، وكان صاحب فكر تقدمي حر، ودعا إلى إنشاء حزب للفلاح باعتبار أن الزراعة والريف هما جوهر مصر الحقيقي.
وعندما قامت ثورة 1919 كان مظهر قد بلغ من العمر ثمانى وعشرين سنة، وكان قد عاد من بعثته الدراسية إلى إنجلترا، التى قضى فيها ست سنوات من 1908 إلى 1914. فإذا علمنا أنه قد توفى عام 1962، فهذا يعنى أنه قد شارك بالرأى والفكر فى القضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية التى صاحبت أكبر ثورتين مصريتين فى العصر الحديث، وهما ثورتي 19 ويوليو 1952. فهو صاحب رحلة طويلة امتدت على مدار أربعة عقود، من أوائل العشرينيات وحتى أوائل الستينيات.
كاتب موسوعي
شأنه شأن طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل ولطفى السيد، كان إسماعيل مظهر كاتبا موسوعيا، لكنه تميز عنهم بتخصصه العلمى، الذى ظل حاكما لرؤيته العامة لكل القضايا التى تعرض لها، خاصة ميله لنظرية التطور الداروينية، وترجمته المبكرة لكتاب «أصل الأنواع» لداروين.
محمد حسين هيكل والعقاد و طه حسين ولطفى السيد
ويمكن القول إن إسماعيل مظهر مثقف عضوي، فهو فاعل فى مجتمعه من خلال الكلمة الواعية المستنيرة ،حيث أسس مجلة «العصور» التى استمرت ثلاث سنوات من 1927إلى 1930 على نفقته الخاصة. وترجع موسوعية مظهر إلى اطلاعه الواعى فى مقتبل شبابه على التراث الإسلامى ثم قراءته – فى نفس الفترة تقريبا – لكتاب شبلي شميل «فلسفة النشوء والارتقاء» الذى فتح أمامه آفاق العلوم التجريبية والإنسانية.
ويذهب د. مجدى عبد الحافظ فى كتابه «التطور والتوفيقية عند إسماعيل مظهر» إلى أن «هذه النشأة بشقيها الدينى والعلمى كان لها أبلغ الأثر فى توجهه التوفيقي الذى ظل مضطربا عنده وغير واضح ». وفى تقديرنا أن هذه أحكام جزافية متسرعة فالكاتب – أى كاتب –لايصنف بروافد ثقافته – التى ينبغي أن تكون متنوعة بالضرورة وإلا فقد كونه مثقفا – بل يُصنف من خلال القضايا التى ظل مبشرا بها ومدافعا عنها. وبهذا الفهم نستطيع قراءة مظهر والوقوف على القضايا التى ظلت ملازمة له طيلة حياته.
الحرية أولا.. الحرية دائما
لم تكن علاقة إسماعيل مظهر بأحمد لطفى السيد مجرد علاقة نسب فحسب -حيث تزوج مظهر شقيقة لطفي السيد- بل كان لطفى السيد داعية الليبرالية الكبير أستاذا لمظهر ،وصاحب تأثير قوى عليه. ولهذا السبب – بالإضافة إلى ثقافته الخاصة – كان إيمانه بالليبرالية وهو مادفعه فى العدد الأول من«العصور» إلى أن يطرح تعريفا للديمقراطية ذا طابع ليبرالي، يظهر فيه حس نخبوي متوجس من الجماهير، حيث يفرق بين ديمقراطية الأفراد القائمة على حرية الفكر والمعتقد، وحرية الكلام والنشر وديمقراطية الجماهير المستسلمة للمشاعر والعواطف التى تقتل حرية الأفراد، إبقاء على حرية فرد واحد يدعوه السياسيون عادة بالديماجوج، وهو الشخص القائم على قيادة الجماهير.
