في الحادي عشر من شهر يوليو من عام 1882م، وفي تمام الساعة السادسة صباحا، انطلقت مدافع الأسطول البريطاني المرابط في المياه الإقليمية المصرية لتقصف مدينة الإسكندرية، ولتبدأ تلك القوات احتلالها للقطر المصري الذي دام أكثر من سبعين عاماً.
أبناء الوطن
جاء القصف في ذلك اليوم، والذي طال المدنيين من سكان المدينة، ودمر عددا من أحيائها، وشرد أبناءها في أنحاء القطر، ليكون تتويجا لسياسة إستعمارية بريطانية استهدفت بالأساس إجهاض حلم راود المصريين على مدار عام كامل، قبل تلك الواقعة، وهو ببساطة أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم.
بدأ الحلم يتشكل مع بدايات عام 1879، حين أسفرت سياسة الاستدانة من الخارج التي انتهجها أول خديوي لمصر، إسماعيل باشا، عن نتائج بالغة الخطورة. فقد تراكم الدين الخارجي حتى بلغ نحو تسعين مليون جنيه مصري، وتحكمت الدول الدائنة، وخاصة بريطانيا وفرنسا في مالية مصر، من خلال تعيينهما مراقبيْن ينتميان إلى كلا البلدين لمراقبة تسديد الدين، بل دخل الوزارة التي ترأسها نوبار باشا وزيران أوروبيان.
كان السخط في صفوف الوطنيين قد أصبح على أشده، خاصة في أوساط أول حزب سياسي عرفه الشرق وهو «الحزب الوطني»، الذي تأسس في ضاحية حلوان بالقاهرة ،وكان في أغلبه من المتعلمين المتأثرين بجمال الدين الأفغاني وترددت في جنباته صيحة «مصر للمصريين».
وسرعان ما وصل السخط إلى الجيش وتحديداً إلى أمراء الجهادية – كما عُرفوا في تلك الفترة – وهم ضباط الجيش من المصريين الذين ترقوا من تحت السلاح، والذين عانوا من التمييز ضدهم على يد القادة الجراكسة والأتراك.
وفي فبراير من عام 1879، بلغ سخطهم مداه، بسبب سياسات حكومة نوبار والوزيرين الأجنبيين، التي سعت لتخفيض نفقات الجيش وإحالة عدد كبير من الضباط والجنود إلى الاستيداع. فخرج الغاضبون من معسكراتهم متجهين إلى مقر رئاسة الوزراء، وصبوا جام غضبهم على نوبار الذي أوسعوه ضرباً، وهو الموقف الذي استغله الخديوي إسماعيل ليستعيد بعضا من سلطاته، فأقال الوزارة المختلطة وعهد لنجله توفيق بتشكيل وزارة وطنية.
لم يهنأ إسماعيل بنصره طويلا، حيث استطاعت بريطانيا وفرنسا انتزاع قرار من السلطان العثماني بعزله، إلا أن هذا لم يوقف مسيرة الحلم، ففي فبراير من عام 1881، عاد سخط الجيش إلى الواجهة مرة أخرى بسبب سياسات وزير الجهادية عثمان رفقي الجركسي الذي كان يقدم بني جلدته على المصريين.
تزعم الضباط الشبان من أمثال أحمد عرابي وعبد العال حلمي ومحمد عبيد وغيرهم حركة تطالب بإقالة عثمان رفقي، وحين تمكنوا من انتزاع هذا القرار من براثن الخديوي توفيق، وتعيين واحد منهم هو محمود سامي البارودي، بدأت حركة أوسع وأشمل في التشكل.
اقرأ أيضا:
البكباشي محمد عبيد.. البطل المنسي عظيم الجاه via @aswatonline https://t.co/oL2HIpREgG
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 10, 2019
انتخابات برلمانية
وجد العسكريون حلفاء في الحزب الوطني وفي مكوناته المختلفة من المشايخ والأعيان والمتعلمين، لذا توسعت مطالب الحركة ولم تعد قاصرة على إصلاح أحوال المؤسسة العسكرية وإنما تعدتها إلى الحد من الحكم الفردي المتسلط والمطالبة بالـ «شورى النيابية».
أدرك أمراء الجهادية أنهم بحاجة إلى ظهير مدني، لذا شملت قائمة المطالب في الجولة الثانية من المواجهة مع الخديو وتحديداَ في سبتمبر من عام 1881 مطلبا واضحاً بدعوة مجلس النواب إلى الانعقاد. وكانت هناك رغبة حثيثة في جعل مجلس النواب الذي أنشأه إسماعيل عام 1866، مجلساً حقيقياً معبراً عن الشعب، لا ديكوراً برلمانيا كما أراده من أنشأه.
ورضخ الخديو للمرة الثانية، فأقال حكومة رياض باشا المستبدة وعين سياسياً اختاره الضباط لتاريخه المرتبط بالدستور والمطالبة بالحياة النيابية هو شريف باشا.
وأجريت الانتخابات البرلمانية في أكتوبر من نفس العام ورغم ما شابها من عوار نظراً لأنها لم تقم على فكرة التصويت الفردي بقدر ما اعتمدت على قيام عمد ومشايخ القرى بالانتخاب نيابة عن الأهالي، إلا أنها في نهاية الأمر أفرزت برلمانا معبراً بصدق عن رغبة المصريين في حكم أنفسهم.
صراع القوى.. وتسارع الأحداث
كانت الفترة ما بين افتتاح البرلمان، وما بين قصف الإسكندرية واحدة من أكثر الفترات ثراءً في تاريخ مصر من حيث حيوية الشارع وتسارع الأحداث السياسية. أرادت الحركة الوطنية بكافة مكوناتها برلمانا حقيقيا وأرادت وزارة شريف ومعها بريطانيا وفرنسا برلمانا محدود الصلاحيات وفي مقدمتها صلاحية مناقشة الميزانية. ومن هنا جاء أول شرخ في التحالف الهش بين الضباط وملاك الأراضي.
وعلى عكس ما يصور البعض حالياَ، لم يكن الصدام بين العرابيين وشريف باشا صداماً بين عسكريين ومدنيين، وإنما بين ثوار وإصلاحيين. كان شريف كغيره من الساسة الذين ينتمون في أغلبهم لفئة كبار ملاك الأراضي الزراعية لا يرون في الضباط سوى مطية يصلون من خلالها إلى الحكم ولا يرون في الشعب سوى «أطفال» على حد تعبيره. لذا كان من الطبيعي أن يرضخ، رغم كونه واضع دستور البلاد، لرغبة القناصل الأوروبيين ويرفض مناقشة البرلمان للميزانية.
هنا وفي خطوة تعكس إدراك أمراء الجهادية لجوهر الحياة النيابية، لم يسع هؤلاء إلى إسقاط شريف بالقوة العسكرية، وإنما ناب عنهم في هذه المهمة نواب البرلمان الذي وجدوا أنفسهم في وضع قوة منحهم من الجرأة ما يكفي للتوجه إلى الخديوى وتخييره ما بين أن يقيل الوزارة أو تستقيل هذه الأخيرة، في تطبيق تاريخي لمبدأ حجب الثقة.
وجاء البارودي بإرادة النواب والعسكريين إلى سدة الوزارة، وحظي البرلمان بدفعة جديدة من الثقة، فلم تقتصر المناقشات في المجلس على الميزانية فحسب، وإنما تعدتها إلى قضايا إجتماعية بحتة مثل تأسيس نظام تعليمي للجميع كما طالب النائب عبد السلام المويلحي.
عبد السلام المويلحي
وأثيرت قضية إلغاء السخرة، تلك التي كلفت المصريين آلاف الأرواح ،حين أُجبروا عليها في حفر قناة السويس، كما طالب النواب بانشاء بنك وطني لحماية الفلاحين البسطاء من المرابين الأجانب.
كان نموذج الدولة التي يسعى إليها العسكريون وحلفاؤهم من المدنيين والشعب من ورائهما، هي الدولة المدنية التي لا تفرق بين «إنسان وإنسان» على حد تعبير عرابي بسبب اللون أو الديانة أو العرق. وكان طموح الوطنيين –مدنيين وعسكريين- هو هدم النظام القائم وإقامة نظام مغاير تماما، أو كما أسّر البارودي للمستشرق البريطاني ويلفريد بلنت «فإن الهدف كان إنهاء حكم الخديوي المستبد وأسرته بشكل عام وإقامة جمهورية برلمانية على النمط السويسري»، بل زاد على ذلك أن أضاف إلى تلك «الجمهورية» المفترضة بعدا عربيا تمثل في الرغبة في ضم كل من الحجاز والشام إليها.
ويلفريد بلنت
وطرحت- وإن بشكل خافت- قضية استقلال مصر عن الدولة العثمانية وبلغت الجرأة بخطيب الثورة وأديبها عبد الله النديم أن يكتب صراحة في جريدة «المفيد» ليقول إن مصر أرض عربية ولا يجوز أن يحكمها تركي.
ويبدو أن هذا الحلم كان أكثر من قدرة الدول الاستعمارية الأوروبية على تحمله ،فتدخلت كل من فرنسا وبريطانيا وأرسلت كلتا الدولتين قطعاً من أسطوليهما إلى مياه الإسكندرية في حملة ترهيب واضحة لقادة الحركة الوطنية.
وبعد نحو ستة أسابيع من وصول هذه الأساطيل، وعلى طريقة قصة الحمل والذئب الشهيرة، تحجج قائد الأسطول الإنجليزي سيمور بأن المصريين يقومون بأعمال إنشاء في طوابي الإسكندرية مما يهدد قواته، وطلب وقف هذه الأعمال العسكرية.
وجاء رد القادة ساخرا من منطق الاستعمار ومصرّاً على المقاومة، وهو الرد الذي توقعه وأراده سيمور الذي حضر بالفعل لقصف المدينة قبل ذلك بأسابيع.
اقرأ أيضا:
عبدالله النديم… نفير الثورة العرابية via @aswatonline https://t.co/Y78BWhLHrR
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 10, 2019
كان سيمور يؤمن – بعنصريته البغيضة- التي وصلت لوصف المصريين بالـ «زنوج» – وبعنجهيته الاستعمارية – أن معركة كمعركة الإسكندرية لن تستغرق سوى نصف ساعة. وجاءته المفاجأة صاعقة، حين صمد المصريون لساعات طوال أمام قصف مدافعه. ولم تقتصر عملية الدفاع عن المدينة على الجنود وإنما انضم إليهم الأهالي رجالاً ونساءً، يضمدون جراح المصابين ويقدمون للجنود الطعام، بل وحمل بعضهم السلاح الذي سقط من أيدي الجنود الشهداء فاستخدمه الأهالى فى القتال نيابة عنهم.
هنا لجأ سيمور إلى أسلوب استعماري متأصل وهو استهداف المدنيين، فقصفت المدافع الإنجليزية أحياء المدينة غير آبهة بسقوط الضحايا، وزادت الخسائر في صفوف المصريين عن 700 شهيد، في حين كانت الخسائر محدودة في صفوف الغزاة الذين احتموا بالبحر ولم يهبطوا إلى البر إلا بعد تأكدهم من تدمير المدينة.
إضطر عرابي وجنده إلى الانسحاب إلى كفر الدوار وتدفق عليهم المتطوعون من كل حدب وصوب وكانوا في أغلبهم من الفلاحين الذي رأوا فيه قائداً وأملاً.
الدمار بقلعة قايتباي
ورغم الصمود الأسطوري في كفر الدوار، إلا أن تحالفاً بغيضا كان له دوره فى كسر هذا الصمود نشأ بين الغزاة والخديوى وكبار ملاك الأراضي مثل سلطان باشا رائد الحياة النيابية، الذى ألقى بذاته في معسكر الخديوي والبريطانيين وطالب بإبعاد قيادات الحركة الوطنية،.
وهو الأمر الذي دفع الفلاحين للاستيلاء على أراضي الخونة كسلطان باشا ووزعوها فيما بينهم في عملية إصلاح زراعي سبقت ثورة يوليو 1952 بـ 70 عاماً.
استخدم التحالف المعادي للثورة أخطر الأسلحة وأشدها فتكاَ: سلاح الذهب، وإستطاع بواسطته استمالة ضباط في الجيش مثل أحمد عبد الغفار وغيره ممن تركوا مواقعهم في معركة التل الكبير مذللين العقبات أمام الغزاة الإنجليز.
واكتمل الاحتلال بدخول الغزاة القاهرة في سبتمبر 1882 لتبدأ صفحة قاتمة من تاريخ مصرامتدت 74 عاماً حتى برز ضباط آخرون من صفوف الفلاحين وثأروا لما أصاب أسلافهم.
وتبقى الحقيقة التي تذكرنا بها مذبحة الإسكندرية هي أن عالم الشمال (أوروبا- أمريكا الشمالية) الذي يعايرنا نحن معشر شعوب الجنوب (إفريقيا- آسيا- أمريكا الجنوبية) ببعدنا عن الديمقراطية التي ينعم بها، هو ذاته الذي يجهض أي محاولة لتحقيق الديمقراطية الحقة في بلادنا، وأنه كان ولايزال أكبر داعم ومعين لقوى الاستبداد.