ثقافة

التسامح يوفر نفقات الغضب وتكاليف الكراهية

مما يراه أ. د. رمضان بسطاويسي في كتابه ” التسامح ” الصادر ضمن سلسلة مفاهيم فلسفية عن مكتبة الدار العربية للكتاب بالقاهرة، أن مصطلح التسامح أثار تداعيات مختلفة، سواء على النطاق الفكري أو على صعيد الواقع العملي، خاصة وأن الحديث عنه قد كثر في السنوات الأخيرة كونه واحدًا من المفاهيم المستحدثة في اللغة العربية.في كتابه هذا يحاول بسطاويسي أن يعطي فكرة مبسطة ونقدية عن التسامح على حد قوله، ويؤكد هنا أن التسامح قيمة إنسانية ذات طابع عالمي، وقد ظهر مفهوم التسامح لحاجة المجتمعات الغارقة في الحروب والاقتتال الأهلي، وهو الذي أعطى تقدمًا باهرًا للمجتمعات والمؤسسات في الغرب، وحرر الإنسان من قيود الخوف، كما أرسى مفهوم التسامح قوانين أكثر إنسانية، وفرض على الدول أنماطًا جديدة من التفكير وإعمال العقل لاستنباط مخارج تُجنّب البشرية العنف والتعصب.

فكرة وإشكالية

في كتابه ” التسامح ” يقدم رمضان بسطاويسي لمحة مفاهيمية وتاريخية عن مفهوم التسامح، عارضًا لآراء ومفكرين مثل سقراط وجون لوك وجون ستيوارت مل وإيمانويل كانط وجون رولز، وفلاسفة السياسة المعاصرة الآخرين الذين ساهموا بشكل بارز في هذه الفكرة الهامة والتي تطرح إشكالية في الوقت نفسه.إن الذات السلبية في الإنسان، يقول الكاتب، هي التي تغضب وتأخذ بالثأر وتعاقب، بينما الطبيعة الحقيقية للإنسان هي النقاء وسماحة النفس والصفاء والتسامح مع الآخرين، والمغفرة هدية غالية رغم أنها لا تكلف شيئًا، وإن عرفنا حقائق الحياة سيكون بإمكاننا غفران معظم الأشياء، وإذا قابلنا الإساءة بالإساءة، فمتى تنتهي الإساءة؟  كما يحاول الإجابة عن عدة أسئلة تتعلق بقيمة التسامح ومنها متى ظهر مفهوم التسامح؟ وما هي حملة ” معًا ” التي أطلقتها منظمة الأمم المتحدة لتعزيز التسامح والاحترام والكرامة في جميع دول العالم؟ وما هي الدولة العربية التي أنشأت وزارة للتسامح؟

كذلك يقول بسطاويسي إن البعض قد يرى أن التسامح انكسار، وأن الصمت هزيمة، غير أن هؤلاء لا يعرفون أن التسامح يحتاج قوة أكبر من الانتقام، وأن الصمت أقوى من أي كلام، كما أن قوة الحب والتسامح في حياتنا يمكن أن تصنع المعجزات.الكاتب يرى كذلك أن التسامح قد يكون صعبًا في بعض الأحيان، وأن النفوس الكبيرة وحدها هي التي تعرف كيف تسامح.ومن نتائج التسامح أنه يثلج الصدور ويخفف الآلام، ويوفر نفقات الغضب وتكاليف الكراهية، وإزهاق الأرواح، وهكذا نرى أن التسامح هو الشكل النهائي للحب.أما الأصل في التسامح، حسبما يرى الكاتب، أن نستطيع الحياة مع قوم نعرف يقينًا أنهم مختلفون عنك، والإنسان لا يستطيع أن يعطي بدون الحب، ولا يستطيع أن يحب بدون التسامح، والغفران الحقيقي لا ينكر الغضب، لكن يوجهه، ومن يريد أمورًا تسع الجميع فهي التسامح والحرية ومنطق الحوار، ومهما تعلم الناس من فنون فلن يتعلموا شيئًا يشبه التسامح.

أ. د. رمضان بسطاويسي

فضيلة التسامح

ومتحدثًا عن مفهوم التسامح يعتبره أحد المباديء الإنسانية والأخلاقية، كما يعني نسيان الماضي المؤلم بكامل إرادتنا، وهو أيضًا التخلي عن رغبتنا في إيذاء الآخرين لأي سبب قد حدث في الماضي، وهو رغبة قوية في أن نفتح أعيننا لرؤية مزايا الناس بدلاً من أن نحكم عليهم ونحاكمهم أو ندين أحدًا منهم، وهو الشعور بالرحمة والتعاطف والحنان.ولا يفوت بسطاويسي هنا أن يذكر أن فضيلة التسامح مضمّنة في منهج الفيلسوف اليوناني سقراط القائم على السماح بالتعبير عن العديد من وجهات النظر المتنوعة للمخالفين له.

الفيلسوف اليوناني سقراط

أما في القرن التاسع عشر فقد تم تطوير مفهوم التسامح في أوروبا مع سعي المفكرين الليبراليين للحد من الإجراءات القسرية التي تعرضها الحكومة والكنيسة على الأفراد والطوائف، واعتبروا أن البشر معرضون للخطأ وينبغي أن يتمتعوا بالتواضع المعرفي.كما يُرجع الكاتب تاريخ التسامح الاصطلاحي في موطنه الأوروبي إلى أكثر من ثلاثة قرون مضت، غير أنه لم يأخذ صيغته النهائية إلا في أفق فلسفة التنوير التي صاغها مفكرون من أمثال فولتير وكانط وجان جاك روسو وغيرهم.أما انتقال هذا المفهوم إلى الثقافة العربية مع أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فقد ظل دائرًا في الأفق نفسه وظلت الصراعات الطائفية التي أدت إلى حروب أهلية، هي الأصل في نقل المفهوم والدافع التكويني إلى صياغة أو إعادة إنتاجه عربيًّا. الكاتب يذكر كذلك أن الثقافة العربية لم تستخدم كلمة التسامح التي يتم استخدامها في هذه السنوات مقابل كلمة الغضب، وإنما التي استخدمت كلمة قبول الاختلاف والصفح مقابلًا لمفردتيْ toleration و tolerance واللتين لا فارق كبير بينهما، وتدلان في سياقهما الثقافي الذي ينقل عنه الكيفية التي تعامل بها المرء مع كل ما لا يوافق عليه، فلا يعاديه لمجرد اختلافه، وإنما يتقبله بوصفه لازمة من لوازم الحرية التي يقوم بها معنى المواطنة في الدولة المدنية الحديثة.

          جان جاك روسو                                     فولتير

سرطان الكراهية

هنا أيضًا يصل الكاتب إلى القول بما أن الحاجة تدعو اليومَ إلى مواجهة ما يتصف به عصرنا من مواقف وسلوكيات تميل إلى التطرف وتمارس العنف، كما في فترات عديدة من التاريخ البشري، إلى بعث الحياة في القيم الإنسانية السامية وإخصابها ونشرها، فقد يكون من المناسب التدقيق في مفهوم التسامح الذي ينتمي إلى سجل الفضائل ومكارم الأخلاق التي تُمتدح في سلوك الشخص ويُنصح بالتحلي بها، وذلك بطرح العلاقة بين التسامح وكل من الدين والأيديولوجيا والسياسة والفلسفة.غير أن بسطاويسي يرى كذلك أن هناك ضوابط وحدود للتسامح، خاصة وأن هناك أشياء لا يمكن، بأي حال من الأحوال، التسامح فيها، وعدّد منها: الترويج لمعتقدات وأصول تهدد بنسف المجتمع، والأفعال التي تهدف إلى تدمير الدولة أو التعدي على أموال الآخرين، والولاء للحكام الخارجيين أي الخيانة.

في كتابه ” التسامح ” والذي يورد فيه بسطاويسي مقولة الفيلسوف الفرنسي إدجار موران التي يرى فيها أن التسامح ضرورة ديمقراطية، لأن الديمقراطية تتغذى من صراع الأفكار، وتندثر بصراع الأجساد، يكتب إلى جانب هذا عن النشأة التاريخية لنظرية التسامح وعن التسامح مع الذات وعن التسامح والدين الذي يعتبر مع التسامح السياسي، وعلى مر العصور، من أبرز جوانب مفهوم التسامح، سيما وأن الخلافات في الأيديولوجيات الدينية والسياسية قد تسببت في حروب وحملات تطهير وفظائع لا تعد ولا تحصى.مثلما يكتب عن قيم التسامح والتسامح في الخطاب الفلسفي وقيمة الاستقلالية وعن حدود التسامح مختتمًا كتابه بالحديث عن التسامح في الإسلام.منتهيًا، في الأخير، إلى القول بأن التسامح لا يمكن فهمه جيدًا إلا إذا وضعناه ضمن سياقه التاريخي، خاصة وأن الأفكار لا تنشأ في الفراغ ولا تنتشر إلا إذا كانت تلبي حاجة تاريخية معينة، وهو كمفهوم أخذ حيويته ومجاله في الغرب، بل إنه منظومة حقوق كاملة، وليس مجرد قيمة دينية أو أخلاقية فقط كما يتشدد الأصوليون دومًا، ومن ثم، يضيف الكاتب، إن أي مقاربة مفاهيمية أو فكرية بيننا وبين الغرب بالنسبة لهذا المفهوم تحديدًا هي مسألة حرجة وعويصة، إذ لا يزال التسامح هشًّا متلعثمًا في العالم العربي والإسلامي.وفي جملة واحدة يقول الكاتب إن التسامح يزيل سرطان الكراهية من نفوس الناس ويقدم لهم الدليل على أن العظماء ذاقوا المر من أجل التسامح، ودعوا إلى نبذ التعصب والعنف الذي يعمي العقول قبل العيون.

الفيلسوف الفرنسي إدجار موران

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock