ثقافة

واقعة احتلال مصر: بشاعة سليم الأول وجسارة طومان باي

في حي الزيتون بقاهرة المعز، يقع شارع طومان باي، في جوارٍ غير منطقي مع شارع سليم الأول.

شارعان لا يمكن أن يتجاورا، ولا يصح لهما ذلك [اللهم إلا إذا كان هذا الجوار بين المقتول وقاتله دليل آخر علي مكر التاريخ] فسليم الأول هو الغازي العثماني الذي احتل مصر المحروسة، بعد قتال دام أشهرا، خاض خلالها السلطان طومان باي قتالا شرسا، جمع فيه ما كان تبقى من المماليك بعد هزيمة السلطان الغوري في مرج دابق، بالقرب من حلب، وساند طومان باي «العامة والغوغاء ونوتية بولاق (النوتي: ملاح أو بحار) والزعر والحرافيش ومساتير الناس من المصريين. لكن الخيانة لعبت لعبتها المعتادة، لينتصر الغازي المحتل، ويعلَّق السلطان طومان باي مشنوقا على باب زويلة».

مناظرة بين طومان باي وسليم الأول

سليم شاه يدخل قاهرة المعز محتلا

في يوم الاثنين الثالث عشر من أبريل سنة 1517 من الميلاد، تحرك موكب طومان باى المقاوم المهزوم للمرة الأخيرة من معسكر الغازي المنتصر سليم الأول بإمبابة، عابرا إلى بولاق مخترقا القاهرة، وانتهى الموكب الأخير لـطومان باى عند باب زويلة، فشق شوارع المدينة من الشرق إلى الغرب، وهو يسلم على أهل القاهرة المصطفين على جانبي الطريق، «وعندما وصل، وقف على قدميه وقال للناس من حوله: اقرءوا سورة الفاتحة ثلاث مرات، وقرأ الناس معه، ثم قال للمشاعلي: اعمل شغلك، حيث شُنق هناك وسط صراخ الناس وعويلهم، فلما شُنق وطلعت روحه صرخت عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف. وظلت جثته معلقة على باب زويلة ثلاثة أيام. وكان له من العمر نحو 44 سنة، ولم يُشنق ممن حكم مصر ــ من الخلفاء والسلاطين ــ سلطان غيره».

مشهد إعدام طومان باي من مسلسل ممالك النار

كانت هذه رواية ابن إياس لمشهد شنق طومان باي، آخر سلاطين مصر المحروسة، فبعدها فقدت مصر استقلالها النسبي  ــ الاستقلال بمقاييس ذلك الزمان ــ وأصبحت منذ ذلك اليوم ولاية تابعة للباب العالي العثماني. منذ ذلك اليوم عايشت مصر ما لم تعايشه من قبل، وعانت ما لم تعاينه من قبل، من ظلم وتجبر، وانحلال اقتصادي، وتخلف اجتماعي لقرون كاملة.

السلطان طومان باي (الأول)

يصف بن إياس ما فعله جند ابن عثمان بمجرد دخولهم إلى القاهرة على النحو التالي: «ثم دخلوا جماعة من العثمانية إلى الطواحين وأخذوا ما فيها من البغال والأكاديش {نوع من الخيول مرغوبة لصبرها على السير الحثيث وسرعة المشي}، وأخذوا جمال السقايين. وصارت (العثمانية) تنهب ما يلوح لهم من القماش وغير ذلك، وصاروا يخطفون جماعة من النساء والصبيان المردة والعبيد السود، واستمر النهب عمالا في ذلك اليوم إلى بعد المغرب، ثم توجهوا إلى شون القمح التي بمصر وبولاق نهبوا ما فيها من الغلال……….. وفي هذه الأيام تزايد الأذى من عسكر ابن عثمان، فكانوا يخرجون وقت صلاة الصبح ويتوجهون إلى الضياع التي حول الخانقاه {المكان الذي ينقطع فيه المتصوف للعبادة}، فيحشون ما فيها من الزروع من البرسيم والفول، فيطعمونه إلى خيولهم في كل يوم، ثم صاروا يأخذون دجاج الفلاحين وأغنامهم وأوزهم، حتى أبوابهم وخشب السقوف الذي هناك».

وبعد دخوله القاهرة بيومين، نادي السلطان سليم شاه في بعض أحياء المدينة، بأن سكان المنازل في هذه الأحياء عليهم إخلاء بيوتهم، فخرجت الناس من بيوتها، وهجم عليهم جند ابن عثمان وسكنوا فيها، حتى صارت الحارات والأزقة مزدحمة بالناس، «وصاروا كالجراد المنتشر من كثرتهم، من الصليبة إلى جامع قوصون إلى قناطر السباع إلى داخل باب زويلة، وما خلا منهم موضع في المدينة……. ثم إن العثمانية طفشت في العوام والغلمان من الزعر وغير ذلك، ولعبوا فيهم بالسيف، فصارت جثثهم مرمية على الطرقات من باب زويلة إلى الرملة ومن الرملة إلى الصليبة إلى قناطر السباع إلى الناصرية إلى مصر العتيقة، فكان مقدار من قتل في هذه الوقعة من بولاق إلى الجزيرة الوسطى إلى الناصرية إلى الصليبية فوق العشرة آلاف إنسان، في مدة هذه الأربعة أيام».

السلطان سليم شاه

نهْب كنوز مصر وعقولها وأرباب صنائعها

وفي أثناء إقامة سليم الأول بمصر، نقل إلى القسطنطينية أكثرَ ما في القلعة ومنازلِ الأمراء والسلاطين والمساجد والزوايا والأربطة من النفائس والذخائر والكتب حتى أعمدة الرخام ومُركَّباته.

يقول ابن إياس: «……. وأشيع أن ابن عثمان لما طلع إلى القلعة، وعرض الحواصل التي بها فرأى خيمة المولد فأباعها للمغاربة بأربعمائة دينار، فقطعوها قطعا وأباعوها للناس ستائر وسفر. وكانت هذه الخيمة من جملة عجائب الدنيا، لم يعمل مثلها في الدنيا قط، وكانت على هيئة القاعة، ولها أربعة لواوين وفوقهم قبة بقمريات والكل من قماش، وكان فيها تقاصيص غريبة، وصنایع عجيبة، لم يعمل الآن مثلها أبدا، فكانت إذا نصبت أيام المولد يحضرون بجماعة من النواتية نحو من خمسمائة إنسان حتى ينصبونها في الحوش السلطاني.

وكانت من جملة شعائر المملكة فاتباعت بأبخس الأثمان، ولم يعرف ابن عثمان قيمتها، وفقدها الملوك من بعده، فحصل منه الضرر الشامل، وهذا من جملة مساوئه التي فعلها بمصر.

ونقل من مصر إلى القسطنطينية كل أبناء السلاطين وأكثر المقدمين والأمراء والخليفة العباسي، بعدما تنازل له عن الخلافة، وأكثر العلماء والقضاة وكل من له نفوذ وإمرة بمصر. ثم أمر بجمع رؤساء الصناعات المشهورين بإجادة العمل فيها من كل الطوائف، فجمعوا منهم نحو ألف صانع ونقلوهم إلى الأستانة لينشئوا الصناعات الدقيقة فيها، حتى قيل إنه بطل في مصر بذلك نحو 50 صناعة، فكان كل ذلك سببًا في تأخُّر مصر في كل المجالات.

ولم يكن ما فعله من نهب في مصر امرأ جديدا غير معهود في سياسة وطباع ابن عثمان، فما فعلة بمصر فعل مثله عندما هزم الفرس، «فدخل السلطان سليم تبريز، عاصمة الفرس في ذلك الوقت، وأمر بإرسال ألفٍ من أمهر صناعها إلى القسطنطينية». فسياسة النهب نهج ثابت لابن عثمان.

الخلافة العثمانية

في العصور الوسطى، كانت البلاد في العالم بقاراته الثلاث المعروفة في ذلك الوقت {أفريقيا وآسيا وأوروبا} تحكم بأسر حاكمة، يحملون ألقاب: الملك، والسلطان، والإمبراطور. أما العالم الإسلامي فقدم لقب الخليفة لتسمية الحاكم، وكان الخليفة في عصر الخلفاء الراشدين يقصد به ان الحاكم يخلف من سبقه حتي رسول الله (خليفة رسول الله) إلى أن سن الحليفة العباسي أبو جعفر المنصور سنة جديدة، فأطلق مفهوم ان الحاكم إنما هو خليفة لله جل وعلا في أرضه يستمد سلطاته من الله. والتي عرفت في علم السياسة بنظرية (الحق الالهي).

ومما جعل لاحتلال مصر أهمية تاريخية عظمى، أن «المتوكل على الله»، آخر ذريّة خلفاء بني العبّاس، الذي أقام أجداده بالقاهرة بعد الغزو المغولي لبغداد سنة 1258، فأصبحت مصر هي مقر الخلافة العباسية، وكانت له الخلافة بمصر اسمًا، تنازل عن حقه في الخلافة الإسلامية إلى السلطان سليم، وسلّمه الآثار النبوية، وهي بيرق وسيف وعباءة نبي الإسلام «محمد بن عبد الله» عليه الصلاة والسلام.

دينار الخليفة المتوكل على الله

ومن ذلك التاريخ حمل كل سلطان عثماني لقب «أمير المؤمنين» و«خليفة المسلمين». وبعد أن أصبح السلطان سليم شاه خليفةً للمسلمين، خلع على نفسه لقب ملك البرّين، وخاقان البحرين، وكاسر الجيشين، وخادم الحرمين الشريفين.

لماذا رواية ابن إياس موضع ثقة

يقول ابن إياس في مؤلفه {بدائع الزهور في وقائع الدهور}: كان يشاع العدل الزائد عن أولاد ابن عثمان وهم في بلادهم قبل أن يدخل سليم شاه إلى مصر، فلم يظهر لهذا الكلام نتيجة ولا مشي سليم شاه في مصر على قواعد السلاطين السالفة بمصر، ولم يكن له نظام معروف لا هو ولا وزراؤه ولا أمراؤه ولا عسكره، بل كانوا همجا لا يعرف الغلام من الأستاذ. ولما أقام ابن عثمان بالقلعة، صار زبل الخيل هناك مفروشا على الأرض يغطيها، وأخرب غالب الأماكن التي بالقلعة، وفك رخامها ونزل به في مراكب يتوجهون به إلى القسطنطينية».

بدائع الزهور

ثم يوجز شهادته عن ابن عثمان واحتلاله لمصر في كلمات شديدة الدلالة: «ولم تقاس أهل مصر شدة مثل هذه قط، إلا أن كان في زمن البخت نصر البابلي لما أتي من بابل وزحف على البلاد بعساكره وأخربها وهدم بيت المقدس، نم دخل إلى مصر وأخربها عن آخرها وقتل من أهلها ما لا يعد ولا يحصى، حتى أقامت مصر أربعين سنة وهي خراب ليس بها ديار ولا نافخ نار، فكان النيل يطلع وينفرش على الأرض ويهبط فلا يجد من يزرع الأراضي عليه ولا ينتفع به، لكن هذه الواقعة لها فوق الألفي سنة قبل ظهور عیسی بن مریم علیه السلام. ثم وقع مثل ذلك في بغداد في فتنة هولاكو ملك التتار لما زحف على بغداد وأخربها وأحرق بيوتها، وقتل الخليفة المستعصم بالله وقتل أهلها، واستمرت من بعد ذلك خرابا إلى الآن. فوقع لأهل مصر ما يقرب من ذلك، وما زالت الأيام تبدى العجائب».

عندما جاء ابن عثمان إلى مصر ودخلها محتلا، كان ابن إياس يبلغ من العمر 69 عاما، وتوفى عام 1523، أي بعد 6 سنوات من سقوط مصر في يد الترك. وكان العثمانيون في أوج قوتهم وبطشهم، لكنه لم يخف وسجل شهادته عما رآه من أهوال اقتحام وغزو العثمانيين لمصر، وكان الأولى به والأكثر منطقية، إذا أراد أن يدلس أو يكذب أو يزيف التاريخ، أن ينافق الحكام الأقوياء شديدي الظلم ــ حسب وصفه لهم ــ ليأمن شرهم بالصمت، على الأقل، لكنه روى الأهوال التي شاهدها وعاينها بنفسه، والتي وصلت لاقتحام الأزهر الشريف، ومسجد ابن طولون، وجامع الحاكم، وإحراق جامع شيخو، وتخريب ضريح السيدة نفسية ومسجد الإمام الشافعي، كل هذا شهده المؤرخ المصري ورواه في عز جبروت العثمانيين، ما يجعل شهادته الأقرب للحقيقة، ومصدرٌ للثقة.

ابن إياس

المصادر:

-ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، ج5، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984.

-عمر الإسكندري وسليم حسن، تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قُبيل الوقت الحاضر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014.

-سليمان فياض، الوجه الآخر للخلافة الإسلامية، دار ميريت، الطبعة الأولى، 1999

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker