ثقافة

ثروت عكاشة.. الرجل الذي جعل الثقافة منتجا شعبيا

أياديه البيضاء على الثقافة المصرية لا تُنكر، كما ان إسهامه الفكري ليس محل خلاف، يذهب كثيرون إلى أنه أفضل من تولى منصب وزير الثقافة في تاريخ مصر، بينما يراه آخرون «جنرال» الثقافة الموجهة.. هو الليبرالي الذي قاد عملية تحول كبرى نحو توجه اشتراكي في مرحلة هامة من تاريخ مصر وصفها فيما بعد بـ«السلطوية المركزية»، وهو الضابط الذي درس في «السوربون» لنيل الدكتوراه؛ ليصير بعد ذلك أحد أهم مؤرخي الفنون في التاريخ الإنساني.

إن إنجاز د. عكاشة في الشأن الثقافي والسياسي والفكري يفرض بحث كثير من الإشكاليات المتعلقة بالدور الهام والمؤثر الذي لعبه الرجل، وهل كان اختياره للتعددية الثقافية داعما لثورة يوليو، أما أنه كان اختيارا ساهم في تسهيل التخلص من إرث يوليو فور رحيل عبد الناصر.

 طبيعة د. ثروت التي لا تميل إلى الصدام دفعته لمحاولة التملص من هذه المهمة الصعبة، وما سيتكلفه إزاءها من مشقة  في مواجهة «الشِلل» المسيطرة على الشأن الثقافي قبل 1958، لكن عبد الناصر أصر على إسناد الأمر إليه فقد رأى أن إزاحة هذه الشلل يتطلب شخصا يتمتع بهدوء واتزان عكاشة الذي يؤهله لإدارة تلك المعارك بحكمة، وهو الذي لا يحمل سوى الود للجميع حتى من جاهروا بعداوته، كما خَبِرَ عبد الناصر فيه تلك القدرة على إنفاذ الإرادة مهما كانت العوائق.

كان تكليف عبد الناصر له واضحا بشأن جعل الثقافة منتجا شعبيا في متناول الجماهير العريضة، ما يستلزم كسر الأسوار التي تحصر الثقافة في القاهرة والإسكندرية لتصل إلى عمق الدلتا والصعيد، وقد تحقق ذلك من خلال إنشاء قصور الثقافة التي كان يسبق إنشاؤها بناء المدارس والمستشفيات.

الثورة المضادة

لكن لا يمكن لمدقق منصف أن يغفل أن أحد أسباب التراجع السريع للمشروع الناصري قبل اكتماله فعليا بالانقلاب على أسسه ومبادئه- كان تسامحه غير المبرر مع أعداء الثورة والمتربصين بها.. وفي الشأن الثقافي ظهر ذلك جليا وكان له أثر كبير في إحداث حالة من النقد الشديد للمشروع الثوري، ولم يكن ذلك النقد في أحيان كثيرة مبرأ عن الهوى والغرض، وكان د. عكاشة يرى في ذلك أساسا للبناء الثقافي الذي دعاه عبد الناصر لتشييده، لكنه- في الحقيقة- كان بناء يفتقر إلى التجانس ويبتعد رويدا رويدا عن رؤية الثورة وتطلعاتها.. ويمكن القول أن الثقافة في ولاية د. ثروت الثانية (1970:1966) كانت أهم حواضن الثورة المضادة دون تجن.

نلاحظ هنا ارتباكا شديدا في التأسيس للفعل الثقافي الذي تأرجح بين عدد من الشخصيات من أصحاب الأيدولوجيات.. ولم تكن لدى  عبد الناصر آنذاك رؤية متكاملة بهذا الخصوص، فبدلا من تثوير الوعي الجمعي، وتجذير مفاهيم الثورة ومبادئها لدى الشباب وبناء الكوادر التنظيمية بشكل أكثر جدية، فُتحت عديد من الأبواب لم يكن قد آن وقت فتحها وكان المشروع الثوري مازال في مهده الفكري- نقصد بداية الولاية الأولى 1958- فكان الأمر أشبه باجتياح فيروسي لجسد مازال في طور النقاهة.

في سبيله لوضع ما أسماه بـ «السياسات الثقافية» – وهو المصطلح الذي انتشر بعد ذلك في المنظمات الدولية وعلى رأسها «اليونسكو»- رد الوزير المفكر الأمر إلى أهله فلم يستأثر بالقرار، بل دعا كبار مثقفي مصر من أمثال: علي الراعي، لويس عوض، يحيى حقي، أحمد أبو زيد، فؤاد زكريا، وسعد كامل وغيرهم- طالبا الرأي والمشورة والاقتراحات لوضع تصور لما يرونه ضرورة ملحة لتأسيس ثقافة تشمل آثارها القطاع الأكبر من الجماهير.. وقد «نجح عكاشة في العمل عبر مسارين: الأول تأسيس بنية ثقافية مؤسساتية شاملة ذات طابع تعليمي وأكاديمي تربوي تسعى إلى نشر الثقافة شملت تأسيس معاهد وأكاديميات متخصصة، أما المسار الثاني، فارتبط بجعل هوية مصر الثقافية تعددية مع الانفتاح على الثقافة الغربية ومؤسساتها الدولية والإقليمية».

وتجدر الإشارة إلى أن منظمة اليونسكو قد تلقفت المصطلح الذي وضعه د. عكاشة وعملت عليه بجدية آخذة في الاعتبار «ما يحمله من خطورة وأبعاد كثيرة، فعقدت عدة مؤتمرات على مستوى كل مناطقها الجغرافية، بحثا عن وضع «سياسات ثقافية» تجمع العناصر الأساسية لكل مجموعة من الدول التي لها طابعها الخاص بها واحتراما للهوية الثقافية.

ولا شك أن هذا المناخ قد هيأ لجيل من المسرحيين العظام من أمثال: يوسف إدريس، سعد الدين وهبة، ألفريد فرج، محمود دياب، ميخائيل رومان، ونعمان عاشور- إبداع كثير من الأعمال الخالدة، كما نهضت بشكل واضح حركة الفن التشكيلي، والأغنية الوطنية، واستطاع «زكريا الحجاوي» إعادة الاعتبار للغناء الشعبي.

ويتبرأ الدكتور عكاشة تماما من تهمة قيامه بصنع ثقافة موجهة مؤكدا على أن ما تم لم يكن… محاولة من الدولة لصنع ثقافة حكومية وإنما –كان- لتشجيع ازدهار القيم والتطلعات الثقافية بكل أنواعها حتى تفرغ الدولة لنشاطها في الميادين الأخرى».

 ويرجع ذلك إلى أن السؤال التقليدي عن ماهية الثقافة قد تم تجاوزه إلى أمر آخر هو السياسة الثقافية أو الإطار العام للعمل الثقافي، فلم تخرج مهام وزارته عن «تيسير السبل للخلق والإبداع وليس احتكاره، مع إقامة المشروعات الكبرى التي لا يقوى الأفراد على إنجازها». وربما كانت هذه الرؤية أكثر بساطة مما كانت تستلزمه طبيعة المرحلة، فحصر الاحتياجات الثقافية -حسب تعبيره- والنظر في الإمكانيات المتاحة للوفاء بها لم يكن هو ما تطمح إليه الثورة في مرحلة تموج بالمتغيرات، كان الأمر أحوج ما يكون إلى تكوين نواة صلبة تقف في وجه التحديات، بينما أثمرت تلك السياسات الثقافية واقعا أميل إلى الرخاوة وأقرب إلى العداء مع الثورة وقد تجلى ذلك في أعمال عديدة: مثل الفتى مهران لعبد الرحمن الشرقاوي، والفرافير ليوسف إدريس وفيلم «شيء من الخوف» وجملة أعمال رشاد رشدي وثروت أباظة وغيرهم.. ومن الممكن أن نرى وجاهة في الرأي القائل بإفساح المجال لتلك الأعمال رغم أن أغلبها كان ركيكا؛ إذا كانت آلة النقد والإبداع الموازي قادرة على إنتاج الرؤى المقابلة.. لكن ذلك كان غائبا أو شبه منعدم.

وربما أعرب الرجل العظيم عن أسفه في آخر أيامه عن حزنه الشديد بشأن مشروع عبد الناصر الذي تمت خيانته –حسب تعبيره- إذ اعتبر أن البناء الثقافي الذي شاداه سويا، قد تم هدمه عن عمد وبشكل ممنهج منذ رحيل ناصر وحتى نهاية عصر مبارك، كما أرجع أسباب الهبة الشعبية في يناير 2011، إلى الانقلاب على مشروع عبد الناصر وغياب العدالة.

لاشك أن الدكتور ثروت عكاشة كان تجسيدًا للإدراك المتكامل للتنوير الثقافي، إذ «كان يعمل في الفن كعالم، وفي العلم كفنان» ولا ريب أنه استطاع أن يصنع من تناقضاته إيقاعا للعمل والإبداع أنجز من خلاله ما لا يمكن غض الطرف عنه فكان كما عنون موسوعته «عين تسمع وأذن ترى».

https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/341925169869655/?t=2

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock