كان يأمل في فجر جديد مشرق تعود فيه مصر للمصريين ويعود فيه كل بلد عربي إلى أهله، وأن يتفق العرب على سياسات تضمن لهم استراتيجية واضحة ودائمة في مقابل سياسات الاستعمار.. عُرض عليه عرش مصر واليمن والعراق، لكنه رفض رشوة الاستعمار، فتعرض للسجن والنفي والحصار والحكم بالإعدام.
كانت حياة الفريق عزيز باشا المصري كالنهر متعددة الروافد، سريعة الحركة والإيقاع، مليئة بقصص البطولة والشجاعة، عامرة بالوطنية والمواقف الصلبة ضد استبداد الحكم التركي وإصرار السلاطين على «تتريك» البلاد العربية، كما كان لا يأمن جانب الإنجليز الذين لم يكن لهم هدف سوى إجهاض أي حركة تحررية في الدول التي يستعمرونها.
الفريق عزيز باشا المصري
محطات حياته الثرية والأحداث التي عاصرها وجسد فيها دور البطولة، دفعت صناع الدراما إلى الشروع في تقديم عمل فني ضخم عن مسيرته في عام 2009، وبالفعل بدأ التحضير لمسلسل «يا عزيز عيني» وتم ترشيح الممثل الراحل فاروق الفيشاوي لتجسيد شخصية المصري، وكان من المفترض أن يُخرج هذا العمل مدحت السباعي وتنتجه مدينة الإنتاج الإعلامي.
وبعد أن تم التجهيز لتصوير العمل، الذي كان سيشارك فيه عزت أبو عوف وميس حمدان وتامر هجرس وغيرهم من الممثلين المصريين، توقف الحديث عن المسلسل فجأة، دون أن يذكر أحد ما هي الأسباب التي دفعت صناع العمل إلى طي صفحته.
ونظرا للدور الوطني لعزيز المصري «1879- 1965» ليس فى مصر فقط بل ولأدواره فى العديد من الأقطار العربية التي كافحت لتحصل على الاستقلال من الاستعمار الأجنبي والعثماني على حد سواء، ولأن هناك من أراد أن يهيل على محطات حياته التراب للدرجة التي لم يتمكن فيها زميلنا محمد السيد صالح مؤلف كتاب «عزيز المصري.. أبو الثوار» من الوصول إلي مقبرته، ولأن محافظة القاهرة قررت إبان حكم مبارك قبل ثورة يناير محو اسمه من الشارع الوحيد الذي كان يحمله في ضاحية مصر الجديدة واستبدلته بـ«جسر السويس»، فسيعرض موقع «أصوات أونلاين» على مدار 3 حلقات مسيرة هذا الثائر الكبير.
مشهد من الحرب العالمية الأولى
«يلوح لي أن الإنجليز يريدون القضاء على العرب والترك في وقت واحد وذلك بأن يتركوهما مهملين حتى يفنوا بعضهم بعضا، فلا يرسلون لنا نحن العرب القوى والمعدات لنضرب الترك الضربة القاضية ونحتل المدينة، ولا هم يتركوننا وشأننا فيقضي الترك علينا ونرتاح وينفردون بالعمل وحدهم».
جسدت العبارة أعلاه فهم وإدراك عزيز بك المصري للمؤامرة التي حاكها الإنجليز مبكرا للتخلص من العرب والأتراك معا إبان الحرب العالمية الأولى التي أعلنت الدولة العثمانية خوضها إلى جانب قوات المحور «ألمانيا وبلغاريا»، فأقنعت بريطانيا الشريف حسين حاكم مكة وأولاده بإعلان الثورة العربية الكبرى على الحكم العثماني.
الشريف حسين
وعد الإنجليز الشريف حسين بإمداده بقوات ومعدات تمكنه من مواجهة القوات العسكرية التركية المتمركزة في مدن الحجاز والتي تفوق قدرات قواته، ورغم سقوط عدد من الحصون في إيدي القوات العربية إلا أنهم لم يتمكنوا من حسم المعركة، ووجدوا صعوبة كبيرة في دخول المدينة المنورة التي كان يقود الحامية التركية فيها فخري باشا.
فخري باشا
أدرك الشريف حسين ضرورة إنشاء جيش عربي نظامي، ودعا عددا من الضباط العرب لتأسيس هذا الجيش، وبالفعل وصل إلى جدة ذلك الضابط الذي استطاع بخبرته العسكرية وإخلاصه لقضية استقلال دول المنطقة أن يكوِّن جمعية سرية من الضباط العرب العاملين في الجيش العثماني لتحقيق أهدافه الكبرى.
