من خلال عشرات الأدوار المتميزة استطاع أحمد راتب أن يحفر اسمه بحروف من ذهب في سجل المبدعين العظام.. بعد أن نهل رحيق الفن من منابعه الصافية؛ ليروي شجرة موهبته المتجذرة في أعماق روحه؛ لتصير وارفة الظلال لنحو من أربعة عقود ونصف، أمتع فيها جمهور الفن العربي بأعمال ستظل شاهدة على أصالة إبداعه وفنه الرفيع وأدائه المعجز.. واليوم في ذكرى ميلاده الحادية والسبعين (ولد في 23 يناير 1949) نستعيد أهم ملامح حياة وفن ذلك المبدع الكبير.
https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/498082024394749/?t=1
بين الهندسة والتمثيل
في أواخر فبراير عام 1968، صدر الحكم على قادة سلاح الطيران بعد هزيمة 5 يونيو؛ وجاءت الأحكام التي وصفت بالضعيفة، سببا في اندلاع المظاهرات، فخرج عمال مصانع الطائرات بحلوان في مسيرات تصدت لها الشرطة ما أسفر عن وفاة عامليْن، ووقوع عدة إصابات واعتقال العشرات، وانتقلت الشرارة إلى الجامعات وكان طلاب كلية الهندسة جامعة عين شمس في الطليعة؛ فنظّموا مسيرات استهدفت الوصول لميدان العباسية، ثم اعتصموا داخل الحرم الجامعي؛ لكن قوات الشرطة اقتحمت الاعتصام وألقت القبض على عدد من قادته. وكان من بينهم شاب نحيل في التاسعة عشرة من عمره يدرس بالفرقة الثانية بالكلية في قسم الميكانيكا يدعى أحمد كمال الدين راتب؛ يتوهج بالحماس والشعور الوطني الصادق.. غير أن هذا الفتى المناضل كان يتمتع بعشق جارف للفن أيضا.
بعد تسعة أيام من الإعتقال أُفرج عن راتب الذي خرج أكثر إيمانا بضرورة العودة إلى الخط الثوري ليوليو، ومحاسبة كل المسئولين عن النكسة و كذلك إطلاق الحريات بلا مماطلة.
في العام التالي يرسب «أحمد راتب»، ويقرر ترك دراسة الهندسة، والالتحاق بعهد الفنون المسرحية؛ لكن والده يقنعه بضرورة الجمع بين الدراستين؛ فَيَجِدُّ الفتى ويبذل جهدا كبيرا حتى يتمَّ الدراسة في الكلية والمعهد الذي تخرَّج فيه الأول على دفعته.
في «استوديو جلال» قضى «راتب» فترة تجنيده بسلاح الشئون المعنوية،؛ إذ كانت هناك وحدة عسكرية بالاستديو نظرا لظروف الحرب.. وقد أتاح له ذلك أن يرى عن قرب، العمل داخل الاستوديو، وتصوير بعض الأفلام.. وداعب خياله العمل في السينما؛ لكنَّه رآه حلما بعيد المنال.
في حضرة العملاقيْن
في سنوات الطفولة كان «راتب» ابن حي السيدة زينب، المنحدر من أصول صعيدية -أبنوب الحمَّام بأسيوط- يتردد على بيت خاله «صبحي يوسف» الذي كان صديقا مقربا للشيخ «سيد مكاوي» والفنان متعدد المواهب الشاعر «صلاح جاهين»، وكثيرا ما حضر الفتى سهرات فنية في هذا المنزل.. كانت تمتد حتى الساعات الأولى من الصباح؛ فتعلق بالفن تعلقا شديدا، خاصة عندما انضمت أخته الطالبة بكلية السياسة والاقتصاد لفريق التمثيل، فكان يحضر معها البروفات ليرى كيف يتم الإعداد للعمل المسرحي.ربما منذ ذلك الحين قرر «راتب» أن يكون ممثلا، حتى بعد أن انصرفت أخته عن التمثيل لتتفرغ لدراستها لتصبح فيما بعد د. إجلال راتب عضو هيئة التدريس بالكلية.
