لم يكن الشعر – فى أى من مراحله – بعيدا عن هموم الأمة العربية وما يلم بها من أحداث كبرى سواء أكانت هذه الأحداث خارجية ممثلة فى الحروب التى خاضتها لصد عدوان أعدائها من الفرس والروم والتتار والصليبيين أو داخلية تشمل ما يمكن أن نسميه بحروب الطبيعة التى تعلن عداءها للإنسان فى صورة أوبئة تحصد أرواح الآلاف من البشر وتمتد لسنوات عديدة متواصلة ولاتقتصر على مكان واحد. ويقول مصطفى أبو سنينة – فى تقرير نشره بموقع «ميدل إيست آى» البريطانى – إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تزخر بتقليد قديم فى كتابة الشعر عن المرض والوباء.
عمواس: الطاعون الأشهر
وقع طاعون عمواس فى زمن عمر بن الخطاب وهو نسبة إلى قرية صغيرة كانت تحمل هذا الاسم، وكانت تقع فى فلسطين بين الرملة وبيت المقدس وقد هدمها الكيان الصهيونى فى أعقاب نكسة يونيو وأقام مكانها منتزها طبيعيا وأطلق عليه منتزه كندا بسبب أن اليهود الكنديين كانوا الأكثر تبرعا فى إنشائه، وقد أهلك هذا الطاعون عددا كبيرا من الصحابة الذين حضروه رضوان الله عليهم من أمثال معاذ بن جبل وضرار بن الأزور وأبى عبيدة الجراح ثم انتشر – بعد ذلك – في الشام والبصرة وقد صوّر المهاجر بن خالد انتشار هذا الوباء وفتكه بالآلاف فى عدة أبيات يقول فيها – بمناسبة خروج الحارث بن هشام بن المغيرة مع سبعين من أهله إلى الشام فلم يرجع منهم إلا أربعة – «من يسكن الشام يعرس بها / والشام إن لم يفتنا كارب – أفنى بنى ريطة فرسانهم / عشرون لم يقصص لهم شارب – ومن بنى أعمامهم مثلهم / لمثل هذا يعجب العاجب – طعنا وطاعونا مناياهم – ذلك ما خط لنا الكاتب» والشاعر – هنا – يقترب من فكرة تسجيل مايراه من أحداث ولم يبلغ به التأثر والانفعال والإحساس بالفجيعة مبلغا كبيرا.
تحدى الطاعون ومات به
هذا الشاعر هو عمر بن مظفر المعرى المتوفى سنة 749 للهجرة والشهير بابن الوردى وقد تحدى الطاعون و أعلن عدم خوفه منه على الرغم مما عاينه من ويلاته وفتكه بالكثيرين من حوله، والقصيدة التى قالها متحديا الطاعون تتكون من بيتين فقط يقول فيهما «ولست أخاف طاعونا كغيرى / فما هو غير إحدى الحسنيين – فإن مت استرحت من الأعادى / وإن عشت اشتفت أذنى وعينى» وقد كانت بلدة «المعرة» هى البلدة الوحيدة التى لم يصبها الطاعون لكن شاعرنا بنفاذ بصيرته رأى فيها نوعا آخر من الطاعون أطلق عليه طاعون «الظلم» وقد قال فى ذلك هذين البيتين «رأى المعرة عينا زانها حور / لكن حاجبها بالجور مقرون – ماذا الذى يصنع الطاعون فى بلد / فى كل يوم له بالظلم طاعون»، والمأساة الكبيرة أن هذا الوباء قد استمر خمس عشرة سنة متواصلة وانتقل إلى الديارالشامية والديار المصرية سنة 749 للهجرة وقد وضع شاعرنا ابن الوردى رسالة صور فيها مآسى هذا الوباء تحت عنوان «رسالة النبا عن الوبا» وهى رسالة تنتمى إلى أدب المقامة التى كانت قد انتشرت فى هذه الفترة وقد ختمها بقوله «اللهم إنا ندعوك بأفضل مما دعاك به الداعون أن ترفع عنا الوباء والطاعون» كما صور مافعله الطاعون بالإسكندرية وذلك فى قوله «إسكندرية ذا الوبا / سبع يمد إليك ضبعه – صبرا لقسمته التى / تركت من السبعين سبعه» وفى قصيدة أخرى لايملك إلا أن يسأل الله البارى دفع هذا الوباء وذلك فى قوله فى تلك الأبيات «سألت بارى النسم / فى دفع طاعون صدم – فمن أحس بلع دم / فقد أحس بالعدم» ولاتفوتنا الإشارة إلى أن الشاعر يلفت الانتباه إلى أحد مظاهر المرض وهو تقيؤ الدم، وفى قصيدة أخرى يصف ماحدث لمدينة الشهباء وذلك فى هذين البيتين: «اسودت الشهباء فى عينى / من رمم وغش – كاد بنو نعش بها / أن يلحقوا ببنات نعش» وذلك لأن المكلفين بدفن الموتى كانوا يتكاسلون عن أداء واجبهم حتى تكاثرت الجثث. وفى قصيدة أخرى يقول مصورا طوفان هذا الوباء وسائلا الله أن يرحم عباده «ألا إن هذا الوبا قد سبا / وقد كان يرسل طوفانه – فلا عاصم اليوم من أمره / سوى رحمة الله سبحانه» لكنه عندما تحدى الطاعون بالبيتين اللذين أشرت إليهما مات بعد أن قالهما بيومين فقط مصابا بالطاعون. ويبدو أن ماحدث للشاعر عمر بن مظفر المعرى قد طارد الكثيرين ومنهم ابن حجر العسقلانى الذى ألف كتابه الشهير «بذل الماعون فى فضل الطاعون» وفقد ثلاثة من بناته هن: عالية وفاطمة فى طاعون 819 وابنته الكبرى زين خاتون فى طاعون 833.
خمسة وعشرون طاعونا
ومن المعروف أن العصر الأموى كان أكثر العصور تعرضا لمختلف الأوبئة خاصة وباء الطاعون ففى كتابه «الطاعون فى العصر الأموى.. صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية» استعرض المؤلف المصرى أحمد العدوى آثار الطاعون على الدولة والحياة والمجتمعات فى أقاليمها المختلفة ورأى أن عصر الدولة الأموية قد شهد حوالى خمسة وعشرين طاعونا بمعدل طاعون واحد لكل اربعة أعوام ونصف تقريبا.