يعتبر تاريخ تأسيس الجيش المصري هو نفسه تاريخ الحركة الوطنية، فللجيش وظيفة أساسية وهي حماية إقليم الدولة،وبدونه لا يوجد كيان سياسي للمجتمع.
وقد نشأت الدولة المصرية القديمة في وادي النيل – بسبب قيام أمة مستقرة حول زراعة متطورة – لكن هذه الدولة زالت مع احتلال الفرس لها عام 525 ق.م. وتحول المصريون من شعب( people) له دولة إلى مجرد سكان ( population ) أو رعية. وكان السبب الأبرز لتلك الحالة هو أنهم فقدوا الجيش، الذي يحمي إقليم الدولة ويدعم سلطتها. فتناوبت الإمبراطوريات الهيمنة على مصر، الواحدة تلو الأخرى، فكانت كل إمبراطورية تسود العالم، تتجه للسيطرة على مصر، التي كان ينظر اليها كمزرعة كبيرة أو إقطاعية واحدة، يضعون يدهم عليها لما تدره من ثروة.
فكان اليونانيون هم من أخرج الفرس سنة 332 ق.م، ثم جاء دور الرومان فأخرجوا اليونانيين سنة 30 ق.م، واستمروا في حكم مصر حتى الفتح الاسلامي سنة 641 م، فأصبحت تُحكم من قبل ولاة شكلوا أرسطوقراطية من العرب ثم من غير العرب، ثم ممن استقلوا بحكمها كالطولونيين فالإخشيديين فالفاطميين فالأيوبيين فالمماليك فالإمبراطورية العثمانية. وفي كل تلك المراحل خرجت مصر كدولة من التاريخ.
ولذلك فالحديث عن الجيش المصري المعاصر، لا تمتد جذوره إلى الماضي السحيق، ولا يرتبط بصورة متصلة مع الجيش المصري في عهد الفراعنة. فكل من سيطر على مصر كان حريصاً على إبعاد الفلاحين عن الإمساك بالسلاح حتى لا يتطلعون للحكم. وكما سنرى لم يخب ظن هؤلاء الحكام والأرسطوقراطية الأجنبية، فبعد ستة عقود من التحاق الفلاحين المصريين بجيش محمد على، قام الجيش بثورة عرابي وكاد أن يخلع الخديوي توفيق ويعلن الجمهورية، وبعد سبعة عقود أخرى قام الجيش بثورة 1952 واقتلع حكم أسرة محمد علي نهائياً. وأعلن الجمهورية بالفعل. ولقد ترتبت على غياب أهل البلد عن الجيش طوال قرون نتيجتان:
الأولى: أن كل الدول التي قامت على أرض مصر، فشلت في الاستمرار- طال عمرها أم قصر- لأنها لم تثبت جذورها بضم أصحاب البلاد الأصليين لجيشها.
والثانية: أن غابت دولة مصرية عن التاريخ لنحو 2330 سنة، حتى أقام محمد علي مشروع دولته على ولاية عثمانية، حين ثار المصريون على الوالي العثماني خورشيد باشا عام 1805 بزعامة الشيخ عمر مكرم، ونصبوا محمد علي مكانه ورغم تمكنهم من عزل هذا وتولية ذاك، إلا أنهم لم يستطيعوا تولية مصري من بينهم لسبب وحيد وهو عدم وجود جيش لديهم يمكنهم من التصدي لقوة عثمانية سوف تأتي حتما لقمعهم.
محمد علي
عودة المصريين للجندية
حين بدأ محمد على سيطرته على مصر، وبناء مشروع دولته، تجنب الاعتماد على تجنيد المصريين، شأنه شأن سابقيه، خوفا من أن يظهر من ينازعه حق حكم المصريين. فكان جيشه يتكون من الألبان والأكراد والشركس والفرنسيين. وقد دخل به الحرب التي قضى بها على الدولة السعودية الأولى في الجزيرة العربية خلال الفترة (1811 – 1819) ثم فتح السودان عام 1820.
وبعد ذلك أسس مدرسة أسوان العسكرية في عام 1821، وحاول أن يجلب جنوداً لجيشه من السودانيين من كردفان وسنار ولكن التجربة فشلت فشلاً ذريعاً. فلجأ مضطراً إلى تجنيد المصريين عام 1822. بعد الاستغناء تدريجياً عن الجنود والفرسان الأتراك والأرناؤوط والمماليك. وهم من المرتزقة الذين لم يتعودوا تماماً على انضباط الجيوش النظامية الحديثة.
بدأ محمد على خطته في معسكر أسوان الذي جند فيه آلاف المصريين تحت إشراف مدربين فرنسيين وإيطاليين، كان أبرزهم الضابط الفرنسي «جوزيف سيف» الذي جاء إلى مصر عام 1819 وعرف فيما بعد باسم سليمان باشا الفرنساوي. ثم أنشأ محمد علي مدرسة المشاة في دمياط، ومدرسة الخيالة في الجيزة، ومدرسة المدفعية في طره، ثم أنشئت أكاديمية الأركان العامة عام 1826. وتُرجمت الأنظمة العسكرية الداخلية الفرنسية إلى العربية لتطبق في الجيش المصري الذي يسير على تنظيمات جيش نابليون تماماً. وكان الهدف الثاني هو بناء صناعة عسكرية حديثة تكون في خدمة الجيش، فأنشأ محمد على مصانع لصب الحديد بلغ إنتاجها 2000 طن من الحديد الزهر سنوياً، ومصانع للبارود، ومصانع للأقمشة والأشرعة والحبال والزيوت والصابون وغيرها. ثم بنى ترسانة الإسكندرية عام 1829، بعد تحطيم جميع سفن الأسطول المصري في موقعة نوارين. وفي يناير 1831 أنزلت إلى البحر أول سفينة ذات مائة مدفع.
نتائج مبهرة
لقي محمد على من المصريين مقاومة شديدة وتهربا من التجنيد باستخدام شتى الحيل في بادئ الأمر. فقد اعتبر الفلاحون التجنيد عملا من أعمال السخرة لا مبرر له، وساعدت تصرفات محمد علي على تأصيل هذا الشعور، فبدلا من ربط الفلاحين بالوطن مادياً عن طريق تمليكهم الأرض، اعتبرهم مجرد أجراء ينتفعون بأطيان الحكومة، فإذا تأخروا في تسديد ما عليهم من ضرائب، انتزعت الأرض منهم وأعطيت لغيرهم دون أي تعويض. وفي الوقت نفسه بدلاً من توعية الفلاحين المصريين وطنياً وقومياً لجأ محمد علي إلى القبض عليهم وسوقهم قسراً إلى المعسكرات. لكنه نجح في تجنيدهم في آخر المطاف، وقد حققوا نتائج مبهرة في حروب عديدة. وكان أول اختبار لهم المشاركة في قمع انتفاضة وهابية في عسير جنوب الحجاز وكان الجنود لم يستكملوا بعد منهج التدريب. ومع ذلك نجح 2500 جندي مشاة مصري في إلحاق الهزيمة بقوة وهابية تبلغ عشرة أضعافهم.
انتصارات الجيش المصري على الوهابيين
انتصارات وانكسارات
بعد أقل من عام كان 30 ألفاً يتدربون بالفعل في المعسكر الجديد الذي أقيم في بني عدي، القريبة في منفلوط في مصر الوسطى. في نفس الوقت شكلت في معسكرات أسوان ومنفلوط عشرة أورط (كتائب)، كل منها من 800 رجل، تكونت من السودانيين والفلاحين المصريين الذين جندوا في البداية من الصعيد.
خاض محمد على بعد ذلك ثلاث حملات كبرى، كانت الأولى في 10 يوليه 1824، حين توجه الأسطول المصرى بقيادة إبراهيم باشا إلى شبه جزيرة المورة اليونانية لمساندة الأسطول التركى فيما عُرف بحرب المورة، أو حرب الاستقلال اليونانية، وكان هذا الأسطول المصري يضم 73 سفينة حربية عليها 18 ألف محارب، وقد نزلت هذه القوات في جزيرة مورون عند ساحل خليج نافارين فى 16 فبراير 1825، وتمكنت من الاستيلاء على كل الساحل، قبل أن تتدخل بريطانيا وفرنسا وروسيا في المعركة التي عُرفت باسم معركة نافارين في 20 اكتوبر 1827، والتي انتهت بتدمير الأسطولين التركي والمصري.
ثم بدأت الحملة التالية الكبرى في أكتوبر عام 1831، حيث تحرك الجيش المصري من الخانكة بقيادة إبراهيم باشا قاصدا الحدود السورية. وفي نفس الوقت تحرك الأسطول المصرى من الإسكندرية واحتل غزة ويافا وشرع في حصار عكا في26 نوفمبر. كما حاصرها من البحر وتحرك في نفس الوقت لاحتلال المواقع المهمة في صور وصيدا وبيروت وطرابلس، كما احتل القدس. وكان الجيش كلما احتل بلدة استسلمت بدون قتال. وبعد معركة بعلبك عاود إبراهيم باشا زحفه على عكا التي استسلمت في 27 مايو 1832.بعد ذلك فتح دمشق ثم حمص ثم استسلمت حماة وحلب. ثم اجتاز الجيش المصرى الحدود السورية بعد واقعة بيلان ودخل ولاية أضنة من بلاد الأناضول حتى بلغ قونية ودارت معارك انتصر فيها الجيش المصري وأسر الصدر الأعظم. ثم احتل إبراهيم باشا كوتاهيا في فبراير1833، وهي على بعد نحو 250 كيلو متر من الأستانة. وعقد في أبريل 1833 الصلح المعروف بصلح كوتاهيا بوساطة فرنسية، ويقضي بأن يتخلى السلطان لمحمد على عن سوريا وإقليم أضنة، مع تثبيت مصر وكريت والحجاز مقابل جلاء الجيش المصري عن باقي بلاد الأناضول.
ابراهيم باشا
هل كان جيشا مصريا؟
وفي أبريل 1839 اتخذ السلطان العثماني محمود الثاني قراره الحاسم بمحاربة محمد على. ورغم الانتصارات التي حققها جيش محمد على على الجيش العثماني إلا أن الدول الأوروبية تدخلت وفرضت عليه في عام 1840 ضمن معاهدة لندن تخفيض الجيش البالغ عدده 250 ألف جندى إلى 18 ألفا أي أقرب إلى قوة أمن داخلي. لأنها كانت ترى أن سقوط الدولة العثمانية يتعارض مع مصالحها لأنها تمثل حاجزاً أمام الإمبراطورية الروسية.
والخلاصة أنه على الرغم من دور محمد على في وضع حجر الأساس لاستعادة الدولة المصرية وجيشها، إلا أنه لا يمكن اعتبار الجيش الذى أنشأه جيشاً مصرياً، رغم أن جنوده كانوا مصريين. فقادته لم يكونوا مصريين، كما أن الباشا لم ينسلخ عن هويته التركية، وكان توسعيا هدفه كرسي السلطنة ووسيلته مصر وفلاحوها.
نقاط انتصار الجيش المصري بفتح الشام في عصر محمد علي
(يتبع)