في المدرسة الخديوية التحق «راتب» بفريق التمثيل، وكان المشرف على المسرح المدرسي بالوزارة في ذلك الوقت الفنان «صلاح منصور» الذي كان ينتدب المخرجين المحترفين؛ لإخراج العروض المسرحية التي تقدمها فرق المدارس الثانوية.على مسرح المدرسة مثَّل «راتب» من إخراج «نور الدمرداش» عددا من العروض منها «البرجوازي الصغير» لـ «مكسيم جوركي» و«كل أبناء الله لهم أجنحة» لـ «يوجين أونيل». وفور التحاقه بالجامعة انضم لفريق التمثيل وقدم من إخراج «الضيف أحمد» مسرحية «ثورة الموتى» لـ «إروين شو» بعد ذلك أخرج «راتب» عرضا مسرحيا على مسرح الجامعة قام ببطولته أيضا بعنوان «هرقل في الزريبة» عن إحدى مسرحيات «فريدريش دورينمات».
بدايات صعبة ومتعثرة
مسلسل «الفجر» كان أول الأعمال التليفزيونية التي يشارك فيها راتب، بعد اعتذار «صلاح السعدني» لظروف تتعلق باعتقال أخيه الكاتب الكبير «محمود السعدني» ثم إجباره على مغادرة البلاد إلى منفاه الذي قضى فيه عددا من السنوات.. تناول المسلسل ما سُمِّي بثورة التصحيح محاولا إهالة التراب على التجربة الناصرية.. شارك «راتب» في حلقتين فقط كانتا كافيتين للفت أنظار الفنان «جورج سيدهم» إليه دون أن يعرف اسمه، لذلك استمر في البحث عنه لمدة طويلة إلى أن عثر عليه عن طريق أحد جيرانه بحي السيدة، ليُسند إليه أحد الأدوار الرئيسية في مسرحية «من أجل حفنة نساء» التي قدمتها فرقة ثلاثي أضواء المسرح، قبل أن تقدم المسرحية الشهيرة «المتزوجون» التي مثّل فيها «راتب» دور الباشا والد «لينا» لبعض الوقت، قبل أن يقرر ترك الفرقة، بعد أن أيقن أن فرص تألقه فنيا فيها قليلة..
ثم اختار أحمد راتب مسرح الطليعة ليعمل به بالرغم من أنه كان على الهامش بالنسبة لمسارح الدولة الأخرى.. لكن وجود المخرج «سمير العصفوري» هو ما شجعه على الانضمام لمسرح الطليعة الذي قدم من خلاله أول «مونودراما» مصرية معاصرة عن قصة «أنطون تشيخوف» الشهيرة «موت موظف» مصَّرها «أيمن بكير» تحت عنوان «ومن العطس ما قتل».
وبينما كان كثير من الفنانين المصريين يسافرون إلى الخليج للعمل بمسلسلات استوديوهات أبوظبي ودبي وعجمان والرياض؛ فضَّل «أحمد راتب» البقاء في مصر ومواجهة أصعب الظروف التي اضطرته للعيش بأقل القليل من خلال العمل بالإذاعة نصف ساعة أسبوعيا مقابل أربعة جنيهات.
https://youtu.be/BKXIXcaWDnk
ساورت الفنان الكبير «أحمد راتب» الشكوك حول جدوى الاستمرار في طريق الفن مع قلة الأدوار التي كانت تعرض عليه وصغرها، وضعف العائد المادي؛ فأعطى نفسه مهلة لمدة عام ليقرر بعده هل سيستمر في العمل ممثلا، أم يترك الفن ويقبل بوظيفة موجه مسرح بإحدى دول الخليج.. ونصحه أستاذه «كرم مطاوع» بقبول الأدوار الصغيرة، لأنها سبيله الوحيد للانتشار.. كما أنه يستطيع إبراز موهبته من خلالها، فقبل الاشتراك في بعض المشاهد في فيلم أجنبي صُوِّر في مصر بعنوان «فجر المومياء». وفي فيلم «قاتل ماقتلش حد» قدم دور «عصمت» قريب البطلة الذي يرغب في الارتباط بها ويفرض نفسه عليها، ويتحدث بطريقة مخجلة عما يحضره لها ولأمها من طعام.
ورغم أن الدور كان أربعة مشاهد فقط إلا أنه ترك أثرا طيبا لدى الجماهير، إذ اعتمد أداء راتب فيه على المبالغة في إظهار الجانب الفظ في الشخصية، الذي يصل إلى حد الوقاحة.. ثم وقع عليه اختيار المخرج «عاطف سالم» للاشتراك في فيلم «العاشقة» في دور صغير، كأحد أفراد الفرقة الموسيقية التي يقودها بطل العمل عازف الجيتار الراحل عمر خورشيد.
ثم قدم راتب مع الأستاذ «فؤاد المهندس» مسرحية «سُك على بناتك»، التي حققت نجاحا كبيرا، لكن الرقابة منعت عرضها في التليفزيون لسبع سنوات، بسبب جملة وردت على لسان الفنانة سناء يونس.. وكان ذلك مما أضر به ضررا بالغا وأخر نجوميته لسنوات.
واستمر «راتب» في تقديم الأدوار الصغيرة على مدى ثلاث سنوات في أفلام مثل: «شعبان تحت الصفر» و«انتخبوا الدكتور سليمان عبدالباسط» و«وقيدت ضد مجهول» و«دعوة خاصة جدا» و«للفقيد الرحمة» و«ولا من شاف ولا من درى» و«المتسول» و«السادة المرتشون» و«على باب الوزير».
أدوار عظيمة.. وزخم فني
ورغم تلك البدايات المرتبكة والصعبة التي طالت بعض الوق، وقبل أن يدب اليأس في قلب أحمد راتب تجيئه الفرصة الذهبية التي انتظرها طويلا حين اختاره المخرج «عمر عبد العزيز» باقتناع كامل ليلعب دور البطولة مع «فريد شوقي» و«كريمة مختار» والنجم «سمير غانم» ولاعب الكرة إكرامي الشحات في أحد أجمل أفلام الكوميديا في السينما المصرية «يا رب ولد» في دور الفنان «البوهيمي» «عيسوي» وقد استطاع «راتب» بأدائه الرائع لفت الأنظار بشدة بعد أن أضاف للشخصية بعض اللزمات التي التصقت بصورة الفنان التشكيلي لسنوات طويلة، كما نجح في الوقوف على قدم المساواة في التباري الفني مع «شوقي» و«غانم» وربما كانت له الغلبة في كثير من المشاهد.
فتح هذا الدور لراتب الأبواب المغلقة، ليشارك في ذلك العام 1984، في أعمال عديدة هي: «آخر الرجال المحترمين» في دور «يوسف» موظف الاستقبال في فندق متواضع، يكتب الشعر ويسكن في عزبة الغجر ويملك حسا إنسانيا عاليا يدفعه للوقوف إلى جانب الأستاذ فرجاني «نور الشريف» في رحلة بحثه عن الطفلة المفقودة.. وفيلم «شقة الأستاذ حسن» وفيلم «واحدة بواحدة» المقتبس من الفيلم الأمريكي «Lover, Come Back» الذي قدم فيه «راتب» أداء كوميديا تغلب به على ممثل الدور الأمريكي «توني راندال»،. إذ قدم دور علي عبد الظاهر صاحب شركة الإعلانات التي يعمل بها بطل الفيلم صلاح فؤاد «عادل إمام».. هذا الدور الرائع لشخصية خائفة ومهتزة قدمه راتب على نحو مبدع ومذهل حقا.. وفيلم «أنا اللي قتلت الحنش» و«اللي خد حاجة يرجَّعها» ثم دور «عوض» الشاب الريفي الذي يلتحق بالعمل عند قريبه الذي صار أحد كبار الفاسدين زمن الانفتاح في «حتى لا يطير الدخان» و«الثعلب والعنب» و«بيت القاصرات» و«التخشيبة» و«جبابرة الميناء».
ومع «عاطف الطيب» قدَّم راتب دورين هامين على صغرهما في «الحب فوق هضبة الهرم» حيث قدم دور صديق البطل و«البريء» في دور المعتقل الذي سار في المظاهرة لا لشيء إلا ليتحرش بالنساء! ثم يستغرقه العمل في الدراما التليفزيونية من خلال أدوار متميزة في مسلسلات «شجرة الحرمان» و«أيوب البحر» و«مسافرون» و«الجدران الدافئة» وفي مسلسل «غوايش» الذي قدَّم فيه واحدا من أروع أدواره استدعى فيه جذوره الصعيدية، فكان أداؤه مبهرا.
ويتواصل إبداعه في الدراما فيقدم أداءً شديد التفرد في دور «السُّحت» في «المال والبنون» وفي دور الشيخ «سلامة الحلواني» في «بوابة الحلواني» ودور «سمير الدكش» في مسلسل «العائلة» وشخصية «إيزاك بن عميتاي» في مسلسل «رأفت الهجان» إلا أن ذروة أدائه الدرامي كانت في تجسيده لدور الموسيقار «محمد القصبجي» في مسلسل «أم كلثوم» فمن خلال عشرات التفاصيل نسج «راتب» ثوب الشخصية بمهارة فائقة، فاستطاع ببراعة الولوج إليها بعبقرية ما دفع الكثيرين للاعتراف بأنَّ «راتب» هو بطل هذا العمل الخالد دون شك. وقد صرَّح أحمد راتب فيما بعد أنَّه أراد إحياء ذكرى هذا الفنان العظيم الذي لم ينل حقه من التكريم بالرغم من أنَّه صاحب إسهام لا يقارن، ومن أصحاب رؤى التجديد الهامة في موسيقانا العربية.. ويروي «راتب» أنه استمع بتعمق لكل مؤلفات «القصبجي» الموسيقية بداية من أول أعماله عام 1923، إلى آخر ما قدّم؛ حتى أحس أن موسيقى «القصبجي» قد تغلغلت في أعماق روحه.. وشعر أن الشخصية قد تلبَّسته تماما بشكل جعله يجد صعوبة أحيانا في الانفصال عنها للعودة لحياته الطبيعية.
https://youtu.be/yz44TxvbL2Y?t=35
مع الزعيم
لكن «أحمد راتب» قدم أجمل أعماله السينمائية مع الفنان «عادل إمام»، ونذكر منها دوره في «طيور الظلام» عندما قدم شخصية «محسن» صديق البطل ،المناضل الناصري الذي ظل قابضا على جمر المبدأ رغم صعوبة الظروف ومشقة الحياة وزيادة أعبائها، ثم آثر أن يبقى في الظل بعيدا عن المشاركة في أي شيء يتابع في صمت..وهذه الشخصية تحمل جزءا لا يستهان به من شخصية الفنان الحقيقية. وفي «الإرهابي» قدم شخصية الشيخ «سيف» زعيم التنظيم ببراعة واشتهرت مقولته “لا تجادل ولا تناقش – يا أخ علي- فتقع في المحظور». وفي فيلم «الإرهاب والكباب» قدم شخصية الصعيدي «شلبي» الذي هرب من حكم الإعدام ليعمل ماسح أحذية، وهو الدور الذي أجمع النقاد على تفرده فيه رغم مساحته الصغيرة.
بالطبع لا يمكن حصر الأعمال التي وصل فيها «راتب» إلى ذروة التألق.. إذ تقترب أعماله من الرقم ثلاثمئة بلغ فيها -خاصة في أعماله الأخيرة- ذروة الخبرة الفنية النادرة التي عتَّقتها حكمة السنين وتجارب الحياة.. وقد رحل عنا هذا الفنان الكبير في 14 ديسمبر عام 2016، إثر تعرضه لأزمة قلبية دخل على إثرها إحدى مستشفيات القاهرة لتفيض روحه إلى بارئها .. رحمه الله»
الفيديو جرافيكس