محمد إقبال
الوعي النبوي والوعي الصوفي
ونظرا لانتشار مفاهيم و أفكار التصوف الاسلامي فى المنطقة الهندية و بلاد فارس تأثرا بروح التصوف فى هذه المنطقة عموما قبل الاسلام، حرص اقبال على التمييز بين الوعي الصوفي والوعي النبوي. فبينما يسعى الصوفي لتسامي الروح كي تتطابق و تفني في المطلق، فإن النبي – والمسلمين من بعده – لا يطمح الى مجرد نشوة الوصول إلى الفناء فى المطلق، بل يتسامى اليه ليحصل على الزاد الذى يعينه على العودة مرة أخرى الى أرض الواقع، ليعمل على إعمار الأرض ومواجهة تحديات الحياة. ويؤكد اقبال هذا الفارق بقوله: «فالصوفى لا يريد العودة من مقام الشهود، وحتى حين يرجع، فإن رجعته لا تعني الكثير بالنسبة للبشر، أما رجعة النبى فهي رجعة مبدعة.. إذ يعود النبى ليشق طريقه في موكب الزمان ابتغاء التحكم في ضبط قوى التاريخ و توجيهها على نحو ينشئ به عالما جديدا من المثل العليا».
التوتر الانساني الخلاّق
يؤكد إحميدة النيفر أستاذ العقيدة في جامعة الزيتونة، ومؤسس حركة الإسلاميين التقدميين في تونس، على فكرة محمد إقبال حول الحقيقة المكنونة في القرآن الكريم والتي تتكشف جوانبها ودلالاتها مع العصور وفقا لارتفاع السقف المعرفي للأمم وامتدادها الثقافي، و يستنتج من ذلك أن النص ثابت، وأفهام الناس هي التي تتغير، وهكذا يكون النص متبوعا، لكن فهمه تابع للوعي الجمعي للبشر من زمن لآخر ومن مجتمع لمجتمع.
إحميدة النيفر
ويرى إقبال أن دوام تحقق الذات مرتبط باستمرار الإنسان فى حال من التوتر الخلاّق بين واقعه وآماله، فإن زالت هذه الحال أعقبتها حال من الاسترخاء مضرة بالذات و بتحققها وبتطورها و ارتفاع درجة تجلى المطلق فيها، فأول فرض على الانسان أن يعمل على إدامة هذه الحال من التوتر والحيلولة دون الاسترخاء، فكلما تمكنا من إدامة التوتر الخلاق يمكننا من الخلود.
ختامية النبوة هنا هى نوع من الفطام للبشر حين أصبحوا قادرين على إعادة فهم شؤون دنياهم وإدارتها من خلال طاقة الإبداع الخلاق المستمر فيهم، إنها رؤية لاتجعل من «التقدم» غاية فى حد ذاته بل مجرد خطوة على طريق لاينتهى، فالكمال مثال بعيد يسعى الانسان و الجماعة نحوه و يجسدونه بدرجات متصاعدة ولكنهم لايصلوا للكمال المطلق أبدا، إنها رؤية «تقدمية» تتناقض مع بعض الفلسفات والرؤى السكونية التي تميل للحفاظ على المفاهيم القديمة والاوضاع القائمة (وجدنا عليه آباءنا).
النور المحمدي
أول ما يلفت النظر هنا الشجاعة الأدبية الاستثنائية لإقبال، من حيث قوة الحسم ووضوحه فى الانتصار لمنهج الاستدلال العقلى، مخالفا بذلك حالة السيولة والميوعة الفكرية وعدم الحسم و الإبقاء على الفكرة ونقيضها وهو ما ساد الفكر الإسلامي في زمنه واستمر في الزمن الحديث والمعاصر وأنتج أنماطا من التلفيق والازدواجية بين العقل وبين النزوع لتهويمات الخيال والخرافة، بداية من الإيمان بنبوءات آخر الزمان والاعتقاد في قدرات الأولياء، لا مجرد الاقتداء والاحتفاء بصلاحهم وتقواهم.
وفي هذا السياق يفهم إقبال نظرية «النور المحمدي» فهما يصب في معنى التسامح والتفاهم والتعايش بين المسلمين وبين أصحاب العقائد والديانات السابقة على الإسلام، فالنور المحمدى انتقل من نبي لآخر حاملا ذات الجوهر الإلهي مع اختلاف في التفاصيل بما يلائم كل أمة وكل عصر وصولا إلى الرسول الكريم، أما الفهم الآخر الذى حذر إقبال من انتشاره، فيقوم على الاعتقاد بأن النور المحمدي مستمر فى صورة نفحات إلهية لمن وهبهم الله قدرات خاصة من الأولياء وأصحاب الإشراقات، وهو الاعتقاد الذى فتح الباب واسعا أمام الضمور المتزايد لمنهج التفكير الاستدلالى الذى يقوم على المنطق العقلى، وعلى احترام مشاهدات الواقع، لا على إشراق وإلهام إلهي مزعوم من قبل بشر عاديين. ويرى إقبال أن قيمة الوعى بالمعنى الحقيقي لختامية النبوة، أنه يجعل الإنسان يعتقد أن كل سلطان شخصى يُزعم أن له أصلا خارقا للطبيعة، قد فات أوانه فى تاريخ البشر.