29 عاما مرت على رحيل الفنان والموسيقي المبدع «أحمد منيب» فى الرابع من فبراير 1991، ومازال تأثيره فى الأغنية المصرية حاضرا بقوة وربما يزداد بريقا يوما بعد يوم.
لم يكن «منيب» مجرد ملحن مر فى مسيرة الموسيقى المصرية بل كان صاحب الفضل فى معرفة ملايين المصريين والعرب بالموسيقى «النوبية» أو موسيقى الجنوب. فقد ان حلقة الوصل الشجية بيننا و بين تراثنا المصرى فى الجنوب، وأحد رموز الأغنية البديلة التى ظهرت فى نهايات السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين.
حارس الثقافة النوبية
يمثل «عم أحمد منيب» كما كان يلقبه المقربون، أهم حراس الثقافة النوبية شديدة الغنى، خاصة فى موسيقاها. وقد استطاع ان يقدم عشرات الأغنيات التراثية التى ظلت مجهولة لدينا، حتى جاء منيب ليفتح كنوز الجنوب ويسحرنا بما يحتويه.
ولد «أحمد محمد صالح» الشهير بأحمد منيب، فى قرية توماس بمحافظة أسوان فى السادس من يناير عام 1926. وكانت بداياته عام 1954 فى إذاعة وادي النيل والذي قدم فيها العديد من الأغاني التراثية النوبية. ثم قدم مع الشاعر محيى الدين شريف أغان نوبية تتكون من قالب الأغنية الحديثة.
كانت هذه الأغنيات جزءا من الممارسات الاجتماعية لدى أهل النوبة وطقوسها الشفاهية، فهي مجرد أغان تتوارثها الأجيال ويرددها أبناء النوبة في الأفراح وحفلات الميلاد وأغنيات العمل المناسبات السعيدة.
بعد ذلك انضم العازف الشاب «أحمد منيب» إلى فرقة زكريا الحجاوي للفنون الشعبية، واستمرت مصاحبا لجولاتها لمدة عامين، جاب معها كافة أنحاء مصر. وقد ساعدته تلك الجولات على التعرف عل ثقافات مغايرة وألوان مختلفة من الموسيقى الشعبية المصرية.
ومع بدايات ثورة 23 يوليو 1952 أدرك أحمد منيب وزميله الشاعر محي الدين شرف اهتمام الثورة بربط السودان وجنوب مصر بخطاب يوليو الأيديولوجى ومنح مزيد من ساعات البث الإذاعى لجنوب مصر والسودان، فخاطبا جمال عبد الناصر فى رسالة شخصية يطالبان بالسماح بإذاعة الموسيقى النوبية فى الإذاعة المصرية.
وقد استجاب الرئيس عبد الناصر لندائهما، وجاء برنامج «من وحي الجنوب» لينطلق عبره صوت الثقافة النوبية بلسان الإذاعي عبد الفتاح والي، والموسيقى بعود «أحمد منيب» عبر الإذاعة، وليتعرف المصريون على لون من الموسيقى لم يكن متاحا عبر الإذاعة من قبل.
ورغم هذا المنفذ الإعلامى، إلا أن مشروع «أحمد منيب» الفنى ظل حبيس أوساط أبناء النوبة وعدد من المثقفين، الذين التفوا حوله لما يقدمه من موسيقى مغايره عن المألوف.
أحمد منيب ومحمد منير والأغنية البديلة
فى نهاية السبعينيات كانت مصر مؤهلة تمام لاستقبال فن مختلف عن كل ما هو تقليدى، وربما كانت تبحث عن ذلك، فقد ظهر يحيى خليل بعد عودته من أمريكا حاملا موسيقى الجاز، كما ظهر أيضا «هانى شنودة» بالأورج الكهربائى، وظهرت فرق غنائية وكان هذا مخاضا لغناء عُرف بعد ذلك بالغناء البديل. وبالقطع كان أحمد منيب بموسيقاه الجنوبية وكلماته المختلفه فى قلب صناع الأغنيه البديلة.
وفى عام 1978 يصطحب الشاعر عبد الرحيم منصور معه إلى منزل أحمد منيب شاب نوبى صغير هو «محمد منير»، ومنذ تلك اللحظة يجد «منيب» حلمه يصعد على أحبال صوت منير ويجد منير مشروعه الفنى فى عود منيب ويُكوِنا معا مشروعا فنيا متكاملا، ويصبح الثلاثى «عبد الرحيم منصور – احمد منيب – محمد منير» أحد أهم الملامح الفنيه لمرحلة بأكملها ،ورغم تعاون كل منهم مع آخرين إلا أن تجربتهم المشتركة صاغت مرحلة جديدة فى الأغنية المصرية ،حين تلاقت الموسيقى النوبية – الجنوبية، حيث استطاع أحمد منيب أن يصنع خلطة شديدة التميز بين موسيقى النوبة التى تمتلئ شجنا ،وبين الموسيقى العربية الشرقية لينتج هذا الخلط حالة شديدة الروعة قريبة جدا من وجدان المصريين.
