(… الحوار الموضوعي والشامل الذي دعا اليه الأستاذ ” لطفي الخولي ” وضم عدداً وافراً من مفكري اليسار ، ليحاوروا ويناقشوا الأستاذ ” توفيق الحكيم ” فيما ورد بكتيبه ” عودة الوعي ” الصغير الحجم والقيمة ، هذا الحوار الهام قيض الله له أن يكون أحد أهم الوثائق التي تُجسد رؤية اليسار بمختلف تياراته السياسية والفكرية ، بنشره عَلى صفحات مجلة الطليعة اليسارية الشهرية عَلى مدى سبعة أعداد ، ولكن الأهم هو ما ورد عَلى لسان الأستاذ ” الحكيم ” سواء خلال جلسات الحوار أو ما تضمنه البيان الختامي الصادر عن هذا الحوار ، فإنه يُمِثلْ تّراجُعاً لمفكرنا الكبير عّمّا ورد في كُتيبه السابق من آراء اتسمت بالخفة والتّسرُعْ عَلى غير ما هو معروف عنه من الفحص والدقة ، بل والحذر فيما يّكتُب !!
هذا الحوار الهام ، كان له نصيب آخر من النجاح الى حد الإكتمال ، فقد سارع الصحفي اللبناني الكبير ” فؤاد مطر ” العاشق لمصر والمُحب لليسار المصري ، بأن أصدر عن داره ” دار القضايا ” ببيروت ، هذا الحوار بين دفتي كتاب وصلت صفحاته الى ” 500 ” صفحة ، وتوافر فيه كل الأسس العلمية للنشر ، من اضاءة تعريفية بالمُشاركين ، فضلاً عن فهرس وكشاف تفصيلي بالأحداث والوقائع والتواريخ والشخصيات التي ورد ذكرها في هذا الحوار الخطير …
الصحفي اللبناني «فؤاد مطر»
الحوار دار عَلى تسعة جلسات ، كانت عناوينها كالتالي :
دراسة موضوعية وليس محاكمة الناصرية ، عن مصر المستقبل ، نقاط الاتفاق ونقاط الخلاف ، مع فكر الثورة ، سلبيات التجربة الناصرية ، ما الذي يبقى من الناصرية ؟ ، بحثاً عن الطريق المصري الى الاشتراكية ، الحرية والاشتراكية والوحدة ، ثم الجلسة التاسعة والأخيرة كان عنوانها ” مصر المستقبل في الزمان والمكان “، فضلاً عن البيان الختامي الصادر عن الندوة ، والذي تم صياغته من لجنة ثلاثية ضمت الأساتذة” توفيق الحكيم وخالد محيي الدين وأبو سيف يوسف ”
بمجرد الاطلاع العام على هذا الكتاب الوثيقة يُدرك القارئ ، أنه أمام نص تاريخي نادر ، فمن خلاله تستطيع معرفة أفكار ورؤية كل هؤلاء ، من مدارس اليسار المختلفة ، فضلاً عن رؤية الأستاذ ” توفيق الحكيم ” ، ولذلك سأتوقف عند محطات رئيسية مُحددة ، فلا مّفر لمن كان له اهتماماً بالحركة الوطنية المصرية سوى اقتناء هذا الكتاب – الوثيقة ، أو العودة لأعداد مجلة الطليعة الصادرة في تلك الفترة …
يبدأ الأستاذ ” لطفي الخولي ” بشرح الأسباب التي دعته للتفكير في ذلك الحوار مع الأستاذ ” الحكيم ” وأهمها تقدير اليسار المصري للرجل بوصفه أحد أهم أعلام الاستنارة في تاريخ مصر المعاصر والحديث ، ولذلك توجه بالطلب من كُل من ” خالد محيي الدين وتوفيق الحكيم ” أن يتحدثا في البداية ، وأن يقوم كل واحد منهما بعرض رؤيته ، وهو ما أسماه ، الأستاذ ” الخولي ” ب ” الفرشة الفكرية والسياسية “.
وهكذا تكلم ” خالد محيي الدين ” برؤية شاملة لم تتوفر حتى في مذكراته ” الآن أتكلم ” لأن حديثه جاء متجاوزاً تلك السنوات التي توقفت عندها تلك المذكرات ، قال :
” أنا في الحقيقة في غنى عن التقدير الكبير للأستاذ” توفيق الحكيم ” ، ولذلك لن أتوقف طويلاً عند هذه القضية ، أما بالنسبة لكتاب ” عودة الوعي ” فإنّ الضجة التي صاحبته وقت ظهوره ، ترافقت مع حملة شرسة من اليمين ضد عبدالناصر ، محاولة منهم لشطب التاريخ كله ، وبرغم أني اختلفت مع عبدالناصر في مارس ٥٤ وتركت مجلس قيادة الثورة ، لكن الموضوع هنا مُختلف ، هو موضوع التجربة الوطنية المصرية ، هذه قضية أخرى ، قضية تتجاوز خلافات الأفراد ، هي قضية وطن ومستقبل وشعب ” …
وأضاف ” محيي الدين ” قائلاً ” موجهاً حديثه للأستاذ ” الحكيم ” قائلاً له :
” انّ قبولك لتقييم التجربة ، وحديثك مع اليسار ، ينفي بتاتاً فكرة أنك تريد لليمين أن يستفيد من هذا الأمر ” …
وبعد ذلك التمهيد الإفتتاحي ، تناول الأستاذ ” خالد ” القضايا المركزية في مسيرة الثورة ومسارها وفكرها ومعاركها بصورة شيقة للغاية ، بقدر عالٍ من الموضوعية والصدق ، فضلاً عن يساريتها التي لا جدال فيها ، حيث تحدث عن الواقع السياسي والإجتماعي قبل ثورة يوليو ، والتكوين الطبقي والأيدولوجي لثوار يوليو ، والحديث عن العودة لدستور ٢٣ ودور عبدالرزاق السنهوري وسليمان حافظ ووحيد رأفت ، رجال القانون الذين استعانت بهم الثورة في محاولة لحل مشكلات دستورية وقانونية مُتعددة ، وكان من بينها خروج الملك وقوانين الإصلاح الزراعي ، ودور النُخبة المصرية غير المُرحبة بالديمقراطية ، وتحديداً جمعية الرواد ، والتي كانت تضم أسماء كبيرة مثل ، الدكتور أحمد حسين وعبدالجليل العمري وعباس عمار وفؤاد جلال وإسماعيل القباني ، وهؤلاء كانوا يعتبرون أن حكم الوفد ، هو ” حكم رعاع ” ليس فيه أي كفاءات ” …
ويصل ” محيي الدين ” في شرحه الرائع والوافي الى ظروف وملابسات صدور قوانين يوليو الاشتراكية عام ١٩٦١ وتأثيرها الخطير والجذري والثوري في الواقع المصري ، ودورها في بناء طبقة اجتماعية جديدة من العمال والفلاحين ، وهو مايُعرف بالطبقة الوسطى والتي تُعتبر تطوراً اجتماعياً كبيراً في حياة مصر ، طوال تاريخها الحديث والمُعاصر ، وذلك التغيير الطبقي الهائل والكبير الذي أحدثته مجانية التعليم من تّطور الوعي السياسي والثقافي ، فضلاً عن المساواة في تكافؤ الفرص الذي لم تعرفه مصر من قبل ” …
والآن أتكلم، لـ «خالد محي الدين»
بعد ذلك تكلم الأستاذ ” توفيق الحكيم ” فقال :
” أنا كنت مُتحمساً للثورة بإنجازاتها ، وأن عبد الناصر هو الرجل الذي انتظرته من ثلاثين سنة ، وكمان كنت غير راضٍ عن نظام الأحزاب ، ولذلك التقيت مع الثورة في وقت بدري ، في السنوات الأولى من قيامها ” …
غير أن الأستاذ ” الحكيم ” يكشف مدى قربه من الرئيس ناصر ، ليدلل عَلى صدق نواياه تجاه عبدالناصر ، بسرده لتلك الواقعة:
” بعد صدور الميثاق الوطني عام ٦٢ تحدثت الى بعض الأصدقاء لينقلوا كلامي الى الرئيس ، وقلت لهم ، أن عبدالناصر يتحمل مسؤليات لا يستطيع أن يتحملها فرد بمفرده ، فَلَو واحد حب يشتري بطيخة ، ولو طلعت قرعة ، يمكن يشتم عبدالناصر !! ، وقلت لهذا الصديق ، وهو من هؤلاء الأصدقاء المُقريبن من الرئيس ، لماذا لا تبلغه أن يُنظم ضغط الجماهير ، فيعمل حزبين ، والشعب عندما يغضب يَصْب غضبه عَلى الحزب الموجود في الحكم ، ويأتي بالحزب التاني ، وقد قيل لي أن كلامي هذا نُقٍلّ الى عبدالناصر ، فقال : لكن أخشى أن تحدث صراعات في البلد ويعطلون البلد ، ويصبخ شاغل كل حزب أن يحطم الحزب الآخر ، وزمان كان التطاحن في البلد بهذا الشكل ، وهو ده اللي خلانا نقوم بالثورة ، طبعاً بجانب حاجات تانية ” …
على مدى صفحات هذا الكتاب – الوثيقة والذي انتهى ببيان ختامي وافق عليه الأستاذ ” الحكيم ” وبوصفه واحداً ممن صاغه مع الأستاذين ” خالد محيي الدين وأبوسيف يوسف ” اتفق كافة المتحدثين عَلى مجموعة من المبادئ الوطنية والتقدمية الواضحة منها :
” أن الهدف الأسمى هو مصر ، وضمان بنائها ، وتأمين تقدمها ، وتحقيق الرخاء للغالبية العظمى من أبنائها ، لكل الطبقات الشعبية والوطنية ، ويؤكد المشاركون عَلى أن بناء دولة عصرية واشتراكية ، تستند الى قاعدة اقتصادية متينة من الصناعات الحديثة والزراعة المتطورة ، هذا البناء يجب أن يستند عَلى ركيزتين مُتلازمتين ، بالضرورة ، ومترابطتين : الأولى هي سيادة الديمقراطية ، والثانية : هي سيادة العقل .”
جميع المتحاورين ، تحدثوا بصدق وموضوعية وعلم ، محمد سيد أحمد بعبقريته ، وفؤاد مرسي بعلمه الراسخ ، ولطيفة الزيات بثقافتها الموسوعية ، وأحمد عباس صالح بعروبيته ، وعبدالعظيم أنيس بجذريته ، وأبوسيف يوسف بهدوه الإنساني وحكمته السياسية ، ومراد وهبه برؤيته الفلسفية الشاملة ، ثم لطفي الخولي بقدرته الفذة عَلى إدارة حوار خصب ووطني وتاريخي بين كل هؤلاء الكبار ….)
أحمد عباس صالح، لطيفة الزيات، خالد محيي الدين، عبد العظيم أنيس، فؤاد مرسى