رؤى

عَدِي التميمي.. إعادة ضبط المعنى!

كعادتها ترسل لكم فلسطين التحية.. تصنع لكم صباحاتٍ نديةً تزيح الليل عن القلوب.. كعادتها تهدينا أجمل أزهارها.. لتمنحنا الأمل متجددا يزهو بالوعد الأكيد.. يعربد المحتل ويتجبر وتوهمه ترسانة أسلحته المتطورة بالقوة الباطشة.. لكن خدره اللذيذ ينتهي كل مرة بلطمة قوية تمحو كل زيف، لتجعله في مواجهة الحقيقة التي تقول أنَّ الحق أقوى وأشد.. هذا النهر المتدفق من الأبطال لا يعرف الانقطاع ولا الجفاف.. يهدر، يثور، يروي، ينساب، يلهم، يعلّم.. ويعيد الأمور في كل دفقة إلى ما كانت عليه.. لنبقى على العهد لم تنل منا سنوات النوم الطويل.. وهذه قطرة من قطراته المقدسة تُنَدّي أرواحنا بعطرها.. تمنحنا بمجدها ألف ألف حياة دون موت.. أبدٌ يعانق الأزل ليفتح قلوبنا على بصيرةٍ نكتشف بها كذبة الزمن الذي ظنناه ينصرم إلى البدد؛ فإذا به يدور حين يدفعه هؤلاء الأبطال إلى لحظة البدء لا الانتهاء.

“أنا المُطَاردُ عَدِي التميمي من مخيم الشهداء “شَعْفَاط” عمليتي في حاجز “شَعْفَاط” كانت نقطة في بحر النضال الهادر، أعلن أني سأستشهد عاجلا أم آجلا، وأعلم أنني لم أحرر فلسطين بالعملية، ولكن نفذتها وأنا أضع هدفا أمامي، أن تُحرِّكَ العملية مئات الشبان؛ ليحملوا البنادق من بعدي”.

لاثني عشر يوما طارده الغاصبون.. ألقى الشبان شبهه على هيئتهم.. مئات يروحون ويجيئون في “سلوان” وفي الأحياء القريبة بالرؤوس الحليقة ونفس اللباس كأنما أزهرت بهم الأرض فجأة.. تردد اسمه في كل لحظة آلاف المرات عبر الهواتف المحمولة التي يترصدها المحتل متنصتا.. لقد امتد الكابوس الذي صنعه عَدي على حاجز “شَعْفَاط” لأيام متصلة.. لا يدري أحد على وجه الدقة ماذا تفعل تلك المواجهات وإطلاق النار من المسافة صفر، في هؤلاء المرتعدين.. الأكيد أن من يخرج حيا منهم من هذه الحوادث – لا يصلح بعد لشيء؛ يموت ألف ألف مرة مع جريان الدم المشحون بالفزع في أوردته كل لحظة.. لكن الكابوس لم ينتهِ حتى عند بوابة “معاليه أدوميم” حيث ارتقى التميمي.. فقد منح بمشهد ارتقائه البطولي وقتا أطول لكابوسهم؛ سيمتد إلى لحظة انكسارهم النهائية.. وعودة الحق إلى أصحابه.. مع تدفق النهر الهادر الذي تحدّث عنه عَدي.. سيطول الكابوس ويفتك بالأشباح المصورة في اللباس العسكري والعتاد المكدس.

لقد صنع التميمي ومضة من الجمال الخالص كانت من القوة والاقتدار بمكانٍ؛ حتى أنها محت زمنا طويلا امتد في القبح والوضاعة والسفه متملكا من نفوس الكثيرين؛ حتى خال البعض أن الانحطاط والتخلي والتفاهة واللاقيمة.. قد صارت من طبائع الأشياء.. أعاد المقدسي الفتي أرواحنا لتتأمل من جديد حقائق كادت أن تغيب عن الأذهان عن جدوى النضال والتضحية من أجل المبدأ.. وأن تقضي على ثغرك، لا تؤتين القضية المحورية لأمتنا من دونك.. في زمن الهرولة الداعرة نحو مباغي التطبيع الدنسة.. حيث صار التبجح بالخيانة ملمحا أساسيا في المشهد، ونيل رضا العدو مطلبا لغالبية النخب المتحكمة في مصائرنا على امتداد الوطن المكلوم.. أتى عَديٌ ليطمس تفاصيل المقطع العبثي، ويهيل عليه رماد السنوات العجاف، ويمزقه داعسا إياه بقدمٍ لا تُخطئ الطريق الأوحد إلى فلسطين الذي يمر عبر فوهة البندقية.

لا نُحمّل الأمور أكثر مما تحتمل ونحن نقرأ هذه الصفحة الناصعة من سِفر الفداء.. بالطبع فإن آذانا كثر يطيب لها أن تصم، على أن تسمع كلاما من هذا القبيل، الذي هو بالنسبة لها شيء من قبيل الرطانة والهذيان.. لكن الحق ما شهدت به الأعداء.. لتكون هذا الشهادة بيننا وبين من يصنعون من الواقعية رداءً لكل ما هو راضخ ومتواطئ.. يريدون تغيير كل ثوابتنا والانحراف ببوصلتنا عن وجهتها الصحيحة لا لشيء إلا حفظ أمن العدو واستمرار بقائه.

تجمع الفلسطينيين في المسجد الاقصي للصلاة ثم التظاهر بعدها من اجل اهالي حي الشيخ جراح

في مقدمة هذه الشهادات تأتي شهادة الكاتبة عميره هاس في صحيفة هآرتس إذ تقول: “إن المواجهات المستمرة في الأراضي الفلسطينية، يقف خلفها جيل جديد من الفتيان والشبان الفلسطينيين الذين فقدوا كل أمل في اتفاق أوسلو”. في حين عنون نوعم أمير مقاله في معاريف بـ”جيل لا يخافنا” وقال: “لقد نشأ هنا جيل لا يتذكر السور الواقي ولا يخاف”.

ويلخص جدعون ليفي في هآرتس رؤية العدو عن هذا الجيل الفلسطيني الذي لا يعرف المستحيل فيقول: “يبدو أنّ الفلسطينيين طينتهم تختلف عن باقي البشر، فقد احتللنا أرضهم، وأطلقنا عليهم الغانيات وبنات الهوى، وقلنا ستمر بضع سنوات، وسينسون وطنهم وأرضهم، وإذا بجيلهم الشاب يفجّر انتفاضة الـ 87… أدخلناهم السجون وقلنا سنربّيهم في السجون وبعد سنوات، وبعد أنْ ظننا أنهم استوعبوا الدرس، إذا بهم يعودون إلينا بانتفاضة مسلحة عام 2000، أكلت الأخضر واليابس، فقلنا نهدم بيوتهم ونحاصرهم سنين طويلة، وإذا بهم يستخرجون من المستحيل صواريخ يضربوننا بها، رغم الحصار والدمار، فأخذنا نخطط لهم بالجدران والأسلاك الشائكة. وإذا بهم يأتوننا من تحت الأرض وبالأنفاق، حتى أثخنوا فينا قتلاً في الحرب الماضية، حاربناهم بالعقول، فإذا بهم يستولون على القمر الصناعي عاموس ويدخلون الرعب إلى كلّ بيتٍ في إسرائيل، عبر بث التهديد والوعيد، كما حدث حينما استطاع شبابهم الاستيلاء على القناة الثانية، خلاصة القول، يبدو أننّا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حلّ معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال”.

فلسطين الشيخ جراح
مواجهات قوات الاحتلال الاسرائيلي والفلسطينيين

ثم نجد بيننا بعد ذلك من يتسمون بأسمائنا ولهم نفس ملامحنا– لا يحسنون إلا تضخيم قوة العدو، وحتمية التسليم له، وفتح صفحة جديدة معه لا تعرف إلا الرضوخ والاستسلام.. لكن هذا التصاوت المخنث أيضا جعله جيل عَدي بتضحياته الخالدة؛ بددا لا صدى له.

إن المشهد الفلسطيني المقاوم اليوم أقوى من أي حديثٍ نسوقه على درب الثناء أو المناصرة.. إنه مشهد ينأى بنفسه بعيدا جدا عن كل بلاغتنا وأحلامنا.. لأنه متحقق بالفعل.. يفعل في العدو فعله.. ويكاد يطير صوابه.. ويدخله في دوائر اليأس والحيرة، إذ يتزامن مع تصاعد التحذيرات المتكررة من قادة  الكيان ومفكريه والمتعلقة بسقوط الدولة، مستدعين الوقائع التاريخية لسقوط الممالك اليهودية السابقة.. فرغم تضخم آلة البطش التي يمتلكها الكيان الغاصب إلا أن ذلك لا يحول دون تنامي الصراعات والنزاعات الداخلية التي تهدد بقاءه، ما دفع رئيس الوزراء المستقيل نفتالي بينيت، إلى القول بأن “الدولة تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي: إما استمرار العمل، أو العودة للفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار، ومرة أخرى نواجه جميعا لحظة مصيرية، فقد تفككت إسرائيل مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عامًا، والثانية 80 عامًا، ونعيش الآن حقبتنا الثالثة، ومع اقترابها من العقد الثامن، تصل إسرائيل لواحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق”. ويذهب آخرون منهم إيهود باراك إلى أن نجاة الدولة الثالثة لليهود من مصير الدولتين السابقتين اللتين لم تعمرا لأكثر من ثمانين سنة – بات أمرا مشكوكا فيه.

فلسطين حي الشيخ جراح
مواجهات قوات الاحتلال الاسرائيلي والفلسطينيين

لا تكتفي فلسطين بصمودها البطولي، لأكثر من سبعة عقود، في وجه أسوأ احتلال عرفه التاريخ البشري؛ في ظل تواطؤ المجتمع الدولي وتآمر العديد من الأطراف الإقليمية والعربية – لكنها تجود علينا من عليائها بما يعيد إلينا الأمل، ويجدد فينا الوعي.. ليس بعدالة القضية وحتمية النصر فقط؛ بل بوجودنا الإنساني الذي بات مهددا بالمسخ والتشوية وفقدان المعنى، وإذا بمسيرة شهدائها الأبطال الذي لن يكون عَدي التميمي آخرهم- تردنا إلى الخندق الأول في عملية إعادة ضبطٍ للقيمة والمعنى يجيدها ببراعة شعب الجبارين.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock