تقديم
اختار الكاتب والمحامي اليساري «حمدي عبدالعزيز» أن يكتب عن ذكري المحامي والمناضل الوطني الكبير «نبيل الهلالي» – التي تحل ذكري وفاته هذه الأيام – بطريقة مختلفة عن السرد التقليدي للمناقب والصفات واختار أسلوبا أقرب لأسلوب القصة القصيرة إذ اقتنص لقطة زمنية محددة من تاريخ مصر والعالم هي لحظة سقوط الكتلة الاشتراكية وتفاعله مع «نبيل» معها وحولها. في طريقه لهذه اللحظة يحكي من وجهة نظره جزءا قد يكون مخفيا عن التنظيمات الماركسية السرية وهي جزء من تاريخ مصر المعاصر -مثله مثل مثيلاتها من تنظيمات اليسار القومي والتنظيمات الإسلامية التي تكاثرت في هذه الفترة -من المفيد الإلمام به. كما يحكي الكاتب عن حدب ورعاية ودعم الهلالي لتلاميذه ومحبيه.
أصوات أونلاين
أحمد نبيل الهلالي
كان آخر لقاء بيني وبين أستاذي الجليل أحمد نبيل الهلالي في مقهى (إكسلوسيور) المجاور لسينما مترو الشهيرة في وسط البلد (القاهرة).
وكنت قد بدأت التردد على مكتبه في القاهرة منذ أن اخترت بعد تفكير طويل إنهاء علاقتي التنظيمية بالحزب الشيوعي المصري في آواخر الثمانينيات (وكان وقتها قرارا فى غاية الصعوبة على نفسى لما ترتب عليه من شعور بعض الرفاق بالخذلان فى شخصى المتواضع كشاب يحتاجه مستقبل الحزب ولكنه قد كان)،
كل ذلك كان فى سياق الأزمة العنيفة التي ضربت الحزب والخلاف حول طبيعة السلطة الجديدة التي أعقبت اغتيال السادات مباشرة وطبيعة التناقضات داخل هذه السلطة وظهور فكرة تمايز مؤسسة الرئاسة عن باقي أطراف النظام الحاكم، وكذلك الإصطفاف الطبقي في المجتمع المصري وتحول عملية الصراع الفكري التي فتحتها القيادة عبر صفحات دورية (الوعي)، وعبر المستويات واللجان الحزبية المختلفة إلى صراع تنظيمي لامجال لسرد تفاصيله ولست مؤهلا لذلك بحكم أنني كنت صاحب وجهة نظر مضادة لتقييم السلطة وطبيعة الاصطفاف الطبقى وقتها وقد عبرت عن ذلك أثناء النقاشات التى دارت فيما سمى بالصراع الفكرى داخل الحزب هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد كنت مجرد كادر وسيط من الكوادر الوسيطة المنتشرة في جغرافيا الأقاليم وتتلقى المعلومات المركزية بعد حدوثها بمدة نظرا لطبيعة وتعقيدات العمل السري وعدم وجود وسائل الاتصال الحديثة وكانت وسيلة الاتصال الوحيدة هي مسئول المنطقة أو المتابع المركزي وتلك عوامل كافية للفقر في المعلومات اللازمة لتناول مثل هذه الموضوعات بأمانة وشرف أخلاقي؛
اغتيال السادات والخلافات حول طبيعة السلطة بعده
وكنت التقى مع الأستاذ الهلالي في سياق تأسيس حزب الشعب الذي لم أكمل مسيرتي فيه وذلك لبزوغ قناعة أخرى داخلي بعد أن انصرفت من لقاء (اكسلوسيور) بحوالي شهر أو شهرين لا أذكر على وجه التحديد.
كان الاتحاد السوفيتي المأسوف على زواله قد بدأ طريق اللا عودة في التداعي والتفكك، وبدأت الأنظمة المسماة بالاشتراكية تتداعي في أوربا الشرقية بدءا من ظهور فاونسا في حوض بناء السفن البولندي (جدانسك) وقيادة التمرد العمالى على الدولة الإشتراكية فيما سمي وقتها بحركة (تضامن) ثم زيارة البابا البولندي الأصل إلى بولندا ودعمه لحركة تضامن. وصولا إلى توجه المتظاهرين في ألمانيا الشرقية نحو سور برلين لتحطيمه.
