رؤى

عبدالرحمن الشرقاوي.. في ذكرى الميلاد والرحيل!

“فلتذكروني لا بسفككُم دِماء الآخرين..

بل فأذكروني بانتشال الحق من ظفر الضلال..

بل فاذكروني بالنضال على الطريق..

كي يسود العدل فيما بينكم..

فلتذكروني عندما تغدو الحقيقة وحدها حَيْرَى حزينة..

فاذا بأسوار المدينة لا تصون حِمَى المدينة.

فلتذكروني عندما تجد الفضائل نفسها أضحت غريبة

وإذا الرذائل أصبحت هي وحدها الفُضلى الحبيبة..

فاذكروني”.

دعوة الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه وأرضاه، داعيا الأمة أن تتذكره عندما يضربها الظُلم ويعم الفساد.. علينا أن نتذكره لنعود إلى جادة الحق وحُسْن المآل، فهو يدعونا لكي ننهض بالحرية دفاعا عن الحرية.

نتذكر عبدالرحمن الشرقاوي، ذلك المُبدع الكبير والثائر النبيل، مؤلف “ثأر الله: الحسين ثائرا والحسين شهيدا” الذي تمُر ذكرى رحيله هذه الأيام.

أكثر من ثلاثة عقود غادرنا فيها هذا الحُرْ الشريف الشُجاع صاحب “محمد رسول الحرية و”علي.. إمام المُتقين” و”أئمة الفقه التسعة” ورواية “الأرض” و”الشوارع الخلفية” و”الفلاح” و”الفتى مهران” وغيرها وغيرها.

تحية لروحه الطاهرة في ذكراه، تحية له بحُسبانه المُبدع النبيل، الذي انحاز للعدل منذ رائعته الأولى “رسالة من أب مصري الى الرئيس الأمريكي ترومان” وهي عمل شعري نادر يُخاطب فيه الشرقاوي ضمير العالم والإنسانية بعدم اللجوء الى استخدام الأسلحة الذرية في قهر الشعوب، وذلك غداة  قرار الرئيس ترومان بضرب هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية!

رسالة من أب مصري الى الرئيس الأمريكي ترومان

شاءت إرادة الله العلي القدير أن يكون يوم ميلاد الأستاذ الشرقاوي، هو يوم انتقاله إلى رحمة الله بعد ٦٧ عاما قضاها في هذه الدنيا، حيث وُلدَ يوم ١٠ نوفمبر ١٩٢٠، وكان يوم رحيله ١٠ نوفمبر ١٩٨٧.

وشاءت إرادة العلي القدير أن أزوره في مكتبه بجريدة الأهرام في صيف العام نفسه الذي رحل فيه عن الدنيا وانتقل إلى رحاب الله.

ذهبت اليه أدعوه للمُشاركة في فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب، حيث كُنت أعمل وقتها في تلك الإمارة الجميلة، في إطار مشروع توثيقي لتاريخنا القومي الحديث والمُعاصر.

اعتذر الرجل بكل أدب عن تلبية الدعوة بسبب المرض ووهن الصحة الذي كان باديا عليه، مُحملا إياي التحية لصاحب الدعوة، وهو الرجل المُحِب للشرقاوي والحسين ومصر، الشيخ الدكتور “سلطان القاسمي” حاكم الشارقة وعضو المجلس الأعلى لحكام دولة الإمارات العربية المتحدة.

غير أنني لاحظت من الأستاذ الشرقاوي طيبة أبوية آسرة، وحالة من السلام النفسي يُشيعها عَلى الجلوس في رحابه، كان منهم وجوه أعرفها، وبعضهم أراه لأول مرة، مثل الدكتور فتحي عبدالفتاح مسئول قسم الأبحاث في جريدة الجمهورية، والذي تتلمذ على يديه جيل جديد من الباحثين الشباب، وكذلك كان من ضمن الحضور الأستاذ صلاح حافظ، أشهر رئيس تحرير يساري في تاريخ  الصحافة الأسبوعية العربية، ومن بينها رئاسته لمطبوعة “روزاليوسف” والتي أُطيح بالأستاذ الشرقاوي من رئاسة مجلس إدارتها معه، بعد أن جعلا من صفحات المجلة صوتا معبرا عن الانتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧، فقد استُبعِدَ الرجلان “الشرقاوي وحافظ” من “روزا اليوسف” بقرار من الرئيس “السادات”! فنقل الأول كاتبا مُتفرغا في مؤسسة الأهرام وبقيّ صلاح حافظ في مؤسسته، كاتبا عَلى “دكة” الاحتياطي، أو عَلى حسب الظروف، كاتبا من منازلهم!

انتفاضة الخبز 1977

كنت وقتها قد انتهيت للتو من قراءة “علي إمام المُتَّقِين” ملحمة الشرقاوي الأخيرة، ومسك الختام في حياته الحافلة بالإبداع والإيمان والذوب عشقا في رسول الله، وآل بيته الكرام.

لقد أبدع الشرقاوي حُبا وعشقا في حياة وشخصية ومسيرة هذا الإمام العظيم، حتى أن بعض الكتبة، ومُرتزقي شارع الصحافة المصرية، حاولوا تشويه الرجل بوصفه “شيعي المذهب صوفي الهوى”!

وبرغم أن الرجل، لا هذا ولا ذاك، فقد رد عَلى شيعة أبي لهب وأُبي ابن سلول بكلمة خالد الذكر سعد زغلول عندما أتهمه منافقي عصره، وبطانة الاحتلال البريطاني، بأنه “زعيم الرعاع” بأن قال لهم قولته الحاسمة : “هذه تُهمةٌ لا أنفيها، وشرفٌ لا أدعيه”!

يومها سألني الرجل بكل رقة ونقاء، ماذا قرأت لي؟

كان من الطبيعي أن أتحدث عن “عَلي.. إمام المتقين” وأبديت له مشاعر العذاب والحُزن التي تملكتني، عند قراءة سيرة هذا الإمام العظيم، ومدى ما تحمله من قسوة في العداء، وظلم ذوي القُربى، وانقلاب البعض من آل البيت عليه، فضلا عن خُبث وانحطاط الخصوم!

حكيت له، وأفضت في الحديث، حتى بدت الدموع في عيني!

لاحظ الأستاذ الشرقاوي – بحس أبوي نادر- تلك الحالة التي سيطرت عَلى مشاعري، ولذلك بادر، في محاولة منه لإخراجي من تلك المشاعر الفياضة، بسؤالي قائلا: “لم تقرأ لي سوى “عَلي.. إمام المتقين”؟

بادرت الأستاذ بابتسامة، وقلت له “هذا آخر ما قرأت لحضرتك، ولكن بحثك الرائع “محمد رسول الحرية” هو الكتاب الأول الذي أدخلني بكل حب إلى عالم عبدالرحمن الشرقاوي”.

بدت ابتسامة نقية عَلى وجه هذا الرجل الطيب والنبيل، كأنه وجد كنزا، أو مُنِح جائزة كُبرى! يومها أدركت أن المُبدع الحقيقي هو من يجد في كلمات قارئ له أعظم وأكرم وأهم الجوائز! وبدت لديه رغبة في أن يحكي، رغم ملامح الإرهاق البادية عليه!

قال: “هذا الكتاب له قصة مُهمة في حياتي، فقد كتبته في مطلع الستينيات، وعند عرضه عَلى جهاز الرقابة عَلى النشر، لم يُعلقوا عليه برأي، بل أحالوه الى إحدى لجان الأزهر الشريف، بدعوى عدم الاختصاص، وبعد نحو شهر جاءني الرد من احدى إدارات الأزهر بالرفض، مُعللاً لأسباب منع النشر، بأنني تناولت سيرة الرسول الكريم، كما لو أنه بشر!

وعندما أشرت إليهم بأن الأستاذ توفيق الحكيم قد نشر كتابه “محمد النبي البشر” ومسرحية “أهل الكهف” في الثلاثينيات، وأن الدكتور محمد كامل حسين نشر روايته “قرية ظالمة” عن السيد المسيح، في الخمسينيات.. لم يعترض أحد، وإن كان ثمة اعتراض، فقد أنصفهم القضاء، وسمح لهم بالنشر، والدليل عَلى ذلك أَن تلك الكُتب وهذه المؤلفات توجد في بيت كل مثقف وقارئ من عموم الناس”!

محمد النبي البشر

توقف الأستاذ الشرقاوي لبضع لحظات ليأخذ حبة من الدواء، أعتقد أنها لمرضى السُكر، مع انتباه ومُتابعة شديدة من كل الحضور، ومنهم  بعض العاملين في صالة تحرير الأهرام الشهيرة، حيث كان مكتبه يفتح عليها، فلم يكن الأستاذ الشرقاوي من سُكان  الدور السادس حيث كان يجلس الأستاذ الحكيم والأستاذ محفوظ، وبعض زملائهما، إذ كان يُنظر للرجل بأنه وافد عليهم!

استكمل الأستاذ الحديث، وفاجأني بما هو آتٍ، قال: “كانت مصر في ذلك الوقت تسعى لإقامة المجتمع الاشتراكي ومبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، والكتاب يتحدث عن تلك القضايا، وهذه القيم.. فماذا عساي أن أفعل؟ أخذت ورقة من عَلى مكتبي وبدأت في كتابة خطاب إلى جمال عبدالناصر، مُرفقا معه نسخة من مخطوط الكتاب، ونقلت له تلك الأسباب التي يرى فيها بعض شيوخ الأزهر الشريف أسبابا لمنع النشر! انتظرت لنحو عشرة أيام أو أكثر من ذلك قليلا، حتى فوجئت بالمخطوط، ومعه رد الرئيس، وقد ذُهلت من حجم الإشادة التي حملتها كلماته، ما يوحي أنه قرأ النص بأعلى قدر من العناية والاهتمام!

ولكن ما أثار عجبي ودهشتي حقا، هو تلك التوصية بأن يُطبع الكتاب، في مطابع “دار الشعب” بكميات كبيرة، وبأقل سعر مُمكن حتى يصل إلى كل قارئ مصري وعربي، كانت دار الشعب وقتها هي الدار المعنية بإصدار كتب التراث، والكتب الخالدة التي لا تقدر عليها المؤسسات الصحفية، أو دور النشر الخاصة، كانت الدولة ترى أهمية هذه الكتب كأهمية رغيف الخبز، فهي كتب عالية التكلفة، محدودة العائد المادي، كُتب وإصدارات مثل مقدمة ابن خلدون، وتفسير الإمام النووي، وعجائب الآثار، وكتاب الأغاني للأصفهاني، وغيرها وغيرها.. كانت تُباع مُسلسلة  وبقروش قليلة”.

كانت مظاهر السعادة تكسو ملامح وجهه النبيل، وكأن حالة الوهن في الصوت، والكلمات المُتقطعة التي بدت في أول الحديث، قد غادرته إلى غير عودة! عندها أدركت أن السعادة سببها، أنه يُخاطب واحدا في عمر أولاده، وليس في عمر من يعرفوه منذ زمن، وبعضهم صادقه، والآخرين نالوا شرف العمل معه، وفي ظل صُحبته، وجميل روحه، وعظيم إبداعه.. والإبداع لا يموت، وكذلك صاحبه، فما بالنا أن يكون عبد الرحمن الشرقاوي الذي انتصر للحق والعدل والجمال.. رحمه الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock