في صيف عام ٢٠١٩، دُعيت إلى إحدى الندوات لمناقشة كتاب عن الحركة الوطنية المصرية، وهو لباحث واعد من الشباب، وقد بذل جهداً طيباً في معالجة تلك الفترة التي تناولها بالبحث، وقد صادف أن يكون يوم مناقشة الكتاب موافقا لذكرى رحيل المُفكر الماركسي والمناضل «شهدي عطية الشافعي»، فبدأت حديثي بكلمة موجزة قلت فيها:« من ترتيبات القدر، أننا نناقش كتابا عنوانه «مُنحنى الحركة الوطنية المصرية من عام ١٨٨٢إلى عام ١٩٥٢» لباحث شاب، في الوقت الذي يُصادف اليوم، وهو الخامس عشر من شهر يونيو، ذكرى إستشهاد مُناضل كبير، ومُفكر عظيم هو الأستاذ شهدي عطية الشافعي، إذ قُتل في سجن «أبو زعبل» تحت وطأة التعذيب، في مثل هذا اليوم من عام ١٩٦٠، ولا أذكره بوصفه مُناضلاً شيوعياً مصرياً، لكن بوصفه واحداً من أبرز أبناء الحركة الوطنية المصرية، فكتابه «تطور الحركة الوطنية المصرية من ١٨٨٢- ١٩٥٦، هو كتاب رائد لجيلنا كله».
انتهت كلماتي، غير أنها تركت من الدهشة ما يستحق الإشارة اليه، فالبعض- ربما- لم يجل بخاطره أن تأتي تلك التحية لمفكر ماركسي وقائد كبير في الحركة الشيوعية المصرية من واحد من أبناء ثورة يوليو، يمكن وصفه بـ«ناصري» مهتم بمسيرة الثورة وتجربة عبدالناصر في الاستقلال والتنمية والتحديث، وأحسب أن «شهدي عطية الشافعي» هو واحد من قادة الفكر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، فمن هو ذلك المناضل المِثال، في الإخلاص لقضية وطنه، و ماذا عن إسهامه الفكري المُميز؟
في معارك الوطن
شهدي عطية الشافعي من مواليد مدينة الإسكندرية في عام 1911، وقد تميز من بين أبناء جيله بثقافة موسوعية، وهو في سنوات شبابه. فبعد أن انتهى من دراسته الجامعية، تم ترشيحه لبعثة إلى جامعة «أوكسفورد» البريطانية، للحصول على درجة الماجستير، ليعود بعدها ليكون أول مفتش للغة الإنجليزية بوزارة المعارف يحمل الجنسية المصرية. غير أن إسهامه الأكبر كان انخراطه بكل قوة في معارك الحركة الوطنية المصرية، وقد توزع في ثلاثة اتجاهات، أولها المساهمة مع عدد من رفاقه في تأسيس «دار الأبحاث العلمية» وهي الدار التي قدمت لمصر عدداً كبيراً من المثقفين والعلماء المصريين، كان أبرزهم «أنور عبدالملك ومحمود أمين العالم، ومحمد عبد المعبود الجبيلي وعبدالعظيم أنيس» وغيرهم. وفي عام ١٩٤٥ صاغ شهدي ومعه زميله «الجبيلي» عالم الفيزياء الذرية الكبير، والذي تولى في مطلع السبعينيات من القرن الماضي وزارة البحث العلمي المصرية، كتابهما «أهدافنا الوطنية»، الذي سنتوقف عنده لاحقاً، فيما قام «شهدي» بعدد وافر من الترجمات من كتب الفكر الاشتراكي العلمي، منها «الاشتراكية العلمية والخيالية» لفردريك إنجلز وعدد من المختارات الماركسية.
أما الاتجاه الثاني الذي اتخذه «شهدي» فهو المساهمة في الحركة الوطنية الجماهيرية التي أخذت في التصاعد عقب الحرب العالمية الثانية ضد الاحتلال البريطاني، والتي كان لها دور بارز في تأسيس اللجنة التحضيرية للجنة الوطنية للطلبة في صيف عام ١٩٤٥، وكان من زملائه «جمال غالي وسعد زهران وجمال شلبي وعبدالمنعم الغزالي ومحمد يوسف الجندي وفاطمة زكي ويوسف ادريس وفؤاد محيي الدين ولطيفة الزيات» وغيرهم، وكان لشهدي الدور القيادي، فيما بعد، في التحضير لقيام «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» والتي قادت تظاهرات يوم ٢١ فبراير عام ١٩٤٦، يوم النضال الكبير ضد المحتل البريطاني، والتي نجحت في إسقاط معاهدة «صدقي / بيفن» والتي شن عَلى اثرها رئيس الوزراء «اسماعيل صدقي» حملته الآثمة باعتقال كل الرموز السياسية والثقافية المصرية، وكان «شهدي» واحدا ممن صدر الأمر باعتقالهم، ولكنه تمكن من الإختفاء لمدة ثلاثة شهور، ليعود بعد رفع الأحكام العرفية للعمل الجماهيري، ليدشن الاتجاه الثالث في مسيرته الوطنية…
اسماعيل صدقي
النضال ضد الاستعمار
هذا هو الاتجاه الثالث في معارك شهدي عطية الوطنية فعندما عاد الرجل إلى الحياة العلنية قاد العمل من أجل إنشاء جريدة جماهيرية للحديث عن الفكر الاشتراكي، وإرساء معالمه، وتعبر في الوقت نفسه، عن العمال والفلاحين، فصدرت جريدة «الجماهير» والتي كان يرأس تحريرها زميله «محمود النبوي» فيما كان «شهدي» هو المسؤول الفعلي عنها، وعرف قراء «الجماهير» مقالاته العنيفة ضد الاستعمار وعملائه ومن بينها «أننا لا نريد أي استعمار، إنجليزيا كان أو أمريكيا» و «أيها الشعب عبر عن سخطك عَلى الاستعمار» و «الشعب يئن من الغلاء، وأقلية تتمتع بالنايلون والباكار» واستمرت هذه المهمة في مخاطبة الجماهير بقضايا الوطن ملازمة لمسيرة «شهدي عطية الشافعي» حتى بعد قيام ثورة يوليو، حيث شارك في الكتابة في جريدة «المساء» والتي أسسها «خالد محيي» بتكليف من الرئيس «عبدالناصر» إثر تأميم قناة السويس في يوليو من عام ١٩٥٦، حيث ساهم بعشرات المقالات والدراسات والأبحاث، ونشر روايته «حارة أم الحسيني» عَلى حلقات في جريدة المساء، وفي خلال هذه الفترة وقع العدوان الثلاثي عَلى مصر، فانخرط في المقاومة الشعبية والتي تركزت عملياتها ضد القوات الغازية «البريطانية والفرنسية» في منطقة القناة وخصوصاً مدينة بورسعيد، وبعد أيام قلائل من خروج قوات الاحتلال في ٢٣ ديسمبر ١٩٥٦، يُصدر كتابه الرائد «تطور الحركة الوطنية المصرية: ١٨٨٢/ ١٩٥٦».
قبلها وتحديدا في عام ١٩٤٥ أصدر «شهدي» مع زميله «محمد عبدالمعبود الجبيلي» كتابهما «أهدافنا الوطنية» وبدا التوجه في هذا الكتاب الطليعي، جديداً في طرحه للقضية الوطنية، ففي الوقت الذي تمسك فيه حزب الوفد، حزب الأغلبية الشعبية بمطلبيْ «الدستور والجلاء» فإن «شهدي» وزميله، أكدا عَلى الطابع الطبقي والاجتماعي لقضية الاستقلال الوطني حيث «أن قضية الاستقلال ليست مجرد ألفاظ جوفاء، وليست تّخلُصاً من استعمار أجنبي للوقوع في نير استعباد داخلي، وإنما هي استقلال يسعى إلى رفع مستوى المعيشة للجماهير، و زيادة اشتراكها الفعلي في الحكم، والنمو المُطرد للحريات الاجتماعية والفردية» وفي موضع آخر من كتابهما يقول المؤلفان: «إن الشعب المصري اليوم يُدرك أن استقلاله السياسي يظل مبتوراً منقوصاً ما لم يتخلص من الاستعمار الاقتصادي والمالي والمتمثل في رؤوس الأموال الاحتكارية، سواء كانت أجنبية أو محلية». ثم يقدم المؤلفان الحل في :«شراء مصر للأسهم البريطانية في مصر، وخاصة أسهم قنال السويس والبنك الأهلي وغيرها من الشركات الاحتكارية وذلك نظير ما يكافئها من الدين البريطاني المُستحق لمصر نظير مساهماتها العسكرية، بتوفير آلاف الجنود والمرافق العسكرية والمدنية المصرية للجيوش البريطانية وحلفائها خلال الحربين العالميتين، الأولى والثانية».وهو اقتراح مثالي يفتقد الموضوعية من جانب «شهدي والجبيلي» اذ يقوم عَلى افتراض احترام الحكومة البريطانية بالوفاء بتعهداتها قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى والثانية، وهو أمر لم يحدث.
ثورة يوليو وما بعدها
بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، تبين «شهدي عطية» بعد شهور قليلة، وتحديداً مع صدور قوانين الإصلاح الزراعي في سبتمبر سنة ٥٢، خط التطور الرئيسي للثورة باعتبارها وطنية معادية للاستعمار، تستهدف قيادتها المُتمثّلة في «جمال عبدالناصر» تحرير الوطن من كل سيطرة أجنبية، فحدد موقفه من الثورة، وظل ثابتاً عليه حتى لحظة استشهاده، ولذلك ركز نضاله عَلى جبهتين: الأولى، ضرورة وحدة القوى الوطنية والتقدمية، في إطار جبهة وطنية مُتحدة، والثانية هي وحدة كل الفصائل الشيوعية المصرية، حيث كان الانقسام يمزق صفوف الماركسيين.
الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر»
في تلك الفترة، أي منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وإثر مشاركة ناصر في مؤتمر باندونج وميلاده كواحد من زعماء قارتي آسيا وأفريقيا، وكسر مصر لاحتكار السلاح وإعلان عبدالناصر معركته الكبرى ضد حلف بغداد، والنجاح في إبرام اتفاقية الجلاء مع دولة الاحتلال، بدأ «شهدي عطية الشافعي» في وضع الصفحات الأولى من كتابه «تطور الحركة الوطنية المصرية» وهو الوثيقة الأهم الباقية من ميراث هذا المفكر والمناضل الكبير.
من الصعب الإلمام بكل جوانب هذا الكتاب الذي تصل صفحاته إلى ٢٥٠ صفحة من القطع المتوسط، وتتوزع فصوله على اثني عشر فصلاً، يبدأ الفصل الأول مع إحتلال مصر في سنة ١٨٨٢، وإحكام بريطانيا قبضتها عَلى الاقتصاد المصري، وفرض هيمنتها السياسية بصورة كاملة، ويتوقف «شهدي» في الفصل الثالث والرابع والخامس عند إنبعاث الحركة الوطنية من جديد بزعامة «مصطفى كامل ومحمد فريد» واندلاع ثورة ١٩١٩، مُحللاً نتائج الثورة وإخفاقاتها، ويتوقف بقدر وافر من التحليل لتلك التحركات الشعبية مابين ١٩٢٤، وهو عام إسقاط حكومة «سعد زعلول» عَلى إثر حادث اغتيال «السير لي ستاك» وسلسلة الانقلابات الدستورية حتى سنة ١٩٤٥، سنة انتهاء الحرب العالمية الثانية، وميلاد حركة وطنية وشعبية جديدة واندلاع الكفاح المُسلح في منطقة القناة.
ومن الفصل التاسع الى الفصل الثاني عشر، يتوقف «شهدي عطية» طويلاً عند المرحلة الثورية الجديدة لنظام يوليو، حتى يمكن القول، إن الفصول الثمانية الأولى كانت بمثابة تمهيد لتلك المرحلة الخطيرة من حياة الوطن، وهو ما يكشف حجم الاهتمام، بل والايمان، عند المؤلف، بقيمة هذه التحولات الاجتماعية والاقتصادية بل والتحالفات والمعارك الدولية التي خاضتها الثورة خلال تلك السنوات الحرجة من عمر الوطن، ففي الفصل الثاني عشر والأخير، والذي يحمل عنواناً لافتاً هو «الغد» يضع «شهدي» برنامج عمل كاملا وخطة للمستقبل، تثيرالإعجاب والدهشة، فهي رؤية طليعية، لم يسبقه إليها أحد، في تكاملها وجذريتها وموضوعيتها !!
فيتحدث عن مخاطر طريق التطور الرأسمالي، ويطرح بديلاً له هو طريق التطور الاشتراكي، مُحدداً تسعة معايير أو شروط لنجاحه، من بينها
المحافظة على الاستقلال الوطني، وتصفية بقايا الإقطاع وتصفية قوى الاحتكار وزيادة القطاع الحكومي، ووضع سياسة واضحة لتخطيط الاقتصاد القومي، ووضع سياسة ضريبية عادلة، ولكنه يتوقف طويلاً عند الشرط التاسع لإنجاز التحول الاشتراكي، وهو ما أسماه «الجبهة الوطنية المتحدة» والتي يعتبر قيامها بمثابة الضمانة الوحيدة لسلامة الوطن، وليس لقيام نظام اشتراكي فقط، ويقول
«ان الجبهة التي نقصدها هي مفتاح نهضتنا السياسية، والتي هي شرط لازم لنهضتنا الاقتصادية، هو ما قاله الرئيس عبدالناصر، الجبهة الوطنية المتحدة «التي كرر النداء بها أكثر من مرة في خطبه»
ويطرح «شهدي عطية الشافعي» عَلى نفسه ذلك السؤال المركزي، ماذا نقصد بالجبهة الوطنية المتحدة؟
ويجيب: «هي جبهة تضم الطبقات والفئات والعناصر المعادية للاستعمار والصهيونية في الخارج، والمعادية للإقطاع والاحتكار في الداخل، جبهة تضم الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين والطلبة والرأسمالية الوطنية بكافة أقسامها، هذه الجبهة هي الكفيلة بإتمام التحول الى طريق التطور غير الرأسمالي لاقتصادنا، وتستطيع أن تحقق للبلاد مزيداً من الديمقراطية ومزيداً من الحريات، كما تستطيع أن تقطع دابر أية مؤامرات استعمارية في الخارج، وأن تكشف ألاعيب أي عناصر معادية أو متخلفة في الداخل..»
برنامج عمل للغد، ورؤية مُبكرة وموضوعية للتطور الوطني، وضمانات كاملة لنجاح التجربة الثورية، وصون انجازاتها بضمانات ديمقراطية وشعبية.. ذلك هو شهدي عطية المفكر الثوري الذي كان يحلم دائما بغد جديد.