ومن الواضح أن إسماعيل مظهر كان يخلط – فى ذلك الوقت المبكر لنشأة الليبرالية فى مصر – بين ديمقراطية الجماهير وما يعرف بالشمولية الشعبوية المعتمدة على وجود حاكم فرد يتمتع بكاريزما الزعامة والقدرة على قيادة الجماهير باللعب على مشاعرها الوطنية أو الدينية، وبين الديقراطية بمعناها الغربي الحقيقي، والتي تعني الفصل بين السلطات، وتمكّن الجماهير من اختيار حاكمها ومحاسبته وعزله.
ولعل أرستقراطية مظهر وتأثره بصهره لطفى السيد، تفسر هذه الخشية من الجماهير، خاصة أن أغلب أبناء الشعب المصري، في ذلك الوقت، لم يكونوا قد أخذوا حقهم فى التعليم والثقافة.
ومن الأمانة أن نذكر أن أفكار مظهر قد تطورت بعد ذلك، حيث دعا إلى الإصلاح الاجتماعى وإنشاء حزب «الفلاح» أو حزب «العمال والفلاحين»، وهى دعوة بدت جريئة وتقدمية فى ذلك الوقت ،حتى أن حزب الوفد -الذى كان يوصف بحزب الشعب -قد رفض تكوين هذا الحزب، بينما اتهمه حزب «الأحرار الدستوريين» الليبرالي، بأنه يدعو إلى حرب الطبقات، والشيوعية والاتصال بموسكو، وقد قُبض عليه لمدة يوم واحد ثم أطلق سراحه.
ناصري قبل عبد الناصر
كانت الليبرالية التى لاتغفل البعد الاجتماعي، هى القيمة الأساسية فى فكر إسماعيل مظهر، وبسببها أعلن رفضه للشيوعية، لأنها تقوم على الشمولية والحزب الواحد، وتفضيله لاشتراكية حزب العمال البريطانى، بعد أن رصد مخاطر النظام الرأسمالي. لهذا رأى أن سياسة حزب العمال الاشتراكية الديمقراطية التطورية هي الحل لهذا التناقض بين الشيوعية المولية، وبين النظام الرأسمالى القائم على الاستغلال والقهر. لهذا فقد دعا إلى «قيام نظام اجتماعي قائم على التكافل بين الفرد والمجتمع»، وهو بذلك اقترب من الخطاب الناصري حول خصوصية الاشتراكية العربية، ويبدو شعار «التكافل الاشتراكي» قريبا من شعارات ثورة يوليو عن إقامة «المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني» و«تحالف قوى الشعب العاملة»و«تذويب الفوارق بين الطبقات».
وإلى جانب أفكاره التي تنتصر للعمال والفلاحين، كان إسماعيل مظهر من دعاة المساواة بين المرأة والرجل فى في جميع الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، بما فيها المساواة الميراث، وقد استند في دعوته الخاصة بالميراث -والتي اطلقها أواخر الأربعينيات، إلى ما سماه الطابع التاريخي للتشريعات الإسلامية وإمكانية تطويرها طبقا لتطور الحياة. ومن المؤكد أن الكثيرين يختلفون تماما مع هذا الطرح الخاص بالميراث الذي قدمه مظهر لمخالفته نصوص قرآنية صريحة، لكن أسبقيته فى تناول هذه القضية تظهر أنه كان سابقا لعصره بسنوات كثيرة.
ومن القضايا المهمة المثارة حاليا، والتى كان فيها سابقا لعصره أيض، قضية الطلاق، فهو يرى أن «مقتضى النظام يحتم علينا أن نقيم الأسرة على أساس أثبت من الأساس الذى يجعل للرجل حق الطلاق غير منازَع فيه وأن نجعل الطلاق حقا للطرفين على أن يكون بحكم محكمة خاصة، وإلا فلا يقع طلاق مهما كان الأمر».
كان إسماعيل مظهر -بلا شك- تنويريا كبيرا انصبت كل كتاباته على ضرورة إقامة دولة مدنية حديثة يتمتع فيها الجميع بحقوقهم على اختلاف الدين والجنس .