قد تعجب أن يكون ابن حزم الأندلسي الموصوف بأنه مجدد المذهب الظاهري، هو نفسه الذي أباح الغناء، ومن ألف سنة أجاز أن تلي المرأة القضاء، وصرح بجواز نبوة النساء، والعجب يأتي من أن «الظاهرية» يؤسسون فقههم على ظواهر النصوص من الكتاب والسنة، وهم أصحاب مدرسة تقوم على أنه لا رأي ولا إعمال للعقل في حكم من أحكام الشرع، وليس في المذهب «الظاهري» قياس، ولا استحسان، ولا ذرائع، ولا مصالح مرسلة، وهي كلها من مصادر التشريع المعتمدة في الفقه الإسلامي التقليدي.
مسيرة فكرية طويلة
كان ابن حزم ـ ككل الظاهرية ـ ينادي بالتمسك بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ورفض ما عدا ذلك في دين الله، وإلى جانب تبنيه للظاهرية وتجديده لمذهبها، إلا أنه على الحقيقة كان صاحب مشروع لإعادة تأسيس الفكر الإسلامي من فقه وأصول فقه، وقد كان – كما وصف بحق – «مجتهد مطلق، وإمام حافظ، انتقل من مذهب الشافعي إلى الظاهرية، وافق عقيدة السلفيين في توحيد الأسماء والصفات، وخالفهم في مسائل أخرى، وكل ذلك كان باجتهاده الخاص».
وُيعد ابن حزم الأندلسي أحد أعلام المسلمين في القرن الخامس الهجري، وهو صاحب المؤلفات المعروفة في الفقه والتاريخ ومقارنة الأديان، وصفوه فقالوا: هو الإمام الكبير، والمجتهد المطلق، بحر العلوم، وجامع الفنون، الفقيه الحافظ، الأديب الوزير، المؤرخ الناقد، صاحب التصانيف الباهرة، الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، الشهير بابن حزم الظاهري، فقد كان إمام المذهب الظاهري ومجدده، وحاملاً للوائه في القرن الخامس الهجري.
وُلد ابن حزم في شهر رمضان سنة 384هـ «994م» بمدينة الزهراء إحدى أهم ضواحي قرطبة، عاصمة الأندلس، في بيت عز وثراء ووزارة، فأبوه أحمد بن حزم كان أحد وزراء المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس القوي، فنشأ ابن حزم في تنعم ورفاهية، يلبس الحرير، ويتسور الذهب، يطالع الكتب على قناديل الذهب والفضة المضاءة بشموع العنبر والمسك، وقد كان أبوه يعده ليسير على درب الوزارة والرياسة مثله، وكان ابن حزم قد رزق ذكاءً مفرطًا، وذهنًا سيالا، فعكف على دراسة الآداب والأشعار والأخبار، وعلوم المنطق والفلسفة.
تعرض لموقف حرج ظهرت فيه قلة علمه وفقهه، فقرر أن يسلك طريق العلم والبحث، وترك طريق الوزارة والرياسة، وكان قد بدأ طلبه للعلم بحفظ القرآن الكريم، ثم رواية الحديث، وعلم اللسان، فبلغ في كل ذلك مرتبة عالية، ثم اتجه من بعد ذلك إلى الفقه، فدرسه على مذهب الإمام مالك؛ وكان مذهب أهل الأندلس في ذلك الوقت، ولكنه كان يتطلع إلى أن يكون حرًاً، يتخير من المذاهب الفقهية ولا يتقيد بمذهبٍ، فتفقه على مذهب الشافعي، فأعجبه تمسُّكه بالنصوص، واعتباره الفقه نصًّا أو حملاً على النص، وشدة حملته على من أفتى بالاستحسان، ومع تبحره في العلوم الشرعية، ونهمه الشديد في الأخذ من الأصول المباشرة، وصل إلى مرحلة الاجتهاد.
ومن جديد لم يلبث إلا قليلاً في التزام المذهب الشافعي، فتركه لمَّا وجد أن الأدلة التي ساقها الشافعي لبطلان الاستحسان تصلح لإبطال القياس، وكل وجوه الرأي أيضاً، ثم بدا له أن يكون له منهجٌ خاصٌّ وفقهٌ مستقل، فاتجه إلى الأخذ بالظاهر، وشدَّد في ذلك، حتى إنَّه كان أشدَّ من إمام المذهب الأوَّل داود الأصفهاني.
مؤلفات خالدة
يتفق أهل العلم أن أكثر علماء الإسلام تصنيفاً وتأليفاً هو الإمام ابن جرير الطبري، يليه الإمام ابن حزم الأندلسي، الذي ترك ثروة ضخمة من المؤلفات التي تناولت الفقه والحديث وأصول الدين، والمذاهب والفرق والتاريخ والأدب والطب، ويأتي على رأس مصنفاته كتاب «المحلي بالآثار» الذي قال عنه العز بن عبد السلام سلطان العلماء: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل «المحلى» لابن حزم، وكتاب «المغني» لابن قدامة.
ولابن حزم كتب أخرى بلغت – كما قال عن ذلك ولده أبو رافع -الثمانين ألف ورقة، ومن أهم كتبه: «الإيصال في فهم الخصال» وهو في خمسة عشر ألف ورقة، وكتاب «الجامع في صحيح الحديث»، و «اختلاف الفقهاء»، «مراتب الإجماع»، «الإملاء في قواعد الفقه»، «الفرائض»، «الفصل في الملل والنحل» وهو من كتب الفرق الشهيرة، «مختصر في علل الحديث»، و«طوق الحمامة» وهو من الكتب التي ناصرت حقوق النساء، و«نقط العروس» وهو من روائع الكتب في التاريخ، وجلب عليه الكثير من المحن مع ملوك عصره، و«الرسائل الخمس، أو جوامع السيرة»، و«رسالة في الطب النبوي»، و«الإحكام في أصول الأحكام» وهو من كتبه الفريدة في بابها، وعلى منوالها نسج من جاء بعده: مثل الآمدي والرازي وابن الحاجب وغيرهم، و«الآثار التي ظاهرها التعارض، ونفي التناقض عنها»، وهو في عشرة آلاف ورقة، وهو من أروع ما كتبه الإمام ابن حزم.
المدافع عن المرأة
اختلف كثير من العلماء مع ابن حزم في الكثير من القضايا الفقهية، وهذا هو شأن الفقه أصله الاختلاف والتعدد باختلاف المفاهيم وتعدد الاجتهادات، وتبنى بعض الأفكار التي لم يسبقه إليها أحد من العلماء وعلى رأس تلك الأفكار التجديدية يأتي احترامه لمكانة النساء العلمية، حتى أنه في كتابه «الفصل في الأهواء والملل والنحل»، يصرح بجواز نبوة النساء، ووافق ابن حزم بشكل جزئي الرافضين لرأيه المحتجين بقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ»، وقال «إن هذا أمر لا يُنازعون فيه، ولم يدعِ أحد أن الله تعالى أرسل امرأة، وإنما الكلام في النبوة دون الرسالة، فوجب طلب الحق في ذلك بأن ينظر في معنى لفظة النبوة في اللغة التي خاطبنا الله بها عز وجل، فوجدنا هذه اللفظة مأخوذة من الإنباء، وهو الإعلام ، فمن أعلمه الله عز وجل بما يكون قبل أن يكون، أو أوحي إليه منبئاً له بأمر ما، فهو نبي بلا شك»، وضرب على ذلك بعض الأمثلة من القرآن الكريم، منها مريم بنت عمران، وسارة زوجة إبراهيم، وأم موسى عليهم جميعاً السلام.
والحق أن ابن حزم ارتفع بالنظرة إلى المرأة عن مستوى الشهوة ورفض النظر إليها على أنها ليس فيها من جوانب الحياة التي تستحق التعامل معها غير الجنس، ففي طوق الحمامة، وفي سائر تراث ابن حزم، ظهرت المرأة في أكثر من صورة، معلمة ومتعلمة، شاعرة ومثقفة، عفيفة لا تطمع فيها الأبصار، وفيَّة ذات خلال عالية، تستحق أن يبكيها الرجل، بل أن يموت أسفًا عليها إذا فارقها: حية أو ميتة.
وقد فسر ابن حزم قوله تعالى في سورة النساء: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ» بأنها قوامة لا علاقة لها بالحقوق والطبيعة الإنسانية، أو القدرة على تصريف الأمور، وأشار إلى أنه لو كانت قوامة الرجل بهذا المعنى للزم أن يكون كل رجل أفضل من كل امرأة، وهذا في نظر ابن حزم لا يستقيم في لغة العقل، وفي نظره أن المرأة هي التي تعلم الأطفال القرآن والحديث والشعر والخط، وكان ابن حزم واحدًا من الذين تلقوا تربيتهم وتعليمهم الأولي على يد النساء وكان لظروف نشأته التي تميزت بالرخاء أثرُ كبير في أن تكون صورة المرأة عنده إيجابية.
من أهم آراء ابن حزم في شأن المرأة أنه أجاز أن تتولى وظيفة القضاء وهي وظيفة لها خطرها وجلالها العظيم، وقد منعها أكثر الفقهاء من ذلك، ويؤكد ابن حزم على مساواة المرأة بالرجل في حدود تخصصها، وكان لاجتهاداته وآرائه دور كبير في تحسين مكانة المرأة في الأندلس، ويكفي أن نلقي نظرة على كتاب «طوق الحمامة» لنجد ابن حزم ينادي بتحرير المرأة، واحترام حرياتها، ويقص علينا الكثير من أسرارها دون حرج أو إنكار، وفي هذا يشير الفيلسوف الإسباني «أورتيجا أي جاسيت[1]»إلى أن ابن حزم تكلم في كتابه «طوق الحمامة» عن العلاقة الخالدة بين الرجل والمرأة، وسجل تحليلاته العبقرية عن المرأة بعقل رجل موضوعي، لا يذم ولا يمدح، مستخدمًا لهجة الفيلسوف، وأسلوب الأديب، ومحاولة الإنسان الدائمة لكي يفهم نفسه ويفهم الآخرين.
الفيلسوف الأسباني «خوسيه أورتيجا أي جاسيت»
إلى جانب الانتصار لحقوق المرأة نادى ابن حزم أيضاً بحقوق العبيد والأرقاء، ورد في كتابه المشهور «المُحلى» على الفقهاء الذين رفضوا الإقرار بحق العبد إن ظُلم أو أهين، بقوله: «وأما قولهم لا حُرمة للعبد، ولا للأمة، فكلام سخيف، والمؤمن له حُرمة عظيمة، ورُبَّ عبدٍ جلف خير من خليفة قرشي عند الله تعالى».
في إباحة الغناء
ما يزال خصوم ابن حزم يأخذون عليه حتى يومنا هذا أنه أباح الغناء، وقد ناقش أدلة الذين يحرمونه مناقشة فقهية وحديثية، وقال إنهم استدلوا على حرمته بما روي عن ابن مسعود وابن عباس وبعض التابعين: أنهم حرموا الغناء محتجين بقول الله تعالي: «ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين»، وفسروا لهو الحديث بالغناء.
وقال ابن حزم: ولا حجة في هذا لوجوه: أحدها: أنه لا حجة لأحد دون رسول الله صلي الله عليه وسلم. والثاني: أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة والتابعين. والثالث: أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها؛ لأن الآية فيها: «ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا» وهذه صفة من فعلها كان كافرًا بلا خلاف، إذ اتخذ سبيل الله هزوًا.
ثم أكد على أن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريم إما صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح، ولم يسلم حديث واحد مرفوع إلي رسول الله يصلح دليلاً للتحريم، وكل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية، وقال ابن حزم: كل ما رُوي فيها باطل وموضوع.
واستدل ابن حزم على إباحة الغناء بأثر صحيح الإسناد عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أنهما استمعا للعود، واحتج أيضاً بحديث أن ابن عمر سمع مزمارا فوضع إصبعه في أذنيه ونأى عن الطريق، وقال: يا نافع هل تسمع شيئاً؟ قال: لا، فرفع إصبعيه وقال: كنت مع الرسول عليه السلام فصنع مثل هذا. قال ابن حزم: فلو كان حراماً ما أباح رسول الله لابن عمر سماعه ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه.
في ظل تحضيري للكتابة عن هذا المفكر الكبير قرأت بحثاً مقدماً لنيل درجة الدكتوراه تقدم به الطالب عبد السلام سعد تحت عنوان «ابن حزم بين الفلاسفة والمتكلمين» ،والحق أنه بحث جدير بالقراءة لمن أراد أن يطالع أفكار هذا الفيلسوف والمجدد الكبير في التاريخ الإسلامي. وقد خلص الباحث في نهايته إلى «أنه لكي يكون المرء فيلسوفاً متكلماً يجب أن يكون حزمياً أولاً. ولئن كان ابن حزم قد تأثر فلسفياً وكلامياً بالأحكام الدينية أو أصغى للمنقول، إلا أنه مع ذلك تحرر من التقليد والموروث الفكري، وحرر ذهنه من القيود الفكرية،والمنهجية، فقهياً وفكرياً وسياسياً، متجاوزاً العوائق الابستمولوجية التي ارتبطت في عصره بالمذاهب والآراء الكلامية، التي سادت قرونا طويلة في المجتمع الإسلامي».
إن ثورة ابن حزم الفكرية تكمن في أنه حرر الفكر الفقهي والكلامي، بل وسائر أنواع التفكير من هيمنة تقليد السابقين التي كانت سائدة، واتّسم منهجه بالتجديد والتطوير، فكان لذلك موسوعي الثقافة شمولي الفكرة، فلسفي النظرة عقلاني النزعة، إلى جانب أنه كان ظاهري المذهب والمنهج، ولهذا فقد عانى كثيراً في سبيل الدفاع عن آرائه ومنهجه الذي ارتضاه، وإن كان حقاً قد اعتمد على أفكار بعض من جاء قبله سواء في ظاهريته أو في عقلانيته ومنطقيته، إلا أن ذلك كله لا ينال بأي مقدار من قامته السامقة كفيلسوف أصيل ذي إبداع فكري متميز، ولعل الدليل على ذلك أن القارئ لأعماله يزداد شغفاً لإعادة قراءتها، بعدما ينتهى من مطالعتها.
هوامش
———————–
[1] خوسيه أورتيجا أي جاسيت «3 مايو 1883 -18 أكتوبر 1955»: فيلسوف إسباني ليبرالي، ركز فلسفته على المشكلات الاجتماعية، وهو يصنف ضمن ما يطلق عليه جيل 1914، ويقصد به مجموعة من الكتّاب الإسبان عُرِفوا في الفترة الزمنية بين «جيل 1898» و«جيل 1927». صاغ هذا المصطلح عالم التربية وعضو اتحاد التعليم السياسي لورنزو لوزورياجا في مقالة له صدرت عام 1947، راجع فيها «الأعمال الكاملة» لخوسيه أورتيجا إي جاسيت. واختار هذه السنة لتزامنها مع صدور الكتاب الأول المهم لأورتيجا «تأملات حول دون كيشوت»، وفي المرحلة ذاتها تم التأكيد على حضور أورتيجا كأحد أكبر المفكرين جماهيرية بفضل مؤتمره «السياسة القديمة والجديدة». وكان لهذا الفيلسوف إجلالاً خاصاً جعلتهم يطلقون على هذا الجيل أيضاً «جيل أورتيجا».