منوعات

في ذكرى رحيله.. محمد خان.. مخرج مصري!

بعد أن جاوز السبعين بقليل استطاع محمد خان الحصول على الجنسية المصرية عقب محاولات مستميتة استغرقت أغلب تلك العقود السبعة.. محمد خان فنان من المغرمين بمصر.. قاهري تسكن المدينة خلاياه.. تجري في دماه.. يعرف تفاصيلها على نحو مبهر.. يحتفظ لها في ذاكرته بآلاف الصور، وفي وجدانه بعشق يصل إلى حد الولع الكامل.. ذاكرته البصرية ملآى بالمشاهد السينمائية حافلة بـ “كادرات” تحوي تفاصيل مدهشة، منذ أن كان “خان” طفلا يتفتح وعيه في بيت يجاور دار عرض.. لكن شرفة المنزل لا تكشف شاشة العرض إنما مقاعد المتفرجين فقط؛ كان “خان” يشاهد العرض الأول للفيلم، ثم يجلس بعد ذلك منصتا في شرفة المنزل يستمع لصوت الفيلم مسترجعا الصورة السينمائية عدة مرات، ما تبقى من المشاهدة الأولى مضافا إليها آلاف التفاصيل والتصورات التي تبدعها مُخيِّلة الصغير.

كان ذلك في أربعينيات القرن الماضي وأوائل الخمسينيات واستمر هذا الشغف بالسينما لدى الطفل “خان” وزاد، فكان يجمع صور اعلانات الأفلام من الصحف، ويحرص على شراء صور الأفلام التي كانت تباع أمام دور العرض كوسيلة ترويجية، والاحتفاظ بكل ذلك في ألبومات حتى صار لديه أرشيف سينمائي خاص لا بأس به.

لا ينسى مخرجنا العظيم أنَّ الهندسة كانت عشقه الأول.. أحب أن يكون مهندسا معماريا؛ ليقدم إسهاما جديدا في هذا المجال، كانت لديه أفكارٌ خلاقةٌ، وقدرةٌ على عمل تصميمات تتسم بالفرادة.. كانت له جولات في شوارع القاهرة منذ أن كان دون العشرين.. عمارات وسط البلد.. العمارة الإسلامية في أحياء القاهرة الفاطمية، المباني التي تعتبر ذاكرة لكل عصر.. كل ذلك كان دافعا له ليصبح مهندسا معماريا على وجه التحديد خاصة بعد أن علم أنَّ المعماري هو المنسق بين مختلف التخصصات الهندسية وأنَّه بمثابة الأمين على الفكرة الأصلية والتصميم الأولي؛ وليس ذلك عن عمل المخرج السينمائي ببعيد.

لم يدرْ بخلد الفتى النَّابه أن يكونَ مخرجا سينمائيا على الإطلاق.. وفي عام 1956، سافر إلى إنجلترا لدراسة الهندسة.. في “لندن” تعرَّف على شاب سويسري يدرس الفنون، صارا صديقين..اصطحبه ذات مرة إلى مدرسة الفنون، انبهر “خان” بما رأى، وقرر على الفور دراسة الإخراج السينمائي؛ ليصبح مُخرجا.. وكان يظن فيما سبق أنَّ الأمر يعتمد على الموهبة والخبرة فقط.

ظلت الاستفادة التي حصَّلها “خان” من الدراسة في معهد السينما بـ “لندن” محدودة ولا تطفئ غُلَّته نحو المعرفة السينمائية، ما دفعه إلى التعرُّف على سينما الستينيات في أوربا.. أفلام الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، إلى جانب السينما التشيكية والهولندية اللتين قدمتا إنتاجا متميزا في تلك الفترة.. بالإضافة إلى الأفلام الأمريكية، وروائع كبار المخرجين مثل “فيدريكو فلليني” و”كيروساوا” و”مايكل أنجلو أنطونيوني” الذي تأثر به “خان” تأثرا دفعه لتغيير فكرته القديمة عن السينما.. فهي ليست مجرد “حدوتة” تُروى، كما كان لـ “أنطونيوني” أكبر الأثر في تحديد الاتجاه الذي اختاره “خان” رغم علمه أنَّ هذا الاتجاه لا يُنتج أفلاما جماهيرية.

خلال تلك الفترة حرص “خان” على متابعة كل ما يُكتب في النقد السينمائي بنهم شديد في فرنسا وإنجلترا، كما قرأ كل ما وقع تحت يديه من كتب تتناول الفنون السينمائية قديمة كانت أو حديثة.

أقام “خان” في إنجلترا سبعة أعوام متواصلة حتى عام 1963؛ ثم قرر العودة إلى القاهرة، وفور عودته عمل في الشركة العامة للإنتاج السينمائي العربي التي كان يديرها “صلاح أبو سيف”، في قسم القراءة والسيناريو، لكنَّه لم يستمرْ في هذا العمل لأكثر من عام.. إذ قرَّر السفر إلى “بيروت” للعمل كمساعد للمخرج “يوسف معلوف” ثم عمل بعد ذلك مع “وديع فارس” و”فاروق عجرمة” والمخرج اليوناني “كوستا جافراس”.. لكنَّ بقاءه في “بيروت” لم يستمر سوى عامين غادر بعدهما إلى “لندن” مُجددا.. وجاءت حرب يونيو 67 لِتُسقِطَ “خان” في هُوَّة اليأس والحيرة؛ فيترك السينما ويُنشئ دار نشر ويُصدر كتابين الأول عن السينما المصرية، وآخر عن السينما التشيكية.. واستمر خلال تلك الفترة يكتب المقالات السينمائية وينشرها في المجلات المتخصصة.

في تلك الأثناء التقى “خان” مُجددا بـ “صلاح أبو سيف” واستطاع بما حباه الله من خفة ظل، وقدرة على الإقناع أن يحصل على موافقة “أبو سيف” ليكونا شريكين في مشروع يدر عليهما عائدا ماديا كبيرا.. كان المشروع عبارة عن محل “فول وطعمية” اختارا له أسم “الأسطى حسن” لكن المشروع تحوَّل إلى نُكْتَةٍ يتذكَّرُها الصديقان كُلَّما التقيا بعد ذلك فيضحكان.

كانت أول أعمال “خان”  السينمائية في مصر- فيلما تسجيليا قصيرا بعنوان “البطيخة”.. هذا الفيلم على قصره  كان كاشفا  جدا لرؤية “خان” الإنسانية والفنية التي تضع العاديين والمهمشين، بل والفاشلين في بؤرة الضوء.

في أول أفلامه الروائية “ضربة شمس” عام 1980، يخرج “خان” بالسينما المصرية من ضيق الاستوديوهات والبلاتوهات والديكورات إلى شوارع القاهرة المزدحمة بالناس والسيارات.. يرى المشاهد بوضوح منطقة وسط البلد، بشوارعها ومحالها ومعالمها من خلال التجول مع “شمس” المصور الصحفي الموهوب فوق دراجته البخارية، وهو يُطارد تشكيلا عصابيا اكتشف أمره بالمصادفة، وأثناء الأحداث يُقتل زميل “شمس” ويتسمم صديقه الضابط، ويحاول المجرمون اختطاف خطيبته، قبل أن يُوقع بأفراد العصابة الواحد تلو الآخر.. وفي تجربته الثانية “الرغبة” عام 1979، يحاول “خان” الكشف عن آثار هزيمة يونيو –التي عانى منها شخصيا- من خلال “جابر” رجل الأعمال الذي حارب في يونيو، وأصيبَ وفقد قدرته الجنسية، وهو رغم ذلك يحاول استعادة حبيبته التي فارقها قبل عشر سنوات، وقد أصبحت زوجة وأمَّا.. والفيلم يرصد حالة الضياع التي دخلها جيل بأكمله اكتوى بنار الهزيمة، ولم يسعد بثمار النصر بعد أن دهست أحلامَه اتفاقيات الاستسلام في عهد الانفتاح الاستهلاكي.. اعتبر “خان” الكل فاشلين وعاجزين عن الفعل تجاه تلك الهجمة الشرسة.

ورغم أن تجربته الثالثة “الثأر” 1980، لا تحمل كثيرا من وهج “خان” وهو ما اعترف به.. فقد تخلى عن التفاصيل في رسم شخصياته، والاهتمام بجماليات الصورة، ولم تخرج المشاهد الخارجية على النحو الذي رأيناه في التجربتين السابقتين إلا أن الفيلم كان مميزا من الناحية التشويقية وفي جانب الحبكة الدرامية، وفي تناوله المبكر لظاهرة الاغتصاب التي ظهرت بشكل ملحوظ في المجتمع المصري.

في عام 1982، يقدم “خان ” “طائر على الطريق” عائدا بنا إلى سيرته الأولى في سبر أغوار شخصياته، وتلك المعاناة التي تلازم “فارس” طفل الملجأ الذي صار سائقا ماهرا وصاحب سيارة أجرة تطير على الطرق السريعة، و”فارس” رغم استقراره المادي، يشعر بالضياع ولا يتجاوب سوى مع فتاة تعمل بأحد محال وسط البلد، ولا تتورع عن سرقة صاحب المحل الذي يسرق، هو بدوره، زبائنه، بمضاعفة السعر عدة مرات.. لكن “فارس” الذي لا يأبه لشيء يقع فريسة عشق محرم لسيدة متزوجة تعاني تسلط زوجها الإقطاعي، ويسقط العاشقان في بئر الخطيئة وتنتهي حياة السيدة بالانتحار، كما تنتهي حياة “فارس” في حادث على الطريق.

ويقدم “خان” في نفس العام رائعته “موعد على العشاء” مُستمرّا في تقديم نموذج المرأة المقهورة أو المرأة السلعة التي تحاول التمرد على واقعها التعيس، بمحاولة التخلص من أسر الزوج المتسلط، وتنجح “نوال” في الحصول على الطلاق، بل تنجح أيضا في الزواج من الشاب الذي أحبته واختارته، لكن للأسف يُقتل الزوج علي يد الطليق، وتستمر الأحداث في التصاعد إلى أن تصلَ إلى موعد العشاء الذي تتخلص فيه “نوال” من طليقها ومن حياتها بتناول الطعام المسموم.

مما سبق من التجارب ومما سيأتي سنجد تركيزا كبيرا من “خان” على نموذج المرأة التي تعاني القهر بأنواعه.. قهر الزوج وقهر الاسرة وقهر المجتمع.. وسينما خان لا تقدم حلولا بقدر ما تطرح رؤى تجعل المشاهد أكثر قربا من الشخصيات التي تعاني الظلم ليكون هو مفتاح الحل إذا توافرت لديه الإرادة لذلك.

في نفس العام 1982 يقدم “خان” فيلم “نصف أرنب” راصدا التحوُّلات الكبرى التي اجتاحت المجتمع المصري عقب اعتماد سياسات الانفتاح الاستهلاكي، وصعود الطبقة الطفيلية إلى قمة المجتمع، ونتائج ذلك وتأثيراته الكارثية على الطبقات الأخرى وخاصة الطبقة الوسطى.

لا تخرج أفلام “خان” التالية عن خطه الذي بدا واضحا في الانحياز للمكان وجمالياته، وفي التركيز على المهمشين والفاشلين في المجتمع المصري المتأزم، مع الاهتمام بتفاصيل الشخصيات.. يقدم “خان” مع عادل إمام عام1983، أهم أفلام عادل إمام في وجهة نظر الكثيرين من النقاد، وهو فيلم “الحرِّيف” الذي يسبح فيه “خان” عبر الكاميرا مُجددا في شوارع وحارات المحروسة التي هام بها عشقا مع تشريح دقيق لشخصيات العمل، وعلى رأسهم “فارس” عامل مصنع الأحذية، ولاعب الكرة الماهر.. الفاشل في كل تفاصيل حياته بامتياز.

ويضرب “خان” الحديد وهو ساخن في العام التالي بفيلم هو أقرب إلى اللوحة الفنية التي تُظهر تمرد القاهرة –مدينته الحبيبة- على أهلها الذين شوهوا وجهها وطمسوا معالمها، وأغرقوها بالصرف الصحي وحولوها إلى كتلة قبيحة من الأسمنت.. إنَّ القاهرة في “خرج ولم يعد” تصرخ في الجميع.. غادروني- يرحمكم الله- ففي الدنيا متسع.

أما فيلم “مشوار عمر” عام 1985، فهو بمثابة مشوار جيل ضائع بين تناقضات عصر اغتالته المادة واضطر أبناؤه للبحث عن سبل الحياة مهما كانت التضحيات، فعمر الشاب الغني ضائع رغم الوفرة التي يعيشها، وعمر الشاب الفقير مسحوق تحت ضربات العوز والفاقة التي يعيشها.. وعودة لنموذج المرأة المقهورة نرى الفتاة الريفية التي تُمارس الدعارة وتخشى افتضاح أمرها بين أهل قريتها، ثم نموذج اللص قائد الشاحنة المهرب الذي يسرق المجوهرات ليجد الفتى الغني نفسه في النهاية على شاطئ بحر مهجور أمام سيارته الفارهة التي أصبحت حطاما.

في عام 1986 يقدم “خان” “عودة مواطن” راصدا الخراب الذي طال  أركان المجتمع المصري بعد هجرة المصريين للعمل في دول الخليج، من خلال بطل الفيلم العائد من “الكويت” بعد غياب سنوات ليجد أفراد أسرته قد ذهب كلُّ إلى غايته، ما بين الاكتئاب ،والعمل السياسي السري، والتكالب على المكاسب المادية، والزواج للهروب إلى حياة جديدة.. يجد البطل إخوته وقد صاروا إلى حال لا يستطيع حيالها فعل شيء فيقرر العودة إلى الخليج لكنَّه يعجز عن اتخاذ قرار العودة فيظل عالقا في المطار كأنما أصيبت إرادته بالشلل.

وفي العام التالي يقدم “خان” أهم افلامه على الإطلاق “زوجة رجل مهم” مُشرِّحا من خلاله شخصية رجل السلطة الذي لا يستطيع مواجهة الواقع بعد ضياع سلطته.. ثم يُقدِّم “أحلام هند وكاميليا” ليدخل عالم الخادمات، ويرينا فقرهن وحياة الذل اللاتي يعشنها مع أحلامهن المتواضعة في عيشة كريمة لا استغلال فيها ولا قيود.

وتتوالى أعمال “خان “الممتعة والتي تحمل وجهة نظره الفنية والإنسانية دون تنازلات، فيُقدِّم “سوبر ماركت” 1990، و”فارس المدينة” 1991، و”مستر كارتيه” 1992، و”الغرقانة” 1993، “يوم حار جدا” 1995، ويعود بعد انقطاع بفيلم “أيام السادات” في 2000،  ثم “كليفتي” في  2004،  (بتقنية الديجيتال) و”بنات وسط البلد” 2005،و”في شقة مصر الجديدة”2007، وفيلم “فتاة المصنع” 2014، وكان آخر أفلامه “قبل زحمة الصيف” 2015.

حصدت أفلام “خان” العديد من الجوائز، فنال “ضربة شمس” جائزة تقديرية ذهبية عن الإخراج الأول من مهرجان الإسكندرية السينمائي، وجائزة العمل الأول من جمعية الفيلم، وحصل “طائر على الطريق” على أربع جوائز منها جائزة لجنة التحكيم في مهرجان “نانت” بفرنسا، وحصل “نصف أرنب” على الجائزة الأولى مهرجان القاهرة الدولي ونال” الحرِّيف “جائزة تقديرية في مهرجان “برلين” وعرض في مهرجان “موسكو”، وحصل خرج ولم يعد على جائزة التانيت الذهبي بمهرجان “قرطاج” وغيرها من الجوائز.

ستبقى تجربة محمد خان السينمائية رائدة لدى كل المهتمين بالفن السينمائي، وبقضايا الإنسان والفنون بشكل عام رحم الله “خان” المخرج المصري منذ الميلاد.. الذي لم يحمل الجنسية المصرية إلا بعد أن جاوز السبعين، بسبب تعقيدات البيروقراطية المصرية التي كان مدركا تماما أنَّها إرثٌ من الواجب عليه  تحمُّل تبعاته كغيره من المصريين الأُصَلاء.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock