في روايته الجديدة «زيارة أخيرة لأم كلثوم» يواصل الروائي والشاعر المصري «علي عطا»، ما بدأه في عمله الروائي الأول «حافة الكوثر» بتوجيه رسائله إلى صديقه السوداني المغترب «طاهر يعقوب»، عن تأملاته لواقعه النفسي والاجتماعي، إلا أن طريقة السرد ودوافع الكتابة في الروايتين لها سمات مختلفة.
دوافع الكتابة
في الرواية الأولى «حافة الكوثر» اختار «علي عطا» طريقة غير معتادة في السرد العربي، التي هي أقرب في منهجها إلى السرد في أدب الاعتراف، ألا وهو السرد غير الخطي، الذي لا يقوم على الترتيب المتدرج لوقوع الأحداث، من بداية ووسط فيه عقدة ونهاية بها الحل. فهو لا يهدف إلى إيصال قارئه إلى قصة ذات حبكة درامية – إن جاز التعبير- بقدر بحثه عن إيصال البوح والتعبير عن المشاعر الداخلية للبطل، وعما يدور من أحداث في الخارج، وانعكاس ذلك عليه في الداخل. أما في الرواية الثانية «زيارة أخيرة لأم كلثوم» فالسرد كان خطيًا، فما إن يصل خبر وفاة «أم كلثوم» خالة الراوي حتى يقرر الذهاب إلى وداعها الأخير، فيستعيد ذكرياته الماضية مع هذه الخالة، ومع مدينته المنصورة التي قضى فيها طفولته وسني مراهقته، واصفًا المدينة أهلها وما جرى عليها من تغييرات. وفي خط آخر يرصد الحياة المصرية الراهنة مقارنًا بين الزمانين، فالرواية في جل أحداثها تدور ما بين عامي 1981 و2018، وهذين العامين بالتحديد لهما حضور خاص لدى الراوي «حسين عبدالحميد» لما بين 18 و 81 من مقابلة، ففي عام 1981 أتم بطل الرواية 18 عامًا وفي عام 2018 أكمل ابن البطل «باهر» 18 عامًا.
فجوة وهوة كبيرة بين جيلين أو عالمين أو زمنين اشتملا على الكثير من الأحداث يرصدها الراوي غائصًا في الماضي والحاضر عن طريق المراسلة مع صديقه «الطاهر يعقوب» كما كان الحال في الرواية الأولى «حافة الكوثر».
أما عن دوافع الكتابة كما يذكرها «الراوي» في الروايتين، ففي الرواية الأولى «حافة الكوثر» كان يكتب «حسين عبدالحميد» لأن الكتابة من وجهة نظره قد تكون حلًا للمشكلات العميقة التي تعصف بروح الإنسان، في الحياة المادية التي باتت مسيطرة على العصر، مشيرًا إلى أن البوح «الاعتراف» قد يكون بديلا للانتحار، فعدم البوح أو الكتابة هو أساس كل المشكلات النفسية التي يعاني منها الإنسان، فهو مهمة ليست سهلة، ولكي يتم يحتاج البوح إلى درجة عالية من الأمان، نظرا لخطورته؛ لأنه قد يهدد وجود الإنسان المعنوي والمادي معا، وسط عالم تحكمه المادة و المصلحة.
رؤية أوسع للعالم
أما دافع الكتابة للرواية الجديدة «زيارة أخيرة لأم كلثوم» -كما يقول «حسين عبدالحميد» في الرسائل التي يرسلها إلى صديقه «الطاهر» «أكتب لأجلو الأسرار القديمة في طفولتي، ولتحديد هويتي، ولأخلق أسطورتي الخاصة». بالكتابة يبقى حسين الذكريات حية، لأنها فرصته للوصول إلى الحقيقة. وحتى إن كانت هذه الحقيقة متفلتة. فهناك اختلاف لدوافع الكتابة بين العملين، في الأولى كان الراوي منغمسًا داخل ذاته، ولم يتح لأي شخصية بالبروز أو التطور، بينما في «زيارة أخيرة» جاءت رؤية الكتاب بشكل أوسع للعالم المحيط به مما سمح للشخصيات أخرى بالتطور ومعرفة الكثير من التفاصيل حولها، مثل شخصية «الطاهر يعقوب» التي يميط هذه الرواية اللثام عنه، ونكتشف كنهها، بعد أن كانت غامضة لا نعلم عنها شيئًا في «حافة الكوثر»، فجل اهتمام الراوي كان بنفسه فقط. فـ«الطاهر يعقوب» شخصية سودانية اختارت أن تطلب العلم في مصر، ومنها هاجرت إلى ألمانيا ثم كندا فاستراليا، وقد ربطت بينه وبين بطل الرواية علاقة صداقة قوية طوال إقامة «الطاهر» في القاهرة التي عانى فيها من وضع مادي صعب، وعدم قدرة على العودة إلى بلاده بسبب النظام الديكتاتوري الحاكم هناك.
ما بين العقل والغراب
ومن الشخصيات اللافتة في الرواية، والتي تظهر ولأول مرة في هذا العمل الجديد وتثير العديد من التساؤلات حول إن كانت حقيقة أم أنها «تهيؤات» شخصية هي شخصية «عقل»، وهو شخص غاضب في أكثر حالاته، حيث يضبط «حسين» حالته النفسية وفق ما تكون عليه حالات «عقل»، إنها شخصية مربكة مثل شخصية «الغراب» في رواية هاروكي موركامي «كافكا على الشاطئ».
الرواية تشير إلى أن «عقل» شخص حقيقي ووجد في «عزبة عقل»، المكان الذي ولد فيه «حسين» في المنصورة، لكن شخصية «عقل» التي يذكرها «حسين» والتي تظهر فجأة أمامه تختلف تمامًا وتحلينا إلى أن «حسين» الذي رفض الدكتور المعالج له إدخاله مصحة «الكوثر» مرة أخرى ربما يعاني من مرض الفصام في الشخصية، إلا أن شخصية «عقل» تلك لا تدفع البطل إلى ارتكاب أشياء قد تضره، فقط تبدي غضبها وضيقها عما يجري من أمور لا يقبلها المنطق.
قضايا تطرحها الرواية
تتناول الرواية أيضًا شخصية الرئيس الراحل «السادات» الذي اغتيل على يد الجماعات المتطرفة عام 1981، وكان قبلها بأيام في زيارة للمنصورة، شاهده «حسين» فيها وهو يلوح للجموع، وبينما هو يستمع في بيت خالته «أم كلثوم» لخطبة السادات على التلفاز الذي تملكه ينقطع الإرسال، ثم يعلن بعدها عن مقتله. تقدم الروية تحليلًا لحقبة السادات وأهم المحطات في حياته والأعمال التي قام بها وبعد نظره حين استرد سيناء بالسلام.
وتستمر هذه الرواية – مثلما حدث في «حافة الكوثر»- في الكشف عن الكثير من معالم حياة البطل، سواء من عمله في الصحافة، ورأيه في الصحفيين الذين أصبحوا في حالة يرثى له مع الصحف التي تغلق أبوابها، وعدم إعطاء الصحفيين لرواتبهم، وتكميم الأفواه. كما تقدم الرواية بين جنباتها العديد من القضايا، مثل علاقة الإخوان المسلمين بالسلطة منذ عهد عبدالناصر، وانتشار ظاهرة المهاجرين الأفارقة في مصر فيما يشبه التحقيق الصحفي.
ترصد الرواية الظروف السياسية التي يمر بها البلد، والتعقيب عليها، وإبداء الرأي فيها بكل صراخة وجرأة، مثلما حدث في رواية «حافة الكوثر». ففي حافة الكوثر يقول البطل «لم أوقع على استمارة تمرد، كانت حركة مفقوسة، كانوا يوزعون استماراتهم التي تطالب برحيل رئيس الجمهورية، في أماكن تجمع الناس بحرية»، وفي «زيارة أخيرة لأم كلثوم» يتناول قضية «تيران وصنافير» ويؤكد أن الحق واضح ومعروف فيها، ويشير إلى وأد الثورة المصرية والغدر بها.
كما تسلط رواية علي عطا الأخيرة الضوء الحالة الاقتصادية المتردية التي يعيشها الشعب المصري، جراء تعويم العملة المصرية أمام الدولار، تلك الأمور التي تدفع الناس إلى الشكوى من الغلاء، كما تبرز العديد من اللقطات الإنسانية الجميلة والتكافل المجتمعي ومنها رفع بعض المحلات يافطات بأن الأكل مجانًا لمن لا يستطيع أن يدفع.
كما ترصد الرواية الاختلافات بين جيل البطل وجيل ابنه، فعندما كان «حسين» في الثامنة عشرة من عمره عام 1981 احتفل بعيد ميلاده الأول على موسيقى عمر خورشيد، بينما ابنه الذي وصل إلى عامه الثامن عشر في عام 2018، احتفل بعيد ميلاده على أغاني المهرجانات، تلك الظاهرة التي غزت المجتمع مصر وأصبحت أبرز ما قدمته مصر فنيًا للعالم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
ولا تبعد هذه الرواية عن جانب السيرة الشخصية للمؤلف، كما هو الحال أيضا في رواية «حافة الكوثر» التي تعد امتدادًا لها في هذا الطابع، كما تشاركها في اللغة السردية المتماسكة والمكثفة للأحداث.