لذلك فإن الشاعر عبد الرحيم منصور، عندما حمل كلمات أغنيته «شبابيك» لعدد من الملحنين فى بداية الثمانينيات لم يتحمس لها أحدهم، بينما بمجرد أن قرأها لصديقه أحمد منيب التقط عوده وقام بتلحينها فورا، وكأنه كانت ينتظرها، لتتحول «شبابيك» إلى ايقونة الأغنية المصرية الجديدة التى بدأت معها مرحلة كاملة من الغناء لم تتوقف حتى الآن.
هذا ما صنعه أحمد منيب ،وقد تكرر فى تجربته مع (منصور – منير ) فى أغنية «شجر الليمون» تلك الكلمات المختلفة، عندما تلتقى بلحن مختلف ويحملها صوت شديد التميز والإختلاف، كل هذا معا يصنع مشروعا فنيا مختلفا ومميزا ولا تخطئه الأذن ويخترق الروح دون إستئذان أومقدمات.
https://youtu.be/VBK-fwAmi0M
مسيرة حافلة
قدم منيب خلال مسيرته الفنية الحافلة والثرية، خمسة وثمانين لحناً، غنى منها أحمد منيب واحدا وخمسين لحناً ضمّنها ألبوماته السبعة وهي، «مشتاقين – يا عشرة – كان وكان – بلاد الدهب – رح أغنى – قسمه ونصيب – حدوته مصرية». وقد تعاون خلال هذه المسيرة مع شعراء كثر في مقدمتهم رفيق مشواره عبد الرحيم منصور، إلى جانب فؤاد حداد، وصلاح جاهين، ومجدي نجيب، وعصام عبد الله، وأحمد فؤاد نجم، و سيد حجاب، وجمال بخيت.
وكان محمد منير هو المعادل الموضوعى لموسيقى أحمد منيب، حيث غنى له منير من الحانه 45 أغنية، في أول عشرة ألبومات، ومن بينها «أم الضفاير – اتكلمى – افتح قلبك – الرزق على الله – الليلة يا سمرا – شجر الليمون – بعتب عليكى – حدوتة مصرية – حواديت – سؤال – سحر المغنى – سهيرة ليالى – سيلى – شبابيك – ع المدينة – عروسة النيل – عقد الفل والياسمين – فى دايرة الرحلة – فى عينيكى غربة – قمر صيفي – قول للغريب – نانا – هون يا ليل – يا اسكندرية – يا أماه – يا صبية – يا غربتي – يا مراكبي».
كما غنى له «علاء عبد الخالق» أغنية «الحب ليه صاحب» و عمرو دياب «يا طير يا متغرب»، وإيهاب توفيق «إكمني»، و«علمي علمي»، وحسن عبد المجيد «ربك هو العالم»، ومحمد فؤاد «صدقني يا صاحبى».
وقد ظل أحمد منيب، رغم تلك الموهبة الاستثنائية، يعيش حياة بسيطة، ويمتلك تواضع عظماء أهل الفن، الذين أفنوا حياتهم من أجل قيمة الفن، وظل منزله البسيط ملاذا لأى موهبة شابة ولكل شاعر جديد. ورغم كل ما قدمه «منيب» للموسيقى المصرية، إلا أنه على المستوى الأكاديمي ما زال إنجازه يعانى التجاهل، ولا يتم تدرسيه فى أى من معاهد الموسيقى المصرية.
فى يوم 4 فبراير عام 1991، وبينما كان الإعلام مشغولا بحملة «تحرير الكويت من غزو صدام حسين» ذلك الجرح الذي كان ينزف من جسد الأمة، كان جرح آخر ينزف دون ضجيج، ليرحل «أحمد منيب» فى هدوء تماما كما عاش حياته فى هدوء، سوى من صوت عوده الذى لم يفارقه، وضحكات الأصدقاء والرفاق فى «صالة» منزله حين كان يجلس على «الكنبة» متأبطا عوده عازفا ويغنى معه الجميع..
«الحب له صاحب
والفرح له صاحب
وانا ع الوعد متصاحب»