في نهاية 1916 التقى الشريف حسين بالضابط المصري عبد العزيز زكريا علي، الشهير بـ«عزيز المصري» وبحث معه إنشاء جيش عربي نظامي، وذلك بعذ لقاء آخر مع الضابط البريطاني توماس إدوارد لورنس، الشهير بـ«لوارنس العرب» وتم الاتفاق فيه على تشكيل جيش الثورة العربية الكبرى الذي سيواجه الترك وسبل تسليحه والدور الإنجليزي والفرنسي في دعمه.
توماس إدوارد لورنس، الشهير بـ«لوارنس العرب»
انتقل المصري إلى مدينة رابغ السعودية حيث كانت الأزمة مشتدة، وكان بها عدد من ضباط العرب الكبار، وبدأوا في استلام المعدات العسكرية المرسلة من قبل بريطانيا، واستقبال الجند القادمين، ورغم اشتداد المعارك حول المدينة المنورة إلا أن القوة العربية تمكنت من تحقيق نتائج مبهرة تحت القيادة الجديدة، وهو ما أقلق الإنجليز ودفعهم إلى إعادة حساباتهم.
ووفقا لما أورده المؤرخ السوري أمين سعيد في كتابه «الثورة العربية الكبرى» فإن المصري ترك الحجاز وعاد إلى مصر بسبب تصاعد الخلافات بينه وبين الإنجليز «ألح عزيز المصري على الشريف الحسين في أن يطلب من الإنجليز إرسال المدافع التي غنموها في ميدان فلسطين، وصارحه هو وأولاده بأن الإنجليز يتلاعبون بالعرب لتحقيق أهدافهم».
طلب الشريف حسين من المصري أن يذهب إلى القاهرة في إجازة فأدرك عزيز أنها النهاية وغادر الحجاز عائدا إلى مصر تاركا قيادة الجيش لرفيقه الضابط العراقي نوري السعيد «رئيس وزراء العراق لاحقا لأكثر من مرة»، بعد أن أتم إنشاء ثلاثة أفواج من المشاة وثلاثة بطاريات مدفعية مختلفة الأحجام، وفوج هجانة، وبلوك مهندسين.
نوري السعيد
«فلاش باك»
في طريق العودة إلى مصر وبعد أن خاب ظنه في الوصول إلى حلم الدولة العربية الموحدة، وعقب إدراكه أن الإنجليز سيتلاعبون كعادتهم بالشريف حسين وأولاده وهو ما حدث، جلس المصري على سطح السفينة التي تقله إلى الوطن ليسترجع محطات حياته منذ أن توفي والده وهو في العاشرة من عمره، لتلحق به والدته بعد 5 سنوات، ويستقر به الأمر في منزل شقيقته حرم على باشا ذو الفقار محافظ القاهرة في نهاية القرن التاسع عشر.
درس عزيز المرحلة الابتدائية فى المدرسة التوفيقية وأتم الدراسة الابتدائية وحصل على البكالوريا وكانت رغبته أن يلتحق بالكلية الحربية، لكنه التحق بمدرسة الحقوق لتحقيق رغبة شقيقته الكبرى التي كفلته بعد وفاة والدته ووالده، وفي «الحقوق» تقابل مع أمير الشعراء أحمد باشا شوقي أستاذ اللغة الفرنسية في المدرسة، وشكا له عدم رغبته في استكمال دراسة القانون، ووعده شوقي بأن يكون سفيره لدى شقيقته الكبرى وزوجها.
أمير الشعراء «أحمد شوقي»
نجح شوقي في مسعاه، «التحقت بالمهندس خانة المصرية لدراسة الرياضيات وعلم المثلثات والعلوم الحديثة حتى يكون التحاقي بالكلية الحربية في إستانبول.. وبسبب هذه الدراسات كنت دائما من الطلبة الأوائل، وهو ما ساعدني في الالتحاق بكلية أركان الحرب التي تخرجت منها في عام 1905» يروي المصري كيف تغير مجرى حياته، وفقا لما أورده الكاتب الصحفي محمد عبد الحميد في كتابه «أبو الثائرين» الذي نشر عام 1990 عن دار أخبار اليوم.
«أثناء الدراسة أحببت الدراسات العسكرية وعشقت الضباط الألمان الذين كانوا يقومون بالتدريس في تلك الكلية.. احترمت فيهم العقلية الجادة والتفكير السليم، واحترام الإنسان وتقديس العمل والتضحية بكل شيء في سبيل المبادئ، وقد حاولت كثيرا التعامل معهم أثناء الحرب العالمية الثانية، وتلك كانت رغبة كل مصري من أجل طرد الإنجليز والحصول على الاستقلال».
ثورة على استبداد السلطان
كان السلطان العثماني عبد الحميد الذي بدأ حكمه عام 1876 قد أسس نظام حكم بغيض بالنسبة لكافة عناصر الدولة من الأتراك والعرب وغيرهم، ونتيجة للحكم الديكاتوري الذي قام على التجسس، وانتشار الحكم البوليسي ظهرت العديد من الجمعيات السرية التي كان الهدف منها في بداية الأمر المناداة بتطبيق الدستور وإنشاء مجلس نيابي، والاعتماد على الشباب في حكم الدولة.
السلطان العثماني عبد الحميد
التقى المصري خلال وجوده فى إستانبول بعدد من الشباب العربى والأتراك الساخطين على الحكم العثمانى من بينهم نورى السعيد، جعفر العسكرى، ومصطفى كمال أتاتورك، وكان الأخير قد كوّن «جمعية الوطن» عام 1906، ثم انضمت هذه الجمعية إلى جمعية «الاتحاد والترقى» التى كانت تهدف إلى خلع السلطان عبد الحميد، وإقامة دولة تركية ديمقراطية وهى الجمعية التى كان عزيز المصرى عضوا فيها.
بعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي
تطورت الأمور وقرر الاتحاديون خلع السلطان عبد الحميد الذي أنهى العمل بالدستور الذي كان قد أعلنه سنة 1908، كان المصرى أحد قادة الجيش الذى زحف إلى الأستانة وأسقط السلطان عبدالحميد.
كانت مهمة عزيز فى هذا الزحف، الاستيلاء على جسر «جالطة» والمناطق المجاورة من الثكنات العسكرية وقد وفق إلى ذلك بشكل سريع، وأتم المهام التى أوكلت إليه، واشترك فى الاستيلاء على ثكنة «تقسيم» التى كان الدفاع عنها شديداً.
جسر «جالطة»
وفى السابع والعشرين من أبريل 1909، تم خلع السلطان وتعيين أخيه الأمير محمد رشاد الذى تسمى بالسلطان محمد الخامس ورغم اعتراف قيادات الثورة بفضل عزيز المصرى، إلا أن الأمور لم تمض معه بشكل إيجابى بعد ذلك الصدام، وظهر بوضوح عنصرية الضباط الأتراك تجاه زملائهم العرب رغم اشتراكهم فى مهمة إسقاط عبدالحميد.
السلطان محمد الخامس
وتصاعد الخلاف بين الضباط الأتراك وزملائهم العرب الذين كانوا يأملون فى الحصول على نوع من الحكم الذاتى لبلدانهم، فلما لم يتحقق ذلك بدأت الدعوة إلى العروبة يشتدّ عُودها وكان لعزيز المصرى دور كبير فى هذه الدعوة، فاختاره الضباط العرب لقيادتهم.
انفصلت العناصر العربية عن جمعية «الاتحاد والترقى»، وكوَّن عزيز المصرى جمعية «القحطانية»، وفي عام 1911 ثارت اليمن ضد الحكم العثمانى، وكُلِّف المصرى بإخماد تلك الثورة، «كانت طبيعة أرض اليمن في صالح أهلها سواء في السلم أو في الحرب، كان اليمني قادرا على فهم وإدراك ومعرفة البيئة التي يعيش فيها لذلك أحسن استخدام ارتفاعات الجبال في سرعة تسلقها والسيطرة على قممها العالية، الأمر الذي جعل أي جيش صاعد على مرمى بنادق أهل اليمن» يقول المصري.
ويضيف: كان الإمام يحيى بن حميد الدين يحكم اليمن وكان سكانها بإيعاز من الإمام يشعلون ثورة كل عامين أو ثلاثة -موعد جمع الضرائب- حيث يرفضون دفع الضرائب للدولة العثمانية ويدفعون فقط ما يخص الإمام الذي يحكمهم، وكانت الدولة العثمانية أمام ذلك الرفض ترسل قوة عسكرية قوامها لواءان وأحيانا ثلاثة ألوية تشرف على جمع الضرائب بقوة السلاح، وكانت العادة أن القوة العسكرية تفقد معظم أفرادها بسبب حرب العصابات التي كان يجيدها أهل اليمن.
الإمام يحيى بن حميد الدين
أدرك المصري أن تحقيق أهداف حملته مستحيل، فطبيعة الأرض تشبه إلى حد كبير منطقة الجبل الأسود والبوسنة والهرسك التي كان المصري قد انخرط في حرب فيها ضمن صفوف الجيش العثماني قبل سنوات، فدعا الإمام يحيى إلى عقد اتفاق صلح لحقن دماء المسلمين، وهو ما قد جرى.
من «صلح اليمن» إلى «المقاومة الليبية»
«بعد شهور وصل تلغراف من القيادة العليا في إستانبول وتحتم سفري مع أنور جمال ومصطفى كمال أتاتورك إلى ليبيا لتنظيم قوات القبائل الليبية ضد الاحتلال الإيطالي لبعض المدن على طول امتداد الساحل الشرقي لليبيا»، يتحدث المصري عن محطة أخرى من محطات حياته.
مصطفى كمال أتاتورك
عقد المصري مع أتاتورك وجمال اجتماعا سريعا لبحث الموقف، وتوصلوا إلى أن القوة العسكرية العثمانية قليلة ومعداتها متخلفة في مقابل السلاح الإيطالي، وتولى المصري قيادة منطقة طبرق وأنور منطقة درنة ومصطفى كمال منطقة بنغازي.
«خططنا لضرب طلائع الجيش الإيطالي على امتداد الصحراء، ودخلنا معارك شرسة وحققنا انتصارات ساحقة اتبعنا فيها حرب العصابات، وبعد قرابة ثلاثة أشهر كان علينا تدبير كل شيء من خلال ما هو قائم، واستطعنا الحصول على أسلحة ومعدات من الجيش الإيطالي وتحققت لنا السيادة في الصحراء، وأصبح العدو يتمركز في مدن الساحل فقط».
سافر أنور وأتاتورك إلى تركيا، بعد أن شعرا أن دورهما ليس في جبهات القتال بل داخل الدولة العثمانية خاصة بعد أن تأكد لهما الاتفاق التركي مع الإنجليز والإيطاليين، وكانت ليبيا هي الخاسر الوحيد، فضل المصري ألا يترك الشعب الليبي نهبا لتلك المؤامرة الدنيئة، وأصبح قائدا للقوات التي تحارب الطليان، والتقى بقادة المقاومة الليبية.
ويقول المصري: بعد ثلاث سنوات كان لابد من العودة بعد أن سلمت كل شىء إلى المناضل الشعبى الليبى عمر المختار.. كنت أراه الرجل المناسب الذى يمكن أن يحمل لواء الثورة وقيادة حرب العصابات ضد الجيش الإيطالى المحتل. وقد أبلى هذا الرجل بلاءً حسناً واستوعب تماما كل دروسي وخططي العسكرية فى حرب العصابات التى طبقتها بنجاح بخلاف إضافاته التى استخدم فيها العقل والبيئة والمعرفة الجيدة لطبيعة الصحراء.
عمر المختار
انتهت الحرب فى ليبيا باحتلال إيطالى غاشم، وانسحاب عثمانى مخز. وانتهت المواجهة أيضًا بفتنة كبرى كان عزيز المصرى طرفًا فيها، فمع ضغوط الأستانة لتوقيع الاتفاق الذى يعترف باحتلال إيطاليا لطرابلس الغرب، استجاب عزيز وانسحب بقواته إلى قرب السلوم لكن الشيخ السنوسى اعتبر ذلك خيانة من العثمانيين ومن عزيز المصرى، رغم أنه كان آخر القادة المنفذين للانسحاب.
حكم بالإعدام في الأستانة
عاد المصرى إلى الأستانة وكانت الأزمة بين الأتراك والقوميات الأخرى على أشدها خاصة القومية العربية ، فقرر أن يؤسس تنظيمًا عسكريًا سريًا سماه «جمعية العهد» يلتحق به الضباط العرب فقط، وعُقد اجتماعه الأول فى 23 سبتمبر 1913 فى منزل المصري وكان مجموع الحضور أحد عشر شخصا، وبدأوا أعمالهم بوضع نظام أساسى للجمعية التى قرروا تأسيسها واتفقوا أن يكون الاجتماع سريًا وأن هذه الجمعية ستعمل على بلورة وتلبية تطلعات العرب وخروجهم من سيطرة الإمبراطورية العثمانية.
وبعد فترة وجيزة انكشف التنظيم واعتقل عزيز المصري في فبراير من عام 1914، وقدم إلى المحكمة العسكرية ونُسب إليه عدد من الاتهامات الباطلة وحكم عليه بالإعدام، وهو ما أثار حركة معارضة قومية فى كافة الأقاليم العربية ووصلت البرقيات والخطابات من جميع أنحاء العالم العربى، تطلب من السلطان محمد رشاد محاكمة أنور باشا الذى كان وراء المحاكمة وأن يطلق سراح البطل عزيز المصرى.
عزيز المصري في طريقه للسجن، فبراير 1914
وكتب أمير الشعراء احمد شوقي قصيدة إلى السلطان يشيد فيها بالمصرى بطل اليمن وليبيا، ومنها قوله :
بالله بالإسلام بالجرح الذى – ما انفك فى جنب الهلال يسيل
ألا حللت عن الأسير وثاقه – إن الوثاق على الأسود ثقيل
«يتبع»
المراجع:
كتاب «عزيز المصري.. أبو الثوار» –محمد السيد صالح – دار بتانة للنشر– 2018
كتاب «أبو الثائرين.. الفريق عزيز المصري» – محمد عبد الحميد – دار أخبار اليوم – 1990