سور برلين
كانت الأحداث التي نستمع إليها عبر الراديو والتليفزيون تخلق فينا دهشة ممتزجة بالهلع في قلوبنا نحن الشباب المؤمن بالماركسية وبالحتمية التاريخية للإشتراكية وبالنموذج السوفيتي طريقا صحيحا وحيدا للإشتراكية؛
في اللحظة التي سمعت فيها من راديو (مونت كارلو) عن بداية التظاهرات في برلين اتصلت بالأستاذ الهلالي تليفونيا في بيته وطلبت لقاءا على وجه السرعة. وطبعا لم أذكر سبب طلبي للقاء لدواعي الأمان وهذا هو المعتاد بيننا في هذا الوقت.
تحدثت معه كقريب لموكل في إحدى قضايا مكتبه واتفقنا على موعد في المكتب وبمجرد أن دخلت عليه المكتب قال لي سننصرف الآن لنشرب القهوة في مقهى واصطحبني حتى مقهى (إكسلسيور).
جلسنا في الدور العلوي للمقهي وطلب الأستاذ لنا القهوة واقترحت التحدث في الشأن السياسي أولا قبل الشأن الحزبي المتمثل في مساعي تأسيس حزب الشعب
طرحت على الأستاذ السؤال مباشرة هل سيسقط سور برلين؟
وجاءت إجابته القاطعة كالتالي:
«لا لن تسقط الاشتراكية في ألمانيا الشرقية حتى لو سقطت في باقي دول أوربا الشرقية فالاشتراكية في ألمانيا الشرقية قد أسست تأسيسا صحيحا راسخا بحيث لن يتخلى الشعب الألماني عن اشتراكيته ولن يسمح بسقوط سور برلين».
وكان كلامه في هذا الشأن حاسما كيقين راسخ ثم انتقلنا إلى الشأن الحزبي فقال عليك أن تتصل (بفلان) فهو أحد المؤسسين معنا وتقوما بترتيب العمل فيما بينكما
كان (فلانا) هذا وقتها قد اشتهر (بالشاب المعجزة) لأنه كان يقود أحد التنظيمات الشبابية والذي كان له تواجد فعال في المنظمات الشبابية الدولية بغض النظر عن حجم هذا التنظيم الفعلي ومدى فعاليته على أرض الواقع المحلي.
وبما أنني كنت أعرف فلانا هذا وبيننا تعامل لم يكن موفقا بالمرة في مجال العمل الشبابي فقد حاول ان يضمني لتنظيمه الشبابي وكنت وقتها أحد قيادات اتحاد الشباب التقدمي (الذراع الشبابي لحزب التجمع) ودارت بيننا جلسات بناءا على توجيه مركزي من الحزب الشيوعي المصري ولم نصل إلى تفاهم مشترك ولم تعجبني طريقته في إدارة العمل الشبابي (وإن كنت احتفظ له على المستوى الشخصي وحتى الآن بكل الإحترام والتقدير والمودة)، وابلغت قيادتي في الحزب وقتها بأنني لم أصل بعد لقناعة بجدوى انضمامي لهذا التنظيم الشبابي وأنني أرغب في التفرغ لاتحاد الشباب التقدمي وبالفعل كان لي ذلك؛
خرجنا من مقهى اكسلسيور إلى أقرب محطة للمترو وأوصلني الأستاذ بتواضعه المعروف عنه ونبله الإنساني وطيبته الشديدة وكرم اخلاقه إلى محطة سكك حديد مصر وودعني.
وبعد هذا اللقاء بأيام كان سقوط سور برلين مدويا لدرجة أنني ظللت لمدة طويلة أشعر بأن ضربة شديدة من مطرقة حديدية ثقيلة قد نزلت على أم رأسي، عندها اتخذت قرارا بألا اتصل بالأستاذ ثانية ولا بغيره وأن اترك تماما العمل السياسي وأن اتفرغ للقراءة والمتابعة والتفكير في كل ماجرى من جديد، وألا أعود للعمل العام إلا بعد إعادة قراءة وفهم طبيعة كل ماحدث؛
لهذا شاءت المقادير للأسف الشديد أن يكون لقائي بالأستاذ الهلالي رحمه الله في (إكسلسيور) هو اللقاء الأخير والذي كان بمثابة وداع مبكر قبل رحيل قديس اليسار المصرى وأيقونته الخالدة، بعدها بما يزيد على العشر سنوات في الثامن عشر من يونيو ٢٠٠٦…
جنازة «نبيل الهلالي»