فن

رحيل “أيقونتي” السينما إيرين باباس وجان لوك جودار في أسبوع واحد

خلال الأسبوع الماضي؛ رحل عن عالمنا نجمان من أهم أيقونات السينما العالمية، وبالنسبة لي فهما من أهم أساتذة السينما الذين اشعلوا داخلي الرغبة في إدراك ما وراء الصورة من كوامن مدهشة، وكثيرا ما فجروا داخلي عناصر الشغف والانفتاح على حقائق اللغة البصرية؛ كلغة محسوسة ذات حروف غير مكتوبة؛ ولكنها مشعة بالرموز الحية والدلالات المتفجرة بالمعاني التي تشعل الروح وتنطلق بالفكر في آفاق مفتوحة السماوات ورحيبة الآفاق.

الأيقونة الأولي هي الممثلة اليونانية العظيمة إيرين باباس والتي اشتهرت لدي جمهور السينما في المنطقة العربية عبر أدائها في رواية كازانتكيس العظيم “زوربا اليوناني” وكذلك فيلمي “الرسالة”  و”أسد الصحراء عمر المختار” للمخرج الهوليودي السوري الأصل مصطفي العقاد، والفيلم البديع الرائع “زد” لواحد من أعظم مخرجي السينما المعاصرة، المخرج الفرنسي اليوناني الأصل كوستا جرافس.

إيرين باباس التي عرفناها بملامحها المشعة بالحكايات الإغريقية، كما لو كانت إحدى الوجوه الإغريقية التي استعصت علي الزمن، وظلت على حيويتها لتعيش إلى القرن العشرين والعقدين الأوليين من الألفية الثالثة.

 

وجه إيرين باباس وحده كان كفيلا بتفجير طاقات دلالية؛ تضفي على أدائها مهابةً وتألقا وعمقا دراميا استثنائيا؛ لدرجة أن إيرين باباس قلما لا نجدها في أي لقطة أو مشهد تظهر فيهما إلا وكانت تهيمن على كادر الشاشة، وتمنحه حرارة وتطلق عبره شحنات شعورية رائعة للمشاهد، بحيث لا نستطيع أن نقول أن إيرين باباس تألقت في فيلم كذا وفيلم كذا.. بل هي تألقت في كل الأفلام التي ظهرت فيها على تنوع واختلاف مساحات أدوراها السينمائية.

تلك هي إيرين باباس التي نعتها وزيرة الثقافة اليونانية؛ بكلمات لم تضف فيها جديدا عن ذلك الذي نعرفه جيدا عن إيرين باباس، ربما فقط أعطتها حقها حينما قالت عنها: “كانت مهيبة، فخمة، ديناميكية، وكانت تجسيدا للجمال اليوناني على شاشة السينما وعلى المسرح، نجمة عالمية مشعة قد رحلت”.

الأيقونة الثانية هي المخرج الفرنسي العالمي الرائع العظيم جان لوك جودار أحد أساطير السينما الفرنسية والعالمية، والذي ظهر كتجسيد لما كانت تفور به حقبة ستينيات القرن الماضي من فورات وثورات إنسانية.

فكما كان جودار أحد الرموز الفاعلة في انتفاضة مايو 1968، كان مفجر ثورة فرنسا السينمائية وأحد أهم رواد وعرَّابي الموجة السينمائية الفرنسية الجديدة التي امتدت تأثيراتها إلي السينما العالمية، وقد عُرفَ جودار بانتمائه لليسار وبمواقفه التقدمية، ففضلا عن كونه أحد العناصر المهمة لانتفاضة 1968، فله مواقف تقدمية مهمة منها مناهضته للصهيونية، ودفاعه عن القضية الفلسطينية لدرجة أنه وضع في فيلمه الوثائقي “هنا وهناك” الذي عُرض عام 1976، صورا للزعيم النازي هتلر إلى جانب صور جولدا مائير التي كانت رئيسة لوزراء الدويلة الصهيونية آنذاك، ومن شاهد أفلام جودار يعرف كيف أن جودار الثائر التقدمي قد أحدث ثورة نوعية كبيرة في السينما الفرنسية؛ ألهم بها فيما بعد كبار مخرجي السينما العالمية، بعد أن  استحدث طرق نقاش بصرية جديدة وجريئة للموضوعات والأفكار والقضايا التي تحتفي بها شاشة السينما، وغيّر من شكل السرد السينمائي؛ فشاهدنا أفلاما تكاد تمر جميع مشاهدها دونما أن تصاحبها أية موسيقي تصويرية، وشاهدنا طريقة قطع جديدة للمشاهد وانتقالات عبر “تسويد” الشاشة، ولقطات صامتة وأخري لاهثة متتابعة تتدفق بطريقة مدهشة تشعل الأسئلة، كذلك رأينا كيف حطّم جودار تقليدية عناصر القصة السينمائية (بداية فعقدة فنهاية) فقد وضعنا أمام سردية سينمائية جديدة؛ لا يشترط أن تكون فيها بداية الفيلم هي بداية القصة؛ فربما يبدأ الفيلم من نهاية القصة أو من نقطة العمق فيها وربما ينتهي ببدايتها، وهكذا قدم جودار سينما لا تلتزم ببداية ونهاية، وبدون ترتيب سردي يخضع لمنطق مسبق، وأصبح بذلك ملهما للعديد من السينمائيين.. ويكفي اعتراف اثنين من أهم مخرجي السينما العالمية بريادة واستاذية جان لوك جودار،  وهما المخرجان مارتن سكورسيزي، وتوينتو ترانتينوا اللذان قال كل منهما أنه تأثر في مسيرته بطريقة جودار.

فكما كان المنطق في سينما جودار كانت تفرضه فلسفة جودار.. نعم فلسفة.. فجودار جعل السينما تشتغل بالفلسفة، وتشتعل بالأسئلة الفلسفية؛ ولذلك كان هو من وجهة نظري فيلسوف السينما الثاني إذا ما اعتبرنا أن فيلسوفها الأول هو شارلي شابلن. وإذا كان جودار فيلسوف السينما الثاني بعد شابلن إلا أنه شاعر السينما الأول. فقد قدم سينما رائدة في تضفير لغة بصرية تشبه الشعر أكثر مما تشبه الرواية بمعناها الكلاسيكي.

جودار أقام بناءً بصريا ألهمت عناصره السينما العالمية؛ لدرجة اعتبار أن الموجة الفرنسية الجديدة التي كان جودار رائدها وأستاذها وفيلسوفها الأول، بالإضافة إلي الموجة الثانية والثالثة من الواقعية الإيطالية الجديدة، هما اللتان تقودان السينما العالمية الآن، وتشكلان معالمها الفنية والجمالية.. هذا إذا مانحينا جانبا سينما التفاهة والتسلية والترفيه التجاري الرديء التي تحفل بها غالبية أفلام هوليود وبوليود وما شابههما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock