انشغل العديد من الفلاسفة بطرح فكرة التنوير واعتبر البعض أن القرن الثامن عشر يعد الممثل الحقيقي للعصر الذي اصطلح على تسميته بعصر التنوير والذي شهد تنامي حركة فكرية ثقافية عرفتها أوروبا وتميزت بالإحتكام إلى العقل، والإنتصار للعلم، والإيمان بالحرية والتسامح، والبحث عن السعادة والعمل من أجل التقدم والرقي ورغم مرور ما يزيد عن قرنين من الزمان على ذلك العصر إلا أن أفكاره وفلسفته مازلت محل تساؤل وجدل من قبل العديد من الباحثين.
المفكر الجزائري الدكتور( الزواوي بغورة) والذي أشتهر منذ إجراء رسالته الجامعية التي حملت عنوان: «مفهوم الخطاب في فلسفة فوكو» يقف مطولا في دراسته التي جاءت تحت عنوان: «ما التنوير؟ .. موقف ميشيل فوكو» عند فلسفة التنوير كما رآها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو «1926-1984» متتبعا مجمل إنجازه الفكري في محاولة لتقديم تصور نقدي لماهية فلسفة التنوير والحداثة كما طرحهما فوكو.
التحليل الفلسفي للتنوير
يستهل الزواوي بغورة طرحه لماهية التحليل الفلسفي للتنوير لدى فوكو بالإشارة إلى قراءة فوكو لنص كانط المعنون: «ما التنوير؟» .. ذلك النص الذي توقف عنده فوكو بالقراءة والتحليل في مناسبتين مختلفتين الأولى سنة 1983 والثانية سنة 1984.
الزواوي بغورة
يقدم ميشيل فوكو نص كانط مشيرا إلى أنه «لأول مرة، نجد فيلسوفا يقترح مهمة فلسفية تتمثل ليس في تحليل النسق أو الأسس الميتافيزيقية للمعرفة العلمية، ولكن في تحليل حدث تاريخي، حدث جديد، وآني» ذلك أن كانط عندما توقف ليطرح تساؤل «ما التنوير؟» عام 1784 كان يريد من وجهة نظر فوكو أن يتسأل: «ماذا يحدث الآن؟ ماذا يحدث لنا؟ ما هو هذا العالم وما هى هذه المرحلة وهذه اللحظة التي نحيا فيها؟ أو بتعبير آخر (من نحن؟) من نحن بوصفنا نعيش في زمن التنوير، وبوصفنا شهودا على هذا القرن؟».
يربط فوكو بين الحديث عن التنوير وتناول الحداثة مشيرا إلى أن الحداثة قد تم طرحها على أنها صراع بين القديم والحديث، وأن هذا الصراع قد أخذ صورتين، الصورة الأولى تمثلت في القبول بسلطة القدماء على المحدثين وعدم رفضها، والصورة الثانية تجسدت عبر عقد مقارنة مؤداها: هل القدماء أرقى وأفضل من المحدثين؟ وهل المرحلة الحديثة تعتبر مرحلة انحطاط؟
غير أن الجديد الذي طرحه كانط في نصه: «ما التنوير؟» قد تمثل في الخروج عن هذه الحالة من التقابل والتعارض فيما بين القدماء والمحدثين، وذلك عبر طرحه لمسألة الحاضر بوصفه قضية يجب البحث عن مكانتها ومعناها وما يجب القيام به نحوها .. بمعنى آخر إن نص كانط من وجهة نظر ميشيل فوكو يطرح تساؤلات تتمثل في : «ما هو الحاضر؟ ما معنى هذا الحاضر؟ وماذا على أن أفعل تجاه الحاضر عندما أتحدث عنه؟».
لم يكتف فوكو في قراءته لنص كانط عام 1983 بنص التنوير وإنما قارنه بنص آخر لكانط هو نص: «ما الثورة؟» الذي نشر عام 1798 كجواب على تساؤله الذي طرحه عام 1784 في نصه: «ما التنوير؟» .. فالثورة لدى كانط لم تكن بحد ذاتها علامة دالة على التقدم وإنما الحماس والتعاطف الذي تحدثه هو ما يدل على التقدم .. «إنها علامة على تأهب وإقبال أخلاقي للإنسانية».
يجمل الزواوي بغورة قراءة فوكو لنصي كانط: «ما التنوير؟» و«ما الثورة؟» مشيرا إلى أنه لا يجب البحث فيما يجب الإحتفاظ به من قيم التنوير أو إتخاذ تلك القيم نموذجا، وإنما يجب الإحتفاظ بالتنوير كإشكالية وسؤال دائم الطرح، ومن جانب آخر أسس كانط لإتجاهين رئيسيين في النقد، اتجاه يبحث في شروط المعرفة الحقيقية، واتجاه نقدي يبحث في حاضرنا وفي المجال الحالي للتجارب الممكنة.
من التنوير للحداثة
يعود فوكو لتحليل ذات النص لكانط: «ما التنوير؟» في العام التالي 1984 ولكن هل من جديد يقدمه في القراءة الثانية؟ .. تمثل الجديد الذي قدمه فوكو في قراءته الثانية في تأكيده على تلك العلاقة التي تربط بين التنوير والحداثة ومن ثم يطرح تساؤله عما إذا كانت الحداثة تمثل استمرارا واتصالا أم قطيعة وانفصالا مع التنوير؟
كانط
يحدد فوكو الحداثة بوصفها موقفا أو توجها أو خلقا، ويقصد بالموقف أو الخلق، نوعا من العلاقة مع الحاضر، ونوعا من الاختيار الذي نقوم به، وطريقة في التفكير والشعور، وطريقة في الفعل والتصرف والسلوك، تتميز بانتمائها وتظهر في شكل مهمة أو أداء، وعليه فإن الحداثة ليست حقبة أو خصائص، وإنما هى موقف وخلق يكون في نزاع أو صراع مع مواقف مضادة للحداثة.
قدم فوكو جملة من الخصائص والمميزات التي تميز هذا الموقف أو الخلق عبر تحليله لأحد أعمال شاعر الحداثة الفرنسي شارل بودليير وهو: «رسام الحياة الحديثة» مشيرا إلى أن بودليير حين تعرض لحركة الحداثة ووصفها بأنها عابرة وهاربة إنما أراد من ذلك أن يطالب القراء باتخاذ موقف من هذه الحركة، موقف إرادي من هذه الحركة العابرة والهاربة والعرضية، بحيث تصبح الحداثة نوعا من إرادة الإمساك أو عدم الإفلات وتعيين العنصر البطولي في الحاضر.
شارل بودليير
الحداثة عند بودليير وفقا لفوكو هى عبارة عن تمرين ودراسة للعناية بالواقع، ويتجلي ذلك في مجابهة الشاعر للواقع بممارسة حرة تتميز بكونها واقعية وغير واقعية في ذات الوقت لأنها تؤدي إلى تجاوز الواقع .
فالحداثة عند بودليير لم تكن علاقة مع الحاضر فقط وإنما هى علاقة مع الذات أيضا، وهو ذات المعنى الذي أشتقه فوكو من نص التنوير لكانط حين رأى في ذلك النص إحالة للحاضر وإلى علاقة الفيلسوف بهذا الحاضر.
هنا أكد فوكو على ما قد توصل إليه عبر دراساته المختلفة حول الأخلاق على أهمية التعامل مع الذات بوصفها شكل يتكون من خلال التجارب وأنه يتعين على البشر إدراك جماليات فكرة فنون الوجود أو الحياة ومن ثم ضرورة الحرص على جعل الذات بمثابة أثر فني يتحلى بالجمال .. إلا أن فوكو قد ذهب إلى أن بودليير لا يرى هذا التحويل والتشكيل للذات يحدث في الواقع الاجتماعي والسياسي، وإنما يحدث فقط من روجهة نظره في مجال معين ألا وهو الفن.
إجمالا: إن ما يميز رؤية ميشيل فوكو في طرحه للتنوير والحداثة من وجهة نظر (الزواوي بغورة )يتمثل في تحليله للعلاقة بين المعرفة والسلطة وذلك بغرض تحرير المعرفة من الهيمنة ،والإنسان من الخضوع والسيطرة .إضافة لنظرته إلى التنوير باعتباره مشكلة مطروحة، يجب أن نحللها إنطلاقا من علاقتنا بها، ذلك أن فوكو يؤكد على ضرورة التفكير في علاقتنا بالتنوير باعتباره مسألة أو سؤالا، إلى جانب ضرورة النظر إلى الحداثة بوصفها موقفا وخلقا يُعنى بإطلاق الحرية.
فوكو
مما يفرض على الفيلسوف والمثقف والإنسان عامة جملة من الواجبات ربما تكون قد تجلت آثارها في جملة الدراسات التي عُرِفَت بدراسات ((ما بعد الاستعمار ))والتي حاولت تقييم تجربة البلدان التي مارست الاستعمار و البلدان التي قاومت حتى نزعت عنها الاستعمار كليهما على حدا سواء.