مع دخولها أسبوعها الثاني على التوالي، لا تبدو الهبة الشعبية التي تشهدها الولايات المتحدة احتجاجًا على مقتل الشاب الأسود جورج فلويد على قوات الأمن، في سبيلها إلى أن تخبو في أي وقت قريب، فمع استمرار التظاهرات بوتيرة متسارعة ومتزايدة، يمكن للمرء أن يسجل بعض الملاحظات على طبيعة هذه الهبة الجماهيرية، وما يميزها عن سابقاتها في التاريخ الأميركي.
أولًا: أكدت هذه الانتفاضة مدى أهمية التوثيق والتسجيل للأحداث، حيث ساهمت التكنولوجيا الحديثة التي باتت متوفرة على الهواتف النقالة في تسجيل ما حدث لجورج فلويد، من عملية خنق متعمدة على يد رجل أمن أبيض على مدى تسع دقائق مما أدى إلى وفاته.
مقتل جورج فلويد على يد ضابط أمريكي
وأزعم أن مقتل فلويد كان يمكن أن يمر مرور الكرام، شأنه شأن الكثيرين غيره من الأميركيين السود الذين قتلوا على يد قوات الأمن، لولا هذا الفيديو، إذ أن بشاعة عملية القتل وظهور رجل الأمن فيه غير عابئ بحياة فلويد، واستغاثة الأخير وتوسلاته المتكررة، جعلت المتفرج يتعاطف مع الضحية ويشعر أنه معرض لأن يكون في نفس الموقف.
وأعاد هذا التوثيق إلى أذهان كثير من الأميركيين؛ لا سيما السود منهم، فيديو مماثل لمقتل شاب أسود آخر هو إريك غارنر في نيويورك، يوليو 2017، على يد مجموعة من رجال الأمن، خاصة وأن الأداة واحدة في كلتا الحالتين، وهي الخنق، كما أن كلمات كلا الضحيتين الأخيرة تتشابه إلى حد التطابق وهي: «لا أستطيع أن أتنفس».
مقتل اريك غارنر
ثانيًا: أكدت الهبة الشعبية على الموقع المتقدم الذي تحتله وسائل الإعلام الشعبي متمثلة في مواقع التواصل الاجتماعي في عالمنا اليوم، ففي حين احتاج فيديو رودني كينج، وهو مواطن أميركي أسود تعرض للضرب والإهانة على يد الأمن في لوس أنجلوس عام 1992، إلى بضع أيام ليصل إلى القنوات التليفزيونية الأميركية ويصل إلى المشاهدين، فإن فيديو مقتل جورج فلويد نشر عبر شبكة الإنترنت في غضون ساعات من وقوع الجريمة، وفي خلال هذه الساعات المحدودة صار الحديث المتداول لمستخدمي مواقع التواصل وشغلهم الشاغل سواء في الولايات المتحدة أو حول العالم.
وكما حدث مع الانتفاضات الشعبية التي شهدها العالم العربي عام 2011، تحولت مواقع التواصل إلى أداة تنظيمية يدعو من خلالها المنظمون إلى المسيرات ويحددون وجهتها وينشرون صورها.
الاحتجاجات تلاحق ترامب عبر مواقع التواصل الاجتماعي
ثالثًا: من الملاحظ أن هذه الهبة تجاوزت حدود العرق، وهو أمر شديد الأهمية في مجتمع متنوع ومختلف عرقيًا مثل الولايات المتحدة، إذ لم تقتصر التظاهرات على السود دون غيرهم، بل انضم إليهم متظاهرون بيض ومسلمون وذوو أصول آسيوية وإسبانية في مشهد يعد نادراً في تاريخ البلاد، خاصة إذا ما علمنا أن الاختلاف العرقي كان أحد أسباب عدم قدرة الحركة المناهضة لحرب فيتنام في الستينيات والسبعينيات من توحيد صفوفها.
كما لم يقع المتظاهرون في فخ الانقسام الجيلي المزعوم كما وقع نظراؤهم في مصر، بل شهدت التظاهرات مشاركة من أعمار وأجيال مختلف؛ لا سيما من أبناء الأقلية السوداء.
https://youtu.be/MbH0FyV1wX8
فض المظاهرات في نيويورك
رابعًا: جاء رد الإدارة الأميركية على التظاهرات مشابهًا تمامًا لتلك الأنظمة التي طالما انتقدتها الخارجية الأميركية تحت مسمى حقوق الإنسان، إذ أطلقت يد قوات الأمن خاصة في العاصمة واشنطن لحماية البيت الأبيض منهم، ومارست تلك القوات بحق المتظاهرين العزل أشد أنواع وأشكال القمع والعنف، بل ذهب الرئيس الأميركي إلى ما هو أبعد من ذلك، ففي واقعة هي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد منذ الحرب الأهلية، قرر استدعاء الجيش لمواجهة المتظاهرين، متجاوزًا بذلك حدود سلطاته وصلاحياته الدستورية التي توجب أن يكون هذا الاستدعاء بطلب من حكام الولايات، وهو القرار الذي لاقى رفضًا من قبل قادة المؤسسة العسكرية الأميركي فضلًا عن سخرية مستخدمي مواقع التواصل، الذين أشاروا إلى ترمب لا باعتباره الرئيس المنتخب بل باعتباره «الطاغية».
ترمب يستدعي الجيش لمواجهة المتظاهرين
خامسًا: على عكس ما يتصور أصحاب نظرية «لا جدوى»، والذين لا يؤمنون بقدرة الشعوب على التغيير، استطاعت التظاهرات انتزاع بعض المكاسب على مدار أسبوع، كان أولها فصل رجال الأمن المتورطين في مقتل فلويد من الخدمة، ثم تطور الأمر مع اتساع دائرة المظاهرات إلى توجيه تهمة القتل غير العمد إلى رجل الأمن الذي قام بخنق المواطن الأسود، ثم انتزعت الحركة في أسبوعها الثاني مكسبًا آخر هو توجيه اتهامات لرجال الأمن الآخرين، الذين كانوا متواجدين في مسرح الجريمة لعدم منعهم زميلهم من خنق فلويد.
وأغلب الظن أن هذه الحركة لن تخفت قريبًا بل ستستمر خاصة مع انتشارها في الولايات الخمسين كافة، وتحولها إلى حركة عالمية تساندها تظاهرات مماثلة في لندن وأمستردام وغيرها من العواصم الأوروبية.