مع الاحتفال بيوم المرأة المصرية والذي يخلد نضالها ضد الاستعمار البريطاني، ومشاركتها البارزة في أحداث ثورة 1919 وسقوط شهيدات خلال مواجهات عنيفة لهن ضد قوات الاحتلال، يبقى هذا اليوم المجيد فى ذاكرة الحركة الوطنية المصرية.
واليوم ونحن نحتفل بكل سيدة مصرية ساهمت عبر التاريخ فى صناعة قيمة وإضافة معنى إيجابياً نقترب من إسهاماتهن في صناعة السينما المصرية.
وعلى الرغم من مسيرة السينما المصرية التي تمتد لأكثر من مائة عام حتى الآن، قدمت خلالها ما يقرب من 5 آلاف فيلم سينمائي طويل، فإن مساهمة المرأة فى الصناعة ظل متواضعا جدا فيما يتعلق بمشاركتها خلف الكاميرا، خاصة فى الإخراج على عكس وجودها القوي أمام الكاميرا كممثلات شاركن فى الصناعة ولعبن دورا بارزا فى تطور صناعة السينما المصرية.
ولأن الإخراج السينمائي – حتى فى السينما العالمية – ظل مهمة ذكورية بقدر كبير إلا أن التاريخ يتوقف أمام نماذج نسائية خضن التجربة وامتلكن جسارة الإقدام على تلك المهمة الشاقة والصعبة جدا لما تتطلبه من جهد مضن وشاق.
ورغم قلة الأعمال التى قدمتها سيدات فى السينما الروائية الطويلة نجد العكس تماماً فى السينما التسجيلية والوثائقية التى ساهمت المرأة فيها بشكل مميز ونسبة كبيرة من الأعمال المهمة والمتميزة.
فقد شهدت مسيرة المرأة المصرية فى الإخراج السينمائي ثلاثة مراحل كانت الأولى مع جيل الرائدات الذى قادته “عزيزة أمير “(1901-1952) والتي تعتبر أول سيدة تقتحم مجال الإخراج السينمائي، وقد بدأت حياتها الفنية كممثلة ومغنية وحققت نجاحاً كبيراً وشهرة واسعة وكانت بطلة فرقة رمسيس المسرحية بقيادة يوسف وهبي.
فبعد 20 عاماً تقريباً من بداية صناعة السينما في مصر حيث قدمت “عزيزة أمير “أول عمل من إخراجها وإنتاجها عام 1921 وهو “بنت النيل “، الذي لعبت بطولته أمام أحمد علام وحسن البارودي وعباس فارس، كما أخرجت أيضا فى عام 1933 فيلم “كفري عن خطيئتك “.
وقد لقبت “عزيزة أمير “بلقب “أم السينما ” لأنها أول سيدة تقتحم مجال الإنتاج والإخراج الذي كان حكراً على الرجال دائما، وقد تعرضت لانتقادات حادة من صناع السينما حينذاك، كما تكبدت خسائر مادية فادحة، ثم جاءت تجربة “فاطمة رشدي” “1901_1996” بأول أفلامها “الزواج” عام 1933.
وكانت “عزيزة أمير ” واحدة من رائدات الإنتاج السينمائى فمن بين 25 فيلمًا أنتجتها، ظهر اسمها كمخرجة (بالاشتراك مع اَخرين) على تترات فيلمين فقط، بينما مثّلت في 23 فيلماً، وشاركت في تأليف 19 فيلماً، وقد كونت “ثنائي” مع المخرج محمود ذو الفقار الذي أخرج معظم الأفلام التي أنتجتها بعد زواجهما.
ثم “بهيجة حافظ” والتي دخلت للسينما من مدخل الموسيقى حيث كانت أول سيدة تقوم بوضع الموسيقى التصويرية للأفلام فى السينما المصرية، بعد أن درست الموسيقى فى فرنسا وعادت لمصر وأسست شركة “فنار ” للإنتاج السينمائي، وفى عام 1937 أخرجت فيلم “ليلى بنت الصحراء “، وكان مبهراً من حيث الديكور والموسيقى إلا أن الفيلم حقق، خسائر فادحة أدت لإفلاس شركة الإنتاج السينمائي.
وتعتبر تجربة “بهيجة حافظ ” هى الأنضج فى تلك المرحلة، وتميزت ربما لأنها الوحيدة التى درست الإخراج فى أوربا مما انعكس على أفلامها.
وفي العام نفسه أخرجت أمينة محمد “1908_1958” فيلم “تيتا وونج”، وكانت قد بدأت حياتها الفنية فى فرقة “رمسيس “بصحبة رفيقة مشوارها الفني الراحلة “أمينة رزق “، إلا أنها تركت التمثيل واتجهت للرقص الشرقي، وحققت نجاحاً كبيراً، وفى عام 1937 أنشأت شركة للإنتاج السينمائي “أمينة فيلم “، ونتيجة ضعف ميزانية الشركة قررت الاستعانة بوجوه جديدة هرباً من أجور النجوم المرتفعة، وقدمت فيلمها الوحيد (تيتاوونج) الذي شاركت في إخراجه وكتابته وفي تنفيذ كافة مراحله الفنية، وشاركها فى ذلك كل من صلاح أبو سيف وأحمد كامل مرسي وكمال سليم والفنانين التشكيليين صلاح طاهر وعبد الحميد الشريف، ومن خلال تلك الأعمال التي تمثل بدايات لاقتحام المرأة تجربة الإخراج السينمائي فإن بها مشكلات التجارب الأولى المعتادة، والتي لا يمكن تجاهلها خاصة وأنها خرجت فى ظل انتقادات متواصلة من صناع السينما الرجال، ودهشة من المجتمع ذاته رغم ما تحقق للمرأة من مكاسب اجتماعية وقانونية وارتفاع نسبة المرأة المتعلمة وحصولهن على مكاسب حقيقة سواء فى العمل أو المشاركة السياسية والاجتماعية.
إلا أن تجارب الجيل الأول من صانعات السينما أو مخرجات الأفلام الروائية ظلت محاولات مرتبكة وغاب عنها انحياز واضح لقضايا المرآة، رغم رصدها الدائم – فى تلك الأفلام – للهيمنة الذكورية القاسية ورغبة بطلات الأفلام – أحيانا – في التخلص منها لكن الملاحظ أن معظم تلك الأعمال كانت تنتصر للتقاليد ورغبات المجتمع، ولم تمتلك القدرة على الصراخ ضد ما يكبل المرأة من قيود صنعتها ثقافة ذكورية سادت المجتمع، وذلك رغم كل الخطوات الإيجابية التي تحققت ورغم التضحيات التي قدمتها المرأة في النضال الوطني والتي غابت عن صناعة السينما – النسائية – حينذاك.
وقد وقعت تلك التجارب المؤسسة لصناعة السينما النسائية أسيرة لحسابات – الجمهورعايز إيه – ومن ثم غابت عنها القضايا التي تشغل المرأة والاشتباك مع تقاليد ومفاهيم يجب مواجهتها وتغييرها.
وعلى الرغم من رصد تلك الأعمال الأولى لقسوة المجتمع ضد المرأة خاصة فيما قدمته بعض الأفلام إلا أن الانحياز الرئيسي الذي غلب على تلك التجربة الرائدة هو الميل إلى التراجيديا والميلودراما التقليدية والخوف من الصدام مع السياق السائد للمجتمع، وتتحسس خطواتها فى الإخراج السينمائي الذي اقترن دائما بالإنتاج فلن نجد عملا واحدا قمن بإخراجه دون أن يكون من إنتاجهن وذلك دال على رفض المنتجين حينها الاستعانة بمخرجات بما فيهن المنتجة الكبيرة “آسيا داغر ” التي أسست شركة أنتاج سينمائي كبرى عام 1927 وهى شركة “لوتس ” التى قدمت عشرات المخرجين فى السينما المصرية، من بينهم هنري بركات وحسن الإمام وكمال الشيخ وغيرهم إلا أنها لم تقدم مخرجة واحدة ولم تنتج عملا لواحدة من رائدات السينما المصرية ويمثل ذلك بالقطع عبئاً إضافياً على رائدات الإخراج السينمائي، ولم يشفع لهن الابتعاد عن الصدام أوعدم تبنى رؤى ثورية ضد الواقع المعادى للمراة أو الانحياز لتصورات تعزز من دورها المجتمعي وتنتصر لمطالب التحديث والتطور.
لم يشفع كل ذلك أمام ما لحق بهن من خسائر مادية كبيرة تسببت فى إفلاس بعضهن من “أمينة محمد ” و”بهيجة حافظ “.
لكن السينما المصرية كسبت بجسارة المرأة في اقتحام مجال الإخراج السينمائي للأفلام الروائية الطويلة، وسجل تاريخ المرأة المصرية قدرتها على المغامرة وتحمل أعباء الإنتاج والإخراج بشكل مبكر جداً.
ولم يكن من الممكن أن تظهر مخرجات مميزات يحملن راية السينما الجادة جنباً إلى جنب مع مخرجين سوى بتلك المبادرة الرائدة والجسورة لجيل العشرينيات والثلاثينيات من المخرجات الأوائل في مسيرة السينما